التمر العراقيّ يروي سيرة خراب البصرة

واحدة من حالات الخراب المُلمّة بالعراق من دون أن تكون قدراً: سوء الإدارة والإهمال وطغيان الطمع من قبل المتنفذين.. تودي بمورد هام هو التمور، وتعمق نتائجها من اختلال البنية الاجتماعية.
2017-04-28

علي محمود خضيّر

شاعر وكاتب من العراق


شارك
شط العرب - البصرة (من الانترنت)

بعد أن كان العراق إبان حرب الخليج الأولى 1980 يُرسل حوالي 500 ألف طن من التمور الفاخرة إلى خارج البلاد، كأوّل مصدِّر بالعالم (حصّة آسيا وإفريقيا منها 100 الف طن)، وبعد أن كانت البصرة، أقصى جنوب العراق، وحدها منقوشة بـ32 مليون نخلة في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، وأكثر من 600 نوع وصنف مختلف من أصناف التمور.. باتت المدينة المطلة على شطّ العرب لا تحتكم إلّا على مليوني نخلة تتوزع على بساتين متفرقة، شاء القدر أن تكون بعيدة، مصادفة، عن آلة الحرب والدمار التي تعمل بكد في المدينة منذ 37 عاماً.

يقول المثل الشعبي البصريّ: "ما ابيع طوكي والبشير يلوح"، والبشير في لهجة سكّان البصرة معناه أول بشائر عذوق التمر الناضجة. والمثل تتداوله الفلاحات البسيطات ومغزاه "لن ابيع حليي ما دام في أعالي نخلتي بشائر تمر ناضج" ممنية النفس بأن تبيعه لاحقاً وتسد حاجتها للمعيشة. فصناعة التمور هي مهنة السواد الأغلب من فلاحي البصرة الذين ظلوا لعقود يعيشون بفيء سعف نخيلها وعطاء ثمرها وخيرات بساتينها، ويكبّرون ابنائهم بما يكسبوه من فلاحتها.

وقد بلغت صناعة التمور أزهى عهودها بدءاً بعام 1960، بتأسيس "مصلحة التمور العراقيّة" التي توزعت منشآتها على طول المدينة وعرضها، فانتشرت مكابس التمور ومباخر العزل والتنظيف ومكائن الكبس والتغليف الفاخر، واستوردت الشركة مخازن تبريد ضخمة ومنشآت حفظ متطورة ساهمت بتحقيق صناعة التمور العراقية لطفرة نوعيّة جعلها في طليعة كبار منتجيه في العالم.

سيرة النخل ــ سيرة الخراب

تبدل الحال منذ مطلع السبعينيات بسبب جملة من السياسات الزراعيّة الخاطئة. وهي تمثلت بعدم معالجة عوامل التعرية المستمرة في ضفتي شط العرب التي تجرف معها سنوياً عشرات الآلاف من أشجار النخيل من البساتين الممتدة على الشاطئين، كذلك سوء التعامل مع الآفات الزراعية وضعف خدمات المكننة والتقنيات الحديثة في العناية المستمرة التي تحتاجها اشجار النخيل موسمياً، فضلاً عن ارتفاع أجور اليد العاملة في مجال صناعة التمور لما يحتاجه النخل من عناية معقدة وجهد بدني عالي وخبرة لا تتوفر بسهولة.
 

تفاقم أزمة ملوحة المياه بسبب السدود التركية والايرانية على الانهار المشتركة أدى الى انهيار زراعة النخيل في المناطق الواقعة جنوب المدينة، وتؤشر النقابة على أن قضاءي الفاو وأبي الخصيب ما عادا صالحين لزراعة النخيل.
 

فانخفض عديد حاملة التمر الى 24 مليون نخلة في إحصاء عام 1970 الصادر عن "مصلحة التمور العراقية"، لتأتي بعدها سلسلة المشاكل الحدودية مع إيران والتي انتهت بحرب الثماني سنوات. وهذه قضت على نصف بساتين النخيل في المدينة فتراجع عديدها في إحصاء المصلحة ذاتها للعام 1989 إلى 16 مليون نخلة فقط، أي نصف ما كانت عليه قبل ثلاثة عقود من الزمن، الأمر الذي الحق ضرراً ليس بعذوق النخيل وحدها، وإنما في اقتصاد المدينة ونسيجها الاجتماعي، حيث أضطر المئات من الفلاحين إلى هجر أراضيهم والعمل بمهن أخرى داخل المدينة، مثل قطاع الخدمات والبناء. وقد سبب نزوحهم هذا اضطراباً مؤثراً في البنية الاجتماعية للمدينة ضمن ما عرف لاحقاً بموجات "ترييف" المدن، وما صاحبها من مشاكل اجتماعية جراء اختلاف الثقافات والأعراف والتقاليد لمدينة عرفت بميولها المدنيّة منذ وقت طويل.

الملح القاتل

سيرة الخراب امتدت إلى ما بعد غزو العراق في نيسان /أبريل 2003، إلا أن الصيغة هنا اختلفت. فالحرب التي كانت بالصواريخ والجنود صارت الآن حرب مياه. فبعد أن تراجعت مستويات حصّة العراق المائية جراء السدود التركية الجديدة، وبعد أن حولت إيران مصب نهر الكارون الى داخل أراضيها بينما كان يصب في شط العرب، ظهرت أزمة انخفاض منسوب المياه الذي تسبب بصعود اللسان الملحي القادم من الخليج العربي، وارتفاع نسبة الملوحة في مياه البصرة لدرجة قاتلة سببت تلفاً بالغاً لأعداد هائلة من بساتين النخيل. وبحسب بيانات نقابة المهندسين الزراعيين في البصرة، فأن تفاقم أزمة ملوحة المياه أدى الى انهيار زراعة النخيل في المناطق الواقعة جنوب المدينة، فيما كان الضرر أقل في المناطق الواقعة شمال المحافظة لمحدودية تأثرها بالملوحة.

وتؤشر النقابة على أن قضاءي الفاو وأبي الخصيب ما عادا صالحين لزراعة النخيل، ومعظم الفسائل المزروعة حديثاً ماتت جرّاء ملوحة المياه العالية، مثلما تضررت مئات آلاف النخلات القديمة بسبب التراكيز الملحية الذائبة في المياه والتي تصل نسبتها أحياناً الى أكثر من تسعة آلاف جزء في المليون، في وقت يحتاج النخيل الى مياه لا تزيد تراكيزها الملحية عن أربعة آلاف جزء في المليون.

ولم تستطع الحكومة المركزية وضع حل لقضية تراجع حصّة العراق من ماء دجلة والفرات، برغم الزيارات الحكومية المتعاقبة لتركيا وإيران، وبيانات استنكار برلمانيّة هنا وهناك، ووعود ظلت محض كلام على ورق.

تتردد أحاديث بأن القانون الناظم غُيّب حفاظاً على مصالح المتنفذين الساعين إلى ربح سريع، وهم المقربين من القوى السياسية ممن يعملون في استيراد التمور القادمة من إيران وبعض دول الخليج، ومن تجار الأراضي الزراعيّة الذين يرومون تحويلها إلى أراض سكنية واستعمالها لأغراض تجاريّة
 

وتلفت تصريحات لمختصّين في النقابة إلى أن المناطق الشمالية للبصرة (الدير والهارثة والقرنة والنشوة) انتعشت فيها زراعة النخيل بشكل لافت خلال الأعوام الأخيرة، وصارت تضم الكثير من بساتين النخيل، لأن المد الملحي القادم من الخليج لم يصلها وبالتالي فأن آلافاً من الفسائل الجديدة التي تغرس سنوياً وجدت بيئة مناسبة لها. غير أن المساحات الجديدة لم تعوض التدهور الحاصل في صناعة التمور العراقية لأن البساتين المعروفة باحتوائها على أصناف فريدة ومهمة من التمور هي البساتين الجنوبية (المتضررة بالملوحة)، فيما أن معظم بساتين شمال البصرة الحديثة ذات أصناف أقل أهمية وغير مرغوبة. لذا ظل العراق فاقداً للسوق العالمية لبيع وتصدير التمور، ولم يستعد سمعته السابقة، بل حدث العكس فأسواقه الآن تعج بأصناف تمور مستوردة من دول مجاورة.

سياسات نفعية

وقد تبنّى مجلس محافظة البصرة تشريع قانون محليّ في 9 نيسان / أبريل 2014 للحفاظ "على ما تبقى من أشجار النخيل" ودعم التمور المحليّة، ونصّ القانون على فقرات مشجعة، منها منح دعم وتسهيلات الى تجار التمور وفلاحي بساتين النخيل، تمثلت بقروض بنكيّة ميسرة واعفاءات ضريبية. كما تضمن القانون عقوبات صارمة بحق المتجاوزين على البساتين، ممن يجرفونها أو يستغلوها لبناء عقارات سكنية وتجارية.

غير أن القانون واجه تغييباً تاماً ولم يجد طريقاً لتنفيذه، ضائعاً في زحمة أجندة الحكومة الغارقة في مشكلاتها، فيما تتردد أحاديث بأن القانون غيّب حفاظاً على مصالح المتنفذين الساعين إلى ربح سريع، وهم المقربين من القوى السياسية ممن يعملون في استيراد التمور القادمة من إيران وبعض دول الخليج، ومن تجار الأراضي الزراعيّة الذين يرومون تحويلها إلى أراض سكنية واستعمالها لأغراض تجاريّة.

.. وقد خُتِمت مسيرة خراب نخل البصرة خلال الأسابيع الماضية بنهاية محزنة تمثّلت بولوج آليات البلدوزر العملاقة إلى أحشاء مبنى مصلحة التمور العراقية وتهديمه تمهيداً لتحويله إلى مجمع تجاري!

مقالات من العراق

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...