كانت تقارب الرابعة فجراً ببغداد غداة 20 آذار/ مارس 2003، حين ظهر الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش من المكتب البيضاوي، ليعلن بدء الحرب على العراق، عقب انتهاء مهلة الساعات الأخيرة. كان الترقب لدى العراقيين لما يُمكن أن تُسفر عنه الحملة الأميركية الجديدة، وأما بالنسبة للنظام فالانهيار كان محسوماً حتى قبل بدء الحرب. الترقب كانت تحوطه أشجار أمل عالية تحجب المخاوف التي لم يكن العراقيون يدركونها لحظة سقوط أول صاروخ على العاصمة. هكذا كان المشهد، مع قليل من الإثارة التي تخلقها أجواء أي عمل عسكري. الإثارة الأبلغ كانت في خطاب الرئيس الأمريكي الذي جاء وكأنه نصٌ ناضل كاتبه كثيراً من أجل إخفاء النوايا، لكنه كشف الكثير عما لاقاه العراقيون فيما بعد. لحظتها، وبينما القنابل الضخمة تنزل من السماء، لا أحد يُفكر بنصٍ كُتب من أجل إعلان حرب، إنما الرؤوس المتعبة، والمتوهجة بالأمل أيضاً، تفكر بـ"التغيير". وعلى المقسم الآخر من العالم كان "التغيير" له دلالة مختلفة غير التي ينشدها العراقيون. فالرئيس الأمريكي شدد أنها "لكي لا نتصدى للتهديد بجيوش مكافحة الإطفاء والشرطة والأطباء في شوارع مدننا في المستقبل"، ما يعني الانتقال إلى الأرض البديلة للصراع. وثمة تبرير "مُقّنِع" لعراقيي الداخل الذين كانوا يخشون أن تكون الحملة الجديدة شبيهة بالقديمة في آذار/مارس 1991، حين تُركوا يواجهون مصيرهم أمام صدام الجريح الذي يريد أن يأخذ بثأره البدوي من هزيمة الكويت. كانت التطمينات الأميركية كافية بأن هذه المرة "لن نقبل بأنصاف الإجراءات (...) وسوف ننتصر".
تعوّد العراقيون كثيراً على "الانتصارات" التي لا تأتيهم إلا بالمصائب. وما أن حلّ "التغيير" الأميركي، إلا وكان الحريق يندلع في الجسم العراقي وينهش أشجار الأمل العالية التي أحاطت بالترقب.
تكسير التعددية
بدءاً من أواخر ثمانينات القرن الفائت، فكّر النظام بلعبة جديدة لإدارة الصراع في الداخل، بإعلان محدود للحريات السياسية - على الطريقة السورية - بـ"حزب قائد" و"أحزاب مجتمع" تتماشى مع السلطة وفلسفتها. لكن عجلة تلك اللعبة انكسرت عقب الهزيمة في خيمة صفوان. ومنذ أن عُطلت الحياة السياسية في البلاد عقب 1958، ضاعت التقاليد الحزبية، وتحولت إلى مناكفات "طائفية" بدءاً من إجازة واجهة الإخوان المسلمين، "الحزب الإسلامي العراقي" في العام 1960 وانتهاءً بتوجيه الضربة الأخيرة للتجربة الحزبية بإعلان "حزب الدعوة الإسلامية" في نيسان/ابريل 1980 حزباً "عميلاً محظوراً"، بينما الأحزاب ذات الصبغة "العلمانية" كالحزب الشيوعي العراقي، وحزب السلالة العائلية "الديمقراطي الكردستاني" واليسار الكردي "الاتحاد الوطني الكردستاني" وملحقاتها من أحزاب الظل ومجموعات العمل الأيديولوجي والمذهبي مُورس ضدها عملية تقليم ممنهجة، فأخضع العراقيون إلى عملية تدويرٍ "سياسية" و"اجتماعية" بتغيير نمط التفكير من "الانفتاح" إلى "الشمول"، فيما ظلت "التعددية الحزبية" جزيرة نوستالوجية تطفو على سائل الخوف المترشح من القمع.
على مدى أربعة عقود ونيف (1958 – 2003) كانت حرية التعبير هي العدو الأكثر شراسة للنظام. ومع القمع المستمر، باتت ترفاً سياسياً عقوبته الإعدام. وانحسر بالتالي التفكير الاجتماعي بتشكيل أحزاب ولو "سراً" وعلى نحو محدود
أواسط ثمانينيات القرن الماضي، ابتدع النظام برنامجاً مسّحياً لمكافحة ما أسماه بـ"الجريمة السياسية" ضمن إدارة أمنية عرّفها بـ"مركز التطوير الأمني"، وهي تشبه إلى حد كبير أحد أنشطة منظمة أمن الدولة بألمانيا الشرقية، مهمتها رصد النشاط "المعادي" وإصدار دليل أمني للمتابعة والمراقبة. وضمّت تلك اللائحة حينها أكثر من 22 حزباً ومنظمة عراقية "طائفية" أو "عرقية" أو "عامة" أو "عابرة للحدود"، كان حضورها رمزياً في الداخل – ما عدا أحزاب المنطقة الكردية – وتحول أغلبها إلى "أحزاب منفى".
طيلة 45 عاماً (1958 – 2003) كانت التجربة الحزبية في العراق قلقة وهشة، وتفتقر إلى المباني الحقيقية المؤهلة لاعتبارها أحزاب "استقرار". فكانت أحزاب "أزمات" تمر دوراتها الحياتية عبر أنفاق جنينية حولتها إلى نسق حزبي مشوّه. وعلى مدى أربعة عقود ونيف، كانت حرية التعبير هي العدو الأكثر شراسة للنظام، ومع القمع المستمر، باتت ترفاً سياسياً عقوبته الإعدام، وانحسر التفكير الاجتماعي بتشكيل أحزاب ولو "سراً" وعلى نحو محدود. لذا كان حُلماً مُؤجلاً للحظة انهيار النظام، والبدء مجدداً بـ"التعددية الحزبية"، على اعتبار أن برأس أولويات المقولات التبشيرية للحملة الأميركية إتاحة "الديمقراطية". لكن الصدمة المريعة هي أن "الحياة الحزبية" وبعد 14 عاماً من "التغيير" لم تتحقق بعد، ما أفرز توزعاً ما بين "أحزاب منفى" و"أحزاب صناديق" تفتقر حتى لمقار. فهل عزف العراقيون عن حُلمهم بالتعدد الحزبي والحياة الديمقراطية؟ ووهل كانت معارضتهم لنظام أحادي مشاكسة عابرة؟
أحزاب الصناديق
لم تمض أيام قليلة على سقوط بغداد، حتى امتلأت حيطان المدن العراقية بأسماء أحزاب وشعاراتها، وبات التنافس المحموم على الأسماء لا على الجمهور. والمسميات متشابهة إلى حد بعيد، فالأحزاب الدينية اشتركت بلازمة "الإسلامي" والأحزاب المدنية بلازمة "الوطني". لكن الحضور على الأرض كان مجهولاً، ولا يتعدى الشارع الذي كتب على جداره المُسمّى والشعار، ربما عدّ المراقبون والضباط السياسيون في القوات المتحالفة ذلك "انتصاراً" للحملة وتحقيقاً لغرضها، لكنه كان أيضاً مشروعاً لـ"لشراء النصر" و"بيع الديمقراطية". فالقوات الأميركية وخلال الأشهر الأولى من العام 2003، قدمت منحاً مالية لكل مجموعة تُقْدِم على تأسيس حزب يتبنى مبادئ التعددية والانتقال السلمي للسلطة، وسرعان ما تلقفت هذه الدعوة وركبت موجتها، فكانت بعض التقديرات تشير إلى وجود أكثر من 500 حزب وحركة وتيار وجماعة سياسية في العراق. لكن هذا كله انحسر كجبل ملحٍ بعد أعوام قليلة، ولم يبق من تركة "الديمقراطية الاستهلاكية" إلا أعضاء "البازار القديم" والذين يمثلون الجماعات القادمة من المنفى، فشكلوا الحكومات المتعاقبة وأفرزوا واقعاً سياسياً رثاً يمثل رؤيتهم المعتلة لمرحلة ما قبل "النفي" وتجربتهم المريرة في "المعارضة". وخلال 14 عاماً من "التغيير" (2003 – 2017)، لم تَرْشح من المخّبر العراقي أي تقاليد سياسية وحزبية بالمعنى الذي يوفره المناخ "الديمقراطي" في البلاد، فكانت المعادلة الراسخة تصاغ وفق رؤية "المنفى"، فيما الحراك الداخلي شكل على نحو قلق ومتذبذب حالة "المعارضة" المفترضة. لكن "التوافقات" تكون بالنهاية هي المرهم الجاهز للجروح الملتهبة للعملية السياسية الهشة.
بعض التقديرات أشارت إلى وجود أكثر من 500 حزب وحركة وتيار وجماعة سياسية في العراق. لكن هذا كله انحسر كجبل ملحٍ بعد أعوام قليلة، ولم يبق من تركة "الديمقراطية الاستهلاكية" إلا أعضاء "البازار القديم" الذين يمثلون الجماعات القادمة من المنفى، فشكلوا الحكومات المتعاقبة، وأفرزوا واقعاً سياسياً رثاً
لم تتشكل أحزاب بالمفهوم التنظيمي التقليدي أو البناءات المعلومة لتشكيل مجموعات العمل السياسي في مرحلة ما بعد 2003، بل ظلت تلك التجارب سطحية وتحاكي البرنامج الافتراضي لـ"الديمقراطية" المنتقاة كحائط صدّ لنشوء نظام "ديكتاتوري" جديد في ظل وجود "أغلبية" تفكر بـ"حكم الأغلبية" و"أقلية" تشتغل على "شراكة" مع "الأغلبية الحاكمة" ذاتها. إن هذا التعويم الديمقراطي هو صورة لتفكك الوعي السياسي في العراق، وانفلاش مستمر لفكرة العقد الاجتماعي – السياسي، وتدمير ممنهج لـ"الحرية السياسية" في ظل فوضى الاستقطاب الطائفي.
وحينما شُرِّع قانون الأحزاب الذي ظل في إطار المناورة وسِلال الصفقات السياسية التي تُفرّغ وتُملاً حسب حاجة المتخاصمين بدءاً من العام 2005 وحتى إقراره في النصف الثاني من العام 2015، لم يكن هناك ثمة رؤية واضحة لما يمكن أن تكون عليه تلك الأحزاب، بل هو تدوير لـ"الرثاثة" الحزبية ذاتها في إطار قانون فُصِلَ ليكون عتبة دخول إلى السباق الانتخابي. فمن غير المنطقي مثلاً، أن يُمنح الحزب الشيوعي العراقي في ذكرى تأسيسه الثالثة والثمانين، إجازة تأسيس مع خمسة أحزاب مغمورة شكلتها حالة الاستقطاب الطائفي و"التعويم" السياسي. وقبل ذلك بنحو شهر يُمنح "حزب الدعوة الإسلامية" رخصة مماثلة، وكأن هذه الأحزاب هي فئات انتخابية صنعتها لحظة الفائدة، فهل يُعقل أن تُمنح رخصة لحزب الدعوة الذي يهمين على تشكيل الحكومة منذ العام 2005 عبر أربعة حكومات متعاقبة، على مدى 12 عاماً.. رخصة الآن؟
بحسب قانون الأحزاب، فإن الجهة التي تمنح رُخص العمل والمشاركة الانتخابية، هي المفوضية العليا للانتخابات في العراق. ووفقاً للبيانات الرسمية فإن الأحزاب والتيارات المسجلة لدى المفوضية قبل تشريع القانون بلغت 900 حزب وتيار وحركة، فيما التي أعادت تسجيل نفسها مجدداً بعد تشريع القانون أكثر من 200 بقليل، تمهيداً للانتخابات البلدية المرتقبة في أيلول/سبتمبر 2017. ويظل التوصيف الأقرب لتلك الأحزاب والحركات والتيارات أنها "أحزاب صناديق" تلتئم عند ضرورة الاستحقاق الانتخابي، وتنفرط بانتهاء الموسم، وهكذا...
"الرثاثة الحزبية" مقطع عرضي لكامل التجربة الأميركية في العراق. وهي تمثل الوصفة الجاهزة بتجلياتها الأكثر فشلاً، فتاريخ القمع الدموي الذي مُورس على مساحة 40 عاماً مضت، ربما كان من المفترض أن يؤشر الى "صحوة حزبية" تعيد التوازن المفقود بين "أحزاب المنفى" والداخل. ولربما كانت التجربة الوحيدة التي تشكلت داخلياً هي التيار الصدري وظلت محتفظة بزخمها وحراكها، فيما "حزب الفضيلة الإسلامي" الذي تشكل في الداخل بعد "التغيير" تحول أيضاً إلى "حزب صندوق". وعلى الجانب السُني فإن الحزب الإسلامي العراقي ظل تنظيماً حزبياً يتيماً في محيط من التحالفات الانتخابية المرحلية، تتشكل وفق الراهن، وتنفرط به أيضاً.