العدالة الاجتماعية والانتفاضات العربية

تستند سلسلة المقالات هذه إلى بحث تَشارَك في تأليفه كلٌّ من أماني الجمل من جامعة برنستون ومايكل روبنز من "الباروميتر العربيّ". وقد أصدر البحث "برنامجُ العدالة الاجتماعيّة وسياسات التنميّة" في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة ببيروت، بالتعاون مع مركز ممدوحة س. بوبست للسلام والعدالة في جامعة برنستون، وذلك بتمويل من مؤسسة إلمِر
2015-04-30

شارك
خلود سباعي - سوريا

تستند سلسلة المقالات هذه إلى بحث تَشارَك في تأليفه كلٌّ من أماني الجمل من جامعة برنستون ومايكل روبنز من "الباروميتر العربيّ". وقد أصدر البحث "برنامجُ العدالة الاجتماعيّة وسياسات التنميّة" في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة ببيروت، بالتعاون مع مركز ممدوحة س. بوبست للسلام والعدالة في جامعة برنستون، وذلك بتمويل من مؤسسة إلمِر وممدوحة بوبست في نيويورك. وينشره  "السفير العربي" على حلقات بالاتفاق مع منتجيه.

نظرة عامة

تَعني العدالة الاجتماعية في جوهرها خلق مجتمع عادل أو متساوٍ يكفل معاملة جميع أعضائه بالمثل، ويحترم حقوق الإنسان، ولا يعرف تمييزاً على أساس الانتماء إلى جماعة أو غيرها من أشكال الهوية. بعبارة أخرى، تعني العدالة الاجتماعية توفير المساواة، أو الفرص المتساوية على الأقل، لجميع أفراد المجتمع.
كثيراً ما تركّزت احتجاجات "الرّبيع العربي" على قضايا متعلّقة بالعدالة الاجتماعية. وطالب المتظاهرون بحقوقهم الاقتصادية والسياسية والإنسانية، وبأن تحاسِب الحكومات أولئك الذين ينتهكون هذه المبادئ. وفي البلدان التي شهدت تغييراً لقياداتها ــ بما في ذلك مصر وتونس ــ وعدت الحكومات الجديدة بتفعيل سياسات تركّز على العدالة الاجتماعية. أمّا الأنظمة التي نجت من "الربيع العربي" فمررت إصلاحات أو اتخذت إجراءات أخرى بهاجس أن تتدارك، ولو جزئياً، ما في مجتمعاتها من ضروب عدم المساواة الأساسية.
السؤال المطروح هو: هل أدّى "الربيع العربي" إلى خفض عدم المساواة في مختلف أنحاء المنطقة؟ هل يعيش المواطنون في ظل حكومات جديدة أكثر إرضاءً من تلك الأنظمة التي عاشوا في ظلها أمداً طويلاً؟ مثل هذه الأسئلة أساسية لتحسين نوعية الحكم في أنحاء المنطقة، فضلاً عن إمداد صنّاع السياسة بالأدوات اللازمة للدفع في مسار من الإصلاح المتواصل الذي يلبي احتياجات المواطنين العاديين.
توفّر نتائج المسوح التي أجراها "الباروميتر العربي" على عيّنات على المستوى الوطني فرصةً للتبصّر في هذه الأسئلة. فقد أجرى، على ثلاث دورات، ما يقرب من 35.000 مقابلة في 14 بلداً. كانت الدورة الأولى في 2006-2007 لقياس المواقف قبل فترة لا بأس بها من انطلاق تلك الأحداث، عندما كان مواطنو معظم البلدان يواصلون سنوات طويلة من العيش في ظلّ حكم سلطوي. وبدأت الموجة الثانية في أواخر عام 2010 واستمرت خلال عام 2011، ما يعني أنها امتدت في أثناء أحداث الربيع العربي. أمّا الموجة الثالثة والأخيرة فبدأت في أواخر عام 2012 وتواصلت حتى أوائل عام 2014، ما يوفّر تبصّراً في القناعات والمواقف بعد تلك الوقائع الجسام.
تشير النتائج، بوجه عام، إلى أنَّ البلدان العربية لم تحقق في قضايا العدالة الاجتماعية سوى تقدم محدود في عدد من المناطق، وإلى أنَّ الشوط الذي يتعيّن قطعه لا يزال طويلاً. فما يجنيه معظم المواطنين من دخل لا يكفي لتلبية احتياجاتهم، ولا تزال المخاوف الاقتصادية تلقي بظلّها على القضايا السياسية والاجتماعية في أنحاء المنطقة. وتبقى معدلات البطالة مرتفعة، خصوصاً بين الشباب، ما يخلق لدى كثير منهم الرغبة في الهجرة.
وعلى الرغم من المطالبة بوضع حدٍّ للفساد، ترى الغالبية العظمى من المواطنين في أنحاء المنطقة أنَّ الفساد لا يزال مستوطناً. كما يعتقد معظمهم أنَّ الواسطة ـ أو استخدام الروابط العائلية أو القرابية - لا تزال لها الأهمية نفسها التي للمؤهلات في الحصول على العمل الحكومي، هذا إن لم تكن تفوقها مرتبةً. غير أنَّ المواطنين في تونس واليمن ـ وهما بلَدان ترك فيهما الربيع العربي أشدّ الأثّر ـ باتوا يعتقدون أنَّ الواسطة صارت أقل أهمية مما كانت عليه قبل هذه الحوادث. ويبدو أنَّ الحكومات الجديدة بدأت تعالج مشكلة الفساد، وإن تكن لا تزال بعيدة عن حلها.
كانت لدى معظم الجماهير العربية، في لحظة "الربيع العربي"، قناعةٌ بأنَّ المسؤولين الحكوميين لا يهتمون لاحتياجاتهم ولا يأخذون آرائهم على محمل الجدّ. لكن حوالي نصف هؤلاء أو أكثر كانوا يعتقدون أنَّ بمقدورهم أن يؤثّروا في السياسات الحكومية. وإذا كان من المرجح أن يرى المواطنون المصريون والتوانسة واليمنيون ـ البلدان الثلاثة التي أسقط الربيع العربي زعماءها ـ أنَّ بمقدورهم التأثير في حكوماتهم في 2011، فإنَّ كثيراً من مواطني البلدان الأخرى يرون أيضاً أنَّ لديهم مثل هذه القدرة، ربما لاعتقادهم أنه من الممكن التأثير في السياسة بوسائل غير رسمية مثل الاحتجاجات والتظاهرات.
بيد أنَّ قلّةً من المواطنين العرب هم الذين يقيّمون حكوماتهم أو حال الديموقراطية وحقوق الإنسان فيها على نحو إيجابي. وفي معظم البلدان، انخفض تقييم الحكومات منذ "الربيع العربي"، وهذا ما يصحّ في مصر خصوصاً، حيث انخفض الدعم 38 نقطة في الفترة من حزيران/يونيو 2011 إلى أيار/مايو 2013. غير أنّه لم يكن ثمة تغيير يُذكر في تقييم الديموقراطية وحقوق الإنسان بمرور الوقت، ما يشير إلى أنَّ عدم الرضى عن النظام يرتبط بقضايا أخرى مثل الفشل في تحسين الجوانب الاقتصادية أو في معالجة الفساد على نحو جدّي.
في ضوء هذه النتائج، ثمة حاجة ماسة للإصلاح في جميع أنحاء المنطقة. معظم الجماهير العربية ترى التدخل الدولي عائقاً أمام الإصلاح. وهذا الإدراك يتزايد بشدّة، ربما بسبب الدور المتزايد الذي قام به فاعلون إقليميون مثل قطر وتركيا والمملكة العربية السعودية بعد "الربيع العربي". وعلاوة على هذا، فإنَّ نسباً أعلى من مواطني معظم البلدان العربية ترى أن الصراع العربي الإسرائيلي يشكّل عائقاً أمام الإصلاح قياساً بما كان عليه الحال في السنوات الماضية، ما يؤكد على ضرورة إيجاد حل ذي مغزى لهذه المسألة.

خلفية

وضعت تظاهرات "الربيع العربي" قضايا العدالة الاجتماعية في الصدارة. وكان من أبرز هتافات ميدان التحرير في القاهرة ذاك الذي يقول: "عيش، حرية، كرامة إنسانية". كما سُمعت هتافات مماثلة إنما بصيغ أخرى في عواصم المنطقة ومدنها. وبدلاً من الدعوة إلى نظام سياسي معين أو إلى مجموعة من الإصلاحات، فإنَّ أولئك الذين نزلوا إلى الشوارع راحوا يطالبون بالعدالة الاجتماعية في أوسع معانيها: العدالة الاقتصادية، والعدالة السياسية، وحقوق الإنسان الأساسية للجميع.
قبل "الربيع العربي"، كانت الغالبية العظمى من البلدان العربية تعاني حكماً سلطوياً مديداً ومتواصلاً. ومع أنّ سنوات ما بعد الاستقلال صاحبتها فترات من النموّ الاقتصادي الكبير، بات الركود الاقتصادي في ثمانينيات القرن العشرين هو المعيار المعتاد. وفي أواخر تلك الثمانينيات، تبنّى كثير من هذه البلدان على مضض بعض "الإصلاحات الاقتصادية". وسمح بشيء من الانفتاح السياسي المحدود. غير أنَّ هذه الفترة من اللبرلة فشلت ولم تُفضِ إلى تغيير يُذكر. أدّى ذلك "الإصلاح" إلى نشوء رأسمالية المحاسيب حيث يسيطر النظام على معظم المصالح الاقتصادية. وفي بعض الحالات مثل مصر، امتلكت النخبة العسكرية قطاعات واسعة من الاقتصاد، في حين شهدت حالات أخرى مثل تونس تحكّم الحاكم وعائلته بحصة هائلة من النشاط الاقتصادي. وباتت السلطة الاقتصادية متركزة، في كلتا الحالتين، في أيدي النخبة أو المرتبطين بها، ما أدّى إلى سوء متزايد في أوضاع الجماهير الاقتصادية. وتزامن هذا التدهور في النتائج الاقتصادية مع وفود عدد هائل من الشباب إلى سوق العمل، حيث قدّر البنك الدولي في عام 2004 أنَّ المنطقة بحاجة إلى خلق 100 مليون فرصة عمل جديدة خلال 15 عاماً لمواكبة الطلب على العمل فحسب.
وعلى المنوال نفسه، كانت النتائج السياسية محدودة. وسرعان ما عُكِسَت تلك التجارب المقتضبة التي شهدت انتخابات حرة ونزيهة في الأردن والجزائر في 1989 و1991. وكذا كان حال الانفتاح المماثل في مصر بعد أكثر من عقد من الزمن. ومنذ ذلك الحين لم يُعْطَ المواطنون حقّ أن يكون لهم رأي مباشر لا يعوقه شيء، أو لا يمرّ بالمؤسسات السياسية القائمة على الأقل، في الكيفية التي يُحكَمون بها. وكان لهذا العجز عن إحداث أي تغيير ذي مغزى أن يساهم في تعميق الإحباط الذي يلفّ أرجاء المنطقة.
أبعد من المشاغل الاقتصادية والسياسية، لم تكن الأنظمة لتُبدي أقلّ احترام لكرامة الإنسان. وأبقت الأنظمة في مصر وسوريا وبلدان أخرى على قوانين الطوارئ التي تحدّ من الحريات الأساسية وتوفّر للنظام حصانةً في معاقبته كلّ خروج عليه. لكن سلطة الدولة مضت أبعد بكثير من اضطهاد أولئك الذين يقفون ضدها. ولم يُرِد محمد البوعزيزي - البائع المتجوّل الذي أطلق احتجاجه التظاهرات التي أدت في النهاية إلى سقوط النظام التونسي - سوى الحق في تحصيل عيشه. غير أن ذلك أزعج السلطات المحلية التي صادرت بضاعته مطيحةً حتى بإمكانية تحصيل العيش هذا. وباختصار، فإنَّ الأنظمة وأجهزة القمع المرتبطة بها جرّدت مواطنيها حتى من أبسط ضروب الكرامة الإنسانية.
مثّلت أحداث "الربيع العربي" منعطفاً حاسماً في العلاقة بين المجتمع والدولة. أخرجت الاحتجاجات إلى الشوارع المواطنين من جميع الخلفيات السياسية ـ صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، متعلمين وأميين، متدينين وعلمانيين ـ ليعبّروا عن إحباطاتهم حيال هذه الأنظمة السياسية. وقد أوضحوا بجلاء أنه لم يعد بوسع الأنظمة الاعتماد على مزيج القوة والعقود الاجتماعية القديمة في حفاظها على الاستقرار.
تأثّرت أنظمة المنطقة كلّها ذلك التأثّر العميق. سقطت رؤوس الأنظمة في تونس ومصر واليمن، وكذلك في ليبيا، بعد تدخل أجنبي واسع. لكن الأنظمة في أنحاء المنطقة ردت بطرائق مختلفة ومتنوعة. وعلى سبيل المثال، ما إن اندلعت الاحتجاجات حتى سارعت المملكة العربية السعودية إلى زيادة الإنفاق الاجتماعي بشكل كبير، بل وقطعت عهداً غامضاً بإجراء انتخابات. وفي الجزائر، زادت الحكومة الإنفاق الاجتماعي ومررت إصلاحات واسعة النطاق في القوانين الخاصّة بالمجتمع المدني والحريات الأساسية.
مع استمرار "الربيع العربي"، اكتسحت تغييرات هائلة أرجاء المنطقة. وأخلى الاستقرار المديد مكانه لفوضى متنامية في بعض البلدان، على الأخص في سوريا وليبيا، ولكن إلى حد كبير أيضاً في تونس ومصر. وفازت الأحزاب الإسلامية في انتخابات حرة ونزيهة في مصر وتونس، ما سمح لها بالوصول إلى السلطة. وكان لهذه التغييرات وسواها أن تبدّل المشهد السياسي في أنحاء المنطقة.
لا مجال، بالطبع، للمغالاة في أهمية هذه التغيرات. غير أنّه في خضم الحديث عن الحرب الباردة العربية، وتجدُّد موازين القوى في المنطقة وتغيُّرها، وتنامي قوة القوى الإسلامية، وبداية "شتاء عربي"، يبقى عدد من الأسئلة التي تمسّ جوهر "الربيع العربي" من دون إجابة. وأهم هذه الأسئلة: هل تحسّنَت نوعية الحكم في أرجاء المنطقة؟ هل أجرت الأنظمة ـ الجديدة منها كما القديمة ـ أيّ تحسينات ملموسة في القضايا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية؟ هل أدّى الاقتتال السياسي أو إعادة التوازن الإستراتيجي من طرف الأنظمة إلى استمرار الوضع الذي كان قائماً؟ تسعى هذه الورقة الى تناول هذه الأسئلة باستخدام البيانات التي وفّرها "البارومتر العربي".