وسط بغداد، على بُعد بضعة أمتار من نصب الحرية، تقع منطقة البتاويين التي تنحصر بين شارع "أبو نواس" الشهير ونهر دجلة غرباً، وتحدها ساحة التحرير شمالاً، ومنطقة الكرادة جنوباً، وتتمركز في وسطها أشهر دور السينما والفنادق والمحال التجارية والشركات الضخمة بمختلف أنواعها، القائمة على جانبي شارع السعدون الذي يقطعها ممتداً من ساحة الفردوس إلى ساحة التحرير، وتتوسطها ساحة النصر التي تمثل أكبر تجمع للاختصاصات الطبية في البلاد.
كان حي البتاويين يمثل أيقونة التنوع السكاني المتعايش في المجتمع العراقي، فاليهود إلى جانب المسيحيين والمسلمين والأكراد شكّلوا ملامحه. لكن سرعان ما أخذ سكانه الأصليون بالهجرة بداية تسعينيات القرن الماضي، حين بدأ الحصار يعصف بالعراق. فتحولت المنطقة إلى سكن للشباب الوافدين من الجنوب بحثاً عن العمل، بعدما لم يتبقّ فيها سوى بعض سكانها الأصليين.
تخضع مباني الحي لرقابة أمانة بغداد التي لا تسمح بالبناء أو بالترميم أو بالبيع كونه منطقة تراثية، إذ تتميز أغلب شوارعه بالشناشيل. ونتيجةً لهجرة السكان، أمست مبانيه مهجورة تملأها النفايات، وتزكم الأنوف بروائحها الكريهة. المشهد يوحي بأن إمكانية العيش في هذه المنطقة شبه مستحيلة، ما ساعد على تحولها تدريجياَ إلى دولة مصغرة يحكمها تجار الممنوعات. كما هي تعرضت في فترة التوتر الطائفي إلى تضييق شديد من الجماعات المسلحة، وقُتل فيها الكثير من الغجر، فيما هاجر الآخرون إلى خارج العراق، ولم يبقَ منهم سوى عدد قليل يسكنون فنادق خاصة بهم.
أزقة الموت
إن الولوج من شارع السعدون الرئيسي نحو الأزقة الضيقة للبتاوين أمرٌ لا يخلو من المخاطرة إذا كان الزائر غريباً. دورة حياة المنطقة لا تسير بانسيابية، وهناك نظام هرمي لإدارة كل شيء هنا، يمثل الأطفال قاعدته لاستخدامهم كعيون تنقل كل شاردة وواردة. فبيع المخدرات وحبوب الهلوسة والمشروبات الكحولية ومنازل الدعارة بالإضافة إلى المتاجرة بالأعضاء البشرية.. هي رأس المال للمضاربة في بورصة البتاوين.
بيع المخدرات وحبوب الهلوسة والمشروبات الكحولية ومنازل الدعارة بالإضافة إلى المتاجرة بالأعضاء البشرية.. هي رأس المال للمضاربة في بورصة البتاوين
دخولك هناك يعني بحثك عن شيء، فيبدأ الجميع بعرض خدماته، بين من لا يجد حرجاً في أن يعرض عليك الدخول لبيوت البغاء مقدماً إغراءاته بعمر ومواصفات العاملات اللواتي بمعيته، وبين من ينتظر للتأكد من هويتك، فالحذر قائم بحسب خطورة ضالتك. الحصول على كمية كبيرة من المخدرات أو طلب أعضاء بشرية يتطلب مُعرِّفاً يضمنك وسلسلة من الإجراءات البوليسية. ولا سلطة تعلو سلطة تجارها، فلكل شيء ثمن وفق دستور هؤلاء، حتى القانون يصبح مطاطياً بوجود المال والسلاح. على الرغم من مداهمات الشرطة المستمرة، لكنها لا تسيطر على الوضع، وتُعد تلك المنطقة الأخطر ضمن تصنيف قيادة عمليات بغداد، التي تعتمد على الجهد ألاستخباري الضئيل مقارنةً بمستوى الجريمة فيها.
مستقبل مقتول
موجات سديمية من الأطفال منطلقة من فندق بانياس وسط المنطقة تغزو تقاطعات وشوارع العاصمة بغداد للتسول بشتى الطرق، بين بيع العلكة وتنظيف زجاج السيارات وصبغ الأحذية. يحلِّقون كأسراب نحل كل مجموعة من ثلاثة إلى أربعة أطفال تتأرجح أعمارهم بين أربع وست سنوات مع يافع يقودهم. يعودون إلى الفندق مع عودة الشمس إلى مخدعها، فيما تتنوع أعمال الأمهات بين الدعارة والتسول والعمل في المقاهي والنوادي الليلية. الكثير من الأطفال مجهولو الأب. العامل المشترك لأولئك النسوة هوالنزوح من المحافظات العراقية بسبب الفقر أوالبحث عن عمل، بالإضافة إلى من هربن بسبب "غسل العار" الذي يؤدي إلى قتلهنّ وفق العرف الاجتماعي لتلك المحافظات. فالهروب والوصول إلى بغداد ــ تلك المدينة المخيفة في متخيّل من لم يطأها من قبل ــ يجعل الهارب فريسة سائغة لسماسرة النساء المنتشرين في مرائب السيارات والباصات الرئيسية، حيث يُستدرجن إلى أماكن البغاء. ويُجبرن على العمل مع "مستقبليهن" بعد أن يسحب هؤلاء أوراقهن الثبوتية ويعرفوا عناوينهن الحقيقية، فيقعن تحت التهديد خوفاً من الاتصال بذويهن.
حياة مظلمة
يقول طعمة ناصر، وهو سوداني الجنسية ويسكن المنطقة منذ تسعينيات القرن الماضي، أن أغلب القوادين مطلوب قانونياً أو عشائرياً، وهم يتنقلون بأوراق ثبوتية مزورة.. يتحدث طعمة عن تنوع أعمال النساء حيث إن لكل عمل مقومات وضوابط يجب إتباعها، فعملهن في بيع الجنس يتطلب وجود شخص محدد يتمتع بنوع من السلطة والنفوذ وسط هذا السعير. طعمة صاحب دار يؤجر الغرف للوافدين من محافظات أخرى، ويمتلك مطعماً شعبياً وسط المنطقة، ومعروف بشخصيته العصامية واتزانه، إذ لم يشرب الخمر ولم يقرب بيوت الدعارة قط، ما أضفى عليه نوعاً من الوقار والمقبولية، حتى بات صديق الجميع، خازناً للمالِ والأسرار في بيئة قاسية. في مطعمه تكتسي حياة زبائنه بلونٍ آخر، فيبدون فحسب فقراء وطيبون، يتحدثون بشكل يعكس الحزن والحرمان الذي يؤطّر ذاتهم. هم لا يُجيدون الحديث في السياسة والدين والطائفية، همومهم مشتركة وأيامهم متشابهة، وأحلامهم بسيطة تتلاشى مع دخان سجائرهم. يبدأون يومهم باحثين عن "العلاگه" (تعني باللهجة العراقية القُوت اليومي)، والكحول ملاذهم الوحيد لتخفيف ألمهم. لكل منهم حقيقة لا يود سردها، يستعيرون قصص بعضهم حين تسألهم عن موطنهم الأصلي، فيذكرون موت ذويهم في الحروب أو إبان "أيام الطائفية".. وهي وجه الشبه بينهم.
حكايات من عمق الأزقة
حيدر الأسمر البصري ذوالـ26 عاماً، ثملٌ طوال الوقت، لكنه يجيد الحديث باتزان وصدق "فالسكر مرآة الحقيقة" كما يقول. يروي هجرته من البصرة بعد غرق والده في شط العرب وزواج أمه وهو ابن الـ 12 ربيعاً، ثم هجرته إلى بغداد وتَنقله في العمل بين المطاعم والفنادق. تنهّدَ قائلاً "أنتم المترفون تستلذون بمآسينا لتشعروا بقيمة حياتكم"، وطلب الأركيلة مقابل إكمال حديثه، ثم استطرد مستذكراً حبه لفتاةٍ كرخية لم تسمح الطبقية لهما أن يُتوجا حبهما بالزواج، ما دفعه إلى اليأس حتى وصل لمنطقة البتاويين باعتبارها سكناً رخيصاٌ، لكن سرعان ما أدمن الخمر وحبوب الهلوسة. حيدر يمتلك كاريزما وهدوءاً جعلاه محبوباً من الجميع، ما حدا بأصحاب محال بيع المشروبات الكحولية والمقاهي جمع مبلغ يومي له مقابل تنسيقه مع الجهات الأمنية في حالة وجود مداهمة، أو لتخليص من يقع في أيديها ممن لا يمتلك أوراقاً ثبوتية، أوترتيب أمور أخرى تخص ساكني المنطقة، متسائلاً "لولا نشوة الخمر والسكر أيستطيع إنسان العيش في هذه المنطقة"؟
في مطعمه تكتسي حياة زبائنه بلونٍ آخر، فيبدون فحسب فقراء وطيبون، يتحدثون بشكل يعكس الحزن والحرمان الذي يؤطّر ذاتهم.
في ركن المطعم يجلس شاب هو الآخر غريباً في هذا المكان، يبحث منذ أسبوع عن بائع كلية لوالده الراقد في إحدى مستشفيات شمال العراق، وقد توصل إلى اتفاق مع أحدِهم وتم تحديد المبلغ والبائع. لكنه للمرة الثالثة يعتذر عن الحضور. وقد أُبلغَ أن ذلك سياقٌ طبيعي للتأكد، ومن الممكن أن يكون ثمّة من يجلس ضمن الموجودين لمراقبتك والتأكد من جديتك في الموضوع، وبالفعل بعد نصف ساعة تم الاتصال به وطُلبِ منه الحضور إلى مكان محدد.
سارة وأحمد ونور أطفال بملابس رثة نُقشت في مخيلتهم فنون التسول والتذلل والخداع، أمانيهم لا تتجاوز أكلةً شهية ويداً كريمة ترفع من محصولهم اليومي لينالوا رضا الأم، وقوة تبعدهم عن المنافسين ومالكي التقاطعات من عصابات التسول. فيما لا تجد غفران عملاً غير البغاء، وهي تنحدر من عائلة غجرية تسكن مع أمها وأخويها في فندق وسط البتاوين، تمارس البغاء بمساعدة أخيها. هوالآخر يعتبر الأمر مهنة العائلة وأن قدرهم جعلهم هكذا، فيما تعمل الأم شيخة قوادين، وتتمتع بعلاقات واسعة مع الأجهزة الأمنية والجماعات المسلحة "التي هي الأخرى ليست بعيدة عن حِراك البتاوين، ولها نسب مقابل الحماية التي توفرها لهم". تحت أمر الشيخة مجموعة من الشباب ممن تتكفل بسكنهم وتعطيهم بعض الأموال ومعظمهم مطلوبون للدولة، وهم اليد الضاربة لها. فمن تحاول الخروج عن طاعة عمتها "الشيخة" من البنات اللواتي يعملن معها، أو من يعترض طريقهن، فمهمة هؤلاء الشباب الوقوف بوجهه. فيما تستدرك غفران لتؤكد أن أمها تُعدّ شيخة على نطاق محدود، ف"هناك من هُن بمستوى السياسيين" حسب تعبيرها، حيث السيارات الفارهة والنفوذ، مؤكدةً أن الكثيرات ممن يعملن في البغاء هن ضحية الظروف كفقدهن لعوائلهن جراء الحروب، أو الفقر أو لأنهن هربن من أهلهن.. و"الشيخة" تقوم بإيوائهن وتوفر الأوراق الثبوتية لهنّ مقابل العمل معها.
محنة أهل الدار
المعاناة لا تقتصر على من فقدوا السيطرة على حياتهم وتماهوا مع هذه المنطقة، هناك سواهم ممن يعاني بشدة. فالسكان الأصليون المتبقون هم عوائل مسيحية لا تملك المال الذي يمكِّنها من الانتقال إلى منطقة أخرى، ولاسيما أن منازلهم لا تُباع وبدلات إيجارها بسيطة جداً. يقاتلون للعيش وتربية أولادهم بعيداً عن تلك الأجواء. ومع أنهم يحظون باحترام وتقدير الباقين، إلا أنهم لا يشعرون بالأمان. تروي "مورين" طالبة الحقوق في السنة الثالثة معاناتها في الكلية بسبب سكنها في البتاوين، باعتبارها المنطقة الأسوأ سمعة في العراق، ويستغرب "يوسف" إهمال الأجهزة الأمنية للمنطقة التي تمثل الحاضنة الأكبر للمجرمين والهاربين من القانون، حيث مختلف أنواع الجريمة تمارس في وضح النهار، فيما تتخذ الأجهزة الأمنية موقف المتفرج.. لتبقى علامات الاستفهام قائمة حول من يقف خلف ذلك كله، مغيباً دور السلطة والقانون جاعلاً الدولةً محكومة بشريعة الغاب.