خصم الثلث من رواتب موظفي القطاع - هل بدأ العد التنازلي لتصفية غزة؟

مخطط سياسي جديد، يزيد من شدة الاستنزاف، تجري حياكته من قبل الأطراف الإقليمية والدولية، وبتواطؤ من البعض الفلسطيني. والهدف ليس التطويع. فهل هو وجود الغزيين المادي على أرضهم؟
2017-04-14

محمد جميل

باحث من غزة، فلسطين


شارك
نذير اسماعيل - سوريا

ساعات فصلت بين موظفي حكومة رام الله في قطاع غزة وموعد استلام رواتبهم من البنوك، قبل أن يصدر تصريح من دون سابق إنذار عن الحكومة برام الله تعلن فيه عزمها اقتطاع 30 في المئة من إجمالي قيمة الراتب لكل موظف منهم.

الحسم بلغ حوالي 14 مليون دولار من فاتورة رواتب موظفي القطاع (58 ألف موظف) الذين تشكل معاشاتهم الشهرية المورد المالي الرئيسي للقطاع، وحجر الأساس في عجلته الاقتصادية. قالت الحكومة أنه إجراء ضروري لتخطي الأوضاع المالية الصعبة التي تواجهها السلطة الفلسطينية.. بينما ما جرى توفيره هو 12.5 في المئة، وهي نسبة هزيلة من إجمالي ميزانية الرواتب الشهرية للموظفين الحكوميين في الضفة والقطاع (156781 موظف) البالغة 111 مليون دولار. نصف قيمة رواتب الغزيين تذهب لتسديد القروض البنكية التي جرى اقتراضها ــ في غالبيتها الساحقة ــ لتغطية نفقات تتصل بالبناء وإعادة الاعمار الذاتي، إثر ثلاث مواجهات عسكرية مدمرة خاضها الغزيون مع إسرائيل في السنوات العشر الأخيرة. وهكذا، فحسم 30 في المئة من الرواتب قد أتى على ما يقارب ثلاثة أرباع الدخل الشهري الفعلي للموظفين.

 الفلسطينيون والمال

 

مثّلت التدفقات المالية على الفلسطينيين ــ على امتداد تاريخ قضيتهم وأياً كان من يرسلها من الخارج ومن يستقبلها في الداخل ــ أداة الاحتواء والتطويع السياسي الأهم من قبل الإقليم والمجتمع الدولي للحواضن التي تضم التجمعات الفلسطينية في فلسطين وخارجها. وارتبطت "تسعيرة" الإسناد المالي للمشاريع السياسية التي تبنتها القيادة الرسمية للفلسطينيين في مختلف محطاتها التاريخية بالقيمة السياسية للقضية الفلسطينية، التي كانت تتحدد بناء على الموقع الذي تحتله على أجندة عمل المجتمع الدولي في لحظة زمنية ما، وحجم التهديد والإزعاج الذي يمكن للفلسطينيين التسبب به في خلخلة الأمن الإقليمي والدولي.
ففي السنوات الأولى التي تلت النكبة، عندما كان الفلسطينيون مجرد مجموعات من المزارعين والقرويين الذين طردوا من أرضهم من دون أي اطر وتشكيلات رسمية تمتلك برامج فعل سياسي وأدوات لتنفيذه، اقتصر الدعم الدولي لأوضاعهم المعيشية على أكياس الدقيق وخيم الإيواء المهترئة والمستلزمات الطبية الضرورية. لاحقا، وبخاصة في نهاية ستينات القرن الماضي، وعندما انطلقت فصائل العمل المسلح وتزايد حجم التهديد الذي يمثله الفلسطينيون في مواقع متعددة، طفح المال عليهم من كل حدب وصوب (دعم خليجي عربي في الخارج - فتح أبواب العمل وراء الخط الأخضر في الداخل)، سواء لتطويع فعلهم السياسي المسلح، أو لتأبي "شرهم".
 

مثّلت التدفقات المالية على الفلسطينيين ــ على امتداد تاريخ قضيتهم، وأياً كان من يرسلها من الخارج ومن يستقبلها في الداخل ــ أداة الاحتواء والتطويع السياسي الأهم من قبل الإقليم والمجتمع الدولي للحواضن التي تضم التجمعات الفلسطينية في فلسطين وخارجها.
 

مع توقيع اتفاقية أوسلو واستدراج الكيانية الرسمية للفلسطينيين إلى داخل الأراضي الفلسطينية تحت سيطرة الحراب الإسرائيلية، جرى تحول نوعي في آليات استخدام المال كأداة للاحتواء. فإلى جانب التقليصات التي كانت تطرأ على التحويلات المالية المرسلة إليهم كلما زاد رضوخ قيادتهم الرسمية إلى المحددات الدولية لـ"عملية السلام"، وإذعانها لمتطلباتها الأمنية و السياسية ــ وليس العكس! ــ جرت أيضا عملية هدم تدريجي لسلطة الفلسطينيين على قرارهم المالي وكيفية التصرف بمواردهم وتوزيعها، بلغت ذروتها ومآلها النهائي حين استجاب الرئيس الراحل ياسر عرفات والدبابات الإسرائيلية تحاصر مكتبه في مقر "المقاطعة" برام الله للضغوط العربية والدولية والفلسطينية أيضاً، واستحدث منصب رئيس للوزراء، وتخلى عن سلطته على القرار المالي نهائيا لصالح المانحين ووكلائهم المحليين.

 

الانقسام وخصم الثلث

 
ذهب البعض في تفسيرهم  للقرار الأخير لحكومة رام الله إلى أن الغرض منه هو التوطئة لإحلال موظفي حكومة حماس (عددهم يناهز الـ40 ألف موظف) بدلا من موظفي حكومة رام الله في كشوفات الدعم المالي الخارجي الذي يغطي فاتورة الرواتب. غير أن هذه الفرضية تدحضها حزمة من الحقائق السياسية أهمها أن حركة حماس لا زالت مستبعدة من العملية السياسية ولا يحظى حكمها لغزة باعتراف المجتمع الدولي، وصرف أي معونات أو منح دولية لها مدرج في بند المحرمات التي تنص عليها لوائح الدول المانحة.
فبالنسبة للمانح الدولي، وهو صاحب القرار الأول في الأمر، فإن مقاربته للقرار المالي المتعلق بغزة ترتكز على مسألتين:
الأولى: "التسعيرة السياسية" لغزة، أي ما هو الوزن السياسي للتهديدات التي تمثلها الأخيرة على الاستقرار الإقليمي. والجواب هنا: "لا يوجد". والسلطة الرسمية في رام الله، ولأسباب يراها البعض دنيئة، متواطئة بالكامل مع إرادة المانح. ومن جهة أخرى فإن الفتور هو السمة العامة لتعاطي المعارضة السياسية في القطاع للسلطة في رام الله، وفي مقدمتها حركة حماس التي تتصرف وكأنها غير معنية بها. أيضا، فإن رغبة الأخيرة بعدم السماح بأي تحركات شعبية تناوئ القرار كي لا تفتح الباب أمام إدراج قضايا تتعلق بحكمها للقطاع في هذه التحركات، مكشوفة لكل الأطراف.
 

في اللحظات الأولى لصدور قرار الخصم من الرواتب، اقتصر تفسير الأمر على أنه  توجه لدى الدول المانحة استجابت السلطة في رام الله له، وأن هذه الاستجابة هي إعلان سياسي من السلطة بغسل يدها من القطاع وتنازل واع عنه لصالح خصومها السياسيين، وقفزة طويلة باتجاه ترسيخ الفصل القائم بين غزة والضفة
 

الثانية، هي أن المجتمع الدولي وإسرائيل يعتمدان المعادلة التالية: لدينا كتلة سكانية محددة على حيز جغرافي معين، نجد بأن المطلوب إدخاله من المال لتحقيق صيغة "لا للجوع ولا للشبع" تستلزم القدر "كذا" من المال. أيّ زيادة سنقوم باقتطاعها، وأي نقصان سنقوم بتعويضه. ومسألة التوزيع بين الشرائح المختلفة لهذه الكتلة السكانية ينبغي أن تخدم هذه الصيغة.

 

معادلة المانح ومكوناتها
 

في السنوات الأخيرة اتسعت عددياً شريحة موظفي المنظمات الدولية وغير الحكومية، لتصبح المرشحة لتشغل موقع النخب والطبقة الوسطى في الهيكل الاجتماعي والاقتصادي للقطاع. وهذه الشريحة تكتسب أفضليتها عن سواها في عيون المانح وإسرائيل من كونها الأكثر مطواعية بالمعنى السياسي، وأصلاً فإنها ثقافياً وقيمياً (في قسم معتبر منها) في حالة تماه تام في حده الأدنى مع المانح وسياساته. وفيما يتعلق بعناصر الجهاز البيروقراطي لحماس، فإن "التسعيرة السياسية" المذكورة لكافة الأطراف الفلسطينية انخفضت إلى الحد الذي أصبح ما من داع معه لصرف راتب 3 آلاف دولار لموظف حكومي إنتاجيته الأسبوعية 24 دقيقة، شاملة توقيعات الحضور والانصراف، كما كان الحال عليه في تسعينات القرن الماضي (بحسب مسح أجرته مؤسسة دولية لقياس الكفاءة في حينه). وأسمى ما يمكن أن تطمح له هذه الفئة هو أن تتساوى في أوضاعها المعيشية مع نظرائها في دول الطوق.

من مظاهرة في غزة

أما بالنسبة لموظفي حكومة رام الله الغزيين، فهم وعلى امتداد عقد من الانقسام، تحولوا تدريجياً إلى كتلة اجتماعية خاملة يقتصر دورها على أن تلعب دور قناة تمرر المال الذي يأتيها على شكل رواتب إلى الاقتصاد الغزي. كما أن غياب التحديثات على السلك الوظيفي الخاص بهم عبر عدم فتح الباب أمام توظيف عناصر جديدة منذ ما يزيد عمليا عن الـ15 عاماً، جعل من هذه الكتلة الخاملة كتلة هرمة كذلك، تزيد أعمار الغالبية الساحقة من عناصرها عن 35 عاماً، وهو ما يشجع مختلف الأطراف على التعدي عليها وانتهاك حقوقها.

 

ما بعد القرار
 

في اللحظات الأولى لصدور قرار الخصم، وقبل أن تتضح باقي التفاصيل والتبعات المتعلقة به، اقتصر تفسير الأمر على أنه توجه لدى الدول المانحة استجابت السلطة في رام الله له، وأن هذه الاستجابة هي إعلان سياسي من السلطة بغسل يدها من القطاع وتنازل واع عنه لصالح خصومها السياسيين، وقفزة طويلة باتجاه ترسيخ الفصل القائم بين غزة والضفة.
جاءت تطورات وتسريبات لاحقة لتظهر أن هذا التفسير، على الرغم من خطورة ما يشير له، فهو يغفل الإحاطة بسلسلة من الخطوات والترتيبات المرعبة التي تحاك في الخفاء. فتسريبات الصحافة الإسرائيلية تحدثت عن أن القرار عبارة عن طلب أمريكي حمله مبعوث الرئيس دونالد ترامب في لقائه الأخير مع الرئيس الفلسطيني، مع مجموعة أخرى من المطالب السياسية والأمنية المتعلقة بغزة، وعلى رأسها تطوير منظومة التنسيق الأمني المعمول بها بين أجهزة أمن الضفة ونظيرتها الإسرائيلية.
هذه التسريبات اكتسبت مزيداً من المصداقية حين أُعلن بعد يومين من صدور قرار الاقتطاع من رواتب الغزيين وبدء العمل به، عن أن أزمة كهرباء جديدة (الجدول الحالي 8 ساعات وصل 8 ساعات قطع) يرجح أن تستمر إلى أمد غير منظور بعد إعلان حكومة رام الله أنها ستمتنع عن تسديد أثمان استهلاك القطاع من الكهرباء. تبعتها أخبار عن وقف التسهيلات التي كانت تقدمها مصر لقطاع غزة، والمقصود هنا إغلاق معبر رفح الواصل بين غزة والعالم الخارجي. كما أن تحذيرات صدرت عن عدد من الفعاليات السياسية والحقوقية تتحدث عن أن القرار بخصم الـ30 في المئة ليس سوى مناورة قانونية من قبل الحكومة ستستمر لمدة ثلاثة أشهر، يليها إعلان جديد عن إقرار قانون التقاعد المبكر القسري لموظفي القطاع، والذي بموجبه سيتم حسم 30 في المئة إضافية من الراتب الذي تقاضاه الموظف في الثلاثة أشهر الأخيرة، على طريق التصفية النهائية للالتزامات المالية لحكومة رام الله تجاه ما تعتبره "حمولة زائدة" تمثلها غزة في ميزانيتها.

 

خاتمة
 

الأزمات المتلاحقة على القطاع وأهله، الذي يئن أصلاً تحت ثقل واقع معيشي مأساوي، تنذر بأن مخططاً سياسياً جديداً، يزيد من شدة الاستنزاف الحالي، تجري حياكته من قبل مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، وبتواطؤ من البعض الفلسطيني. غير أن ما بات يثير ذعر الفلسطينيين في غزة هو إدراكهم أن ما من شيء ذو قيمة سياسية وعسكرية حقيقية بين أيديهم، من شأنه أن يدفع الإسرائيليين، ومن معهم، للضغط بهذا الشكل المميت عليهم من أجل انتزاعه. ما يعجل من استخلاصهم أن المساومة باتت الآن على وجودهم المادي في غزة، وأن المستهدف بات لحمهم الحي الذي ينبض فوق أرضها.. فهل بدأ العد العكسي لنكبة جديدة؟

مقالات من غزة

لا شيء سوى الصمود!

2024-10-03

قبل الصواريخ الإيرانية وبعدها، استمر الاحتلال بارتكاب الفظاعات، ثمّ توعّد بالمزيد. إنها أيام المتغيرات السريعة والخطيرة والصعبة، لكن يبدو أنه في كل هذا، ليس سوى ثابتٍ وحيد: صمود شعوبنا المقهورة.

للكاتب نفسه

اتفاق المصالحة التركي الإسرائيلي

محمد جميل 2016-07-06

بدعم و تمويل تركي، تنتصب في أرجاء متفرقة من قطاع غزة هذه الأيام عشرات ورش بناء و إعادة ترميم المساجد التي تم تدميرها في المواجهات العسكرية الثلاث التي خاضها الغزيون...

هل تفقد فلسطين لاجئيها

محمد جميل 2015-12-06

في المرحلة الأولى من الصراع العربي الإسرائيلي، اعتمدت إسرائيل في ضبط معادلة صراعها مع العرب والفلسطينيين  ــ مستفيدة من تمسكهم الرخو والمرن بمواقفهم ــ سياسات تقضي بالسعي لتشريع مكتسبات احتلالها...