مواطنون منهكون يصطفون منذ ساعات الفجر الأولى، بانتظار أن يأتي دورهم وتبدأ إجراءات معاملاتهم المتعلقة بـ"الحالة المدنية" في نواكشوط. يأتون باكراً وقبل الدوام الرسمي بساعات طويلة، ويتحملون البرد في باحات المراكز التسعة، أملاً بتعزيز فرصهم بدخول معمعة الحصول على الأوراق المدنية أو تصحيح أخطاء تسببت فيها البيروقراطية. وقد تجد من مضى عليه شهر وهو على هذا الحال، يكابد ويقاسي عله ينهي أوراقه وأوراق أبنائه، يرابط ويرى من يدخلون بـ"الواسطة" بينما هو ينتظر.
وقد فاقم الحال الإعلان عن إلزام تلاميذ السنة السادسة الابتدائية الحصول على بطاقات تعريف وطنية لكي يتمكنوا من المشاركة في مسابقة ختم الدروس الابتدائية، وهو قرار خرج بطريقة مفاجئة لأسر التلاميذ ومن دون تمهيد، ويتضرر منه اليوم أكثر من مئة ألف طفل موريتاني.
وكالة الوثائق المؤمنة: جدل منذ النشأة
صدر في 6 تموز/ يوليو 2010 المرسوم المنشئ لـ"الوكالة الوطنية لسجل السكان ــ الوثائق المؤمنة"، لتكون هي الهيئة المسؤولة عن إنشاء وتجديد السجل الوطني البيومتري للسكان، وتأمين تسجيل وتحديث المعلومات المتعلقة بتحديد هوية المواطنين والأجانب المقيمين في موريتانيا، بالإضافة لتلبية الحاجيات الوطنية من الوثائق المؤمنة، وإنتاج وثائق تعريف مؤمنة. وتشرف هذه الهيئة على مراكز استقبال المواطنين ومتابعة أنشطتها وتحضير وتنفيذ الإحصاءات الإدارية للسكان، بالإضافة لعدة مهام أخرى. ومنذ انطلاقتها، بدأ الجدل يحوم حول عملها. ففي سنة 2011، شهدت موريتانيا احتجاجات قوية ضد هذه الهيئة وطريقتها، وضد الأسئلة التي تطرح في الإحصاء الذي بدأته الهيئة آنذاك ليكون أساساً لإصدار أوراق مدنية موريتانية بيومترية جديدة.
الجدل حول "هيئة الوثائق المؤمّنة" لم يتوقف عند الجانب المتعلق بقضية المكونات العرقية، فهي أصبحت بسبب قراراتها الارتجالية، أحد أهم مصادر الإزعاج للمواطنين، تقرر اليوم قراراً لتلغيه غداً وبشكل مفاجئ ومن دون تمهيد
وتجسد ذلك الحراك في حركة تدعى "لا تلمس جنسيتي"، حيث اعتبر نشطائها أن بعض الأسئلة الواردة في الإحصاء تعتبر تشكيكاً في وطنية مكونهم، وتتضمن إهانة موجهة للموريتانيين الذين ينحدرون من قبائل الهالبولار والسونونكي، والوولوف، وهي لا تُطرح على المكون العربي. ومن ذلك أن يسأل الشخص عن اسم زوجة حاكم مقاطعة في زمن ماض، أو منتخب وهو ما اعتبر ساعتها إذلال لهم، فكيف تحدد موريتانية الشخص معرفة زوجة حاكم أو وال أو منتخب؟ وبعض الأسئلة الأخرى لها طابع جغرافي متعلق بالدولة الموريتانية وأخرى لها طابع ديني مثل السؤال عن حفظ بعض الآيات القرآنية..
وقد خفت حدة الاحتجاجات المتصاعدة بعدما قمعت وقتئذ بشدة من قبل النظام. لكنها نجحت في وقف ما كان يشكو منه النشطاء، على الرغم من أنه لا تزال تظهر كل حين قضايا تثير الجدل، تتعلق بإحصاء بعض المكونات العرقية، ويتم وضعها في إطار عنصري غالباً.
التربح من المواطنين مهمة وغاية
الجدل حول "هيئة الوثائق المؤمنة" لم يتوقف عند الجانب المتعلق بقضية المكونات العرقية، فهي أصبحت بسبب قراراتها الارتجالية، أحد أهم مصادر الإزعاج للمواطنين، تقرر اليوم قراراً لتلغيه غداً وبشكل مفاجئ ومن دون تمهيد. كما أن الطريقة التربحية للوكالة هي من الأمور التي تثير الكثير من الجدل والانتقاد، فلكي يحصل المواطن على بطاقة تعريف وطنية عليه دفع ألف أوقية (العملة الوطنية، وحوالي 360 أوقية تساوي دولاراً أمريكيا واحدا، كما أن مرتب أستاذ تعليم ثانوي مبتدئ هو حوالي 400 دولار) و20 ألف أوقية مقابل وثيقة الجنسية، وحين يريد الحصول على جواز سفر فعليه دفع ما بين 30 ألف و100 ألف أوقية وذلك حسب عدد صفحات الجواز. وفي حالات ضياع الأوراق أو تلفها قبل انتهاء فترة صلاحياتها، ترتفع المبالغ.
هذا الواقع جعل البعض ينظر للهيئة كمجرد وسيلة لحلب المواطنين وجلب الأموال منهم، وليس كهيئة لتسهيل حياتهم وتقريب الإدارة منهم، وهو أمر طالما ادعى النظام السعي له.
مشاكل أخرى
اتبعت "الوكالة الوطنية لسجل السكان ــ الوثائق المؤمنة" سياسة جديدة في كتابة أسماء الموريتانيين، تقضي باختصار اسم الشخص إلى اسمه واسم عائلته وحذف اسم الأب من جواز السفر، وهو ما تسبب لبعض الطلاب الموريتانيين في الخارج بالكثير من المشاكل، حيث أن وزارة التعليم تعتمد في كشوف درجات البكالوريا على اسم الشخص ووالده.. يظهر خلل في الاسم، وتناقض صارخ يضع أمام صاحبه عراقيل عديدة. فالجامعات تعتمد على كشف الدرجات، أما المصالح المتعلقة بالإقامة فتعتمد الاسم في جواز السفر، فيكون للطالب اسمين مختلفين، واحد في شهادته وآخر في جواز سفره، وهو ما ينغص حياته.
كما يرتكب موظفو الهيئة أخطاء في كتابة الاسم أو تاريخ الميلاد، وتصحيحها ينهك المواطنين، ويضيع عليه الجهد والوقت في ظل عدم مرونة الهيئة وتعقيد إجراءاتها.. بينما سوّق النظام هذه الهيئة كأحد أهم انجازاته.