ورقة النائم
قُبيل نيسان/أبريل 2003، بين العصرِ والغروب، يجلس شبابٌ على أرائك المقهى المفتوحة على نهر دجلة. كان شيخٌ هرم يقصُّ لهم رؤيا الليلة الفائتة. وقد رأى فيما يرى النائم أنهُ يتجول في مُنبسط من الأرض، وعصاه تجوس في جديبٍ شاسع. كان بين يمين الشيخ ويُسراه أفقاً تمتد حُمرتُه بلا نهاية. هذه الحُمرة هي لون الدم الغزير الذي رآه يتدفق من رقاب العدد الهائل للخراف المذبوحة.
ورقة الحديد
عندما تأتي الحرب يتغيّرُ أثاث المُدن. اختفت بغداد وتقدمت بغداد أخرى على مسرح الأحداث. وهي الآن مدينة من الكلام المقصوف والكيان المادّي المُهدم. وستكون وهي بهذه الحُلّة مقبلة على كثير من الفوضى، وغياب البوصلة، وستنتقل من كونها مَغارة بيمين الدكتاتور إلى مَباءة ومرعى وبيل على يد لصوص وقتلة جُدد. وعلى إيقاع هذا الانتقال الرهيب ستمتد حكاية الخراف المذبوحة إلى كلماتها الأخيرة.
الزمان هو 9/4/2003. المكان كراج سيارات شعبي يبعد 10 كلم عن المنطقة الرئاسية في بغداد (المنطقة الخضراء حاليا). الحدث قصف شرس بالصواريخ والقنابل. هذه صورة بغداد التي كان يتمزّق ليلُها ونهارُها على الشاشات. وعلى ذكر السيارات، تتجلّى مقولة "الناس معادن" بوصفها مدخلاً اجتماعياً لفهم كثير من التحولات أو المحطات في حياة العراقيين. فهم يملكون قصصاً عن سياراتٍ رئاسية وشعبية أثرت في مجريات أحداثهم، منذ سيارة الملك غازي وصولا إلى اغتيال السيد محمد محمد صادق الصدر في سيارته الميتسوبوشي في التسعينيات من القرن الفائت.
معروفٌ لدى العراقيين أن صدام حسين كان يوزع سيارات فاخرة على شكل هبات لمسؤولين كبار، ولعناصر الأجهزة الأمنية، ولمعوقي حرب الثماني سنوات مع إيران.. "كورونا المعوقين" هكذا كانت تًسمى سيارة معوقي الحرب.
ورقة السماء تُمطر سيارات
في الشهور الثلاثة الأخيرة قبيل التاسع من نيسان/أبريل 2003، امتلأ الكراج الشعبي بسيارات من نوع أفلون، وكَالوبر، وسدرك، وأوبل. كان الكراج يتباعد قليلاً عن مركز القصور الرئاسية التي أضحت هدفاً للصواريخ. وقد جلب هذه الأعداد الكبيرة من السيارات رجالٌ مسلحون بأسلحة خفيفة، بين من يرتدي الزي المدني والعسكري. تركوا هذه السيارات بمفاتيحها وترابها وذهبوا مع الريح. ومن بقي من السكان القلائل في المنطقة ظلت تلفُّ تصوارتهم الدهشة، ويعبث بأفواههم الذهول عمّا يمكن أن يُقال أو لا يُقال بشأن هذا التكدس الفاخر للسيارات في كراج شعبي مُحاط بحزام طويل من الفقر، وأساطين القاع.
بلا شك لعبَ في أذهانهم الشيطان، وسوّلت لهم أنفسهم أنّ هذه السيارات ربما ستكون حصتهم من النفط.. لم لا؟ فهم جماعات هامشية عجزت على الدوام عن التوصل إلى نصيب عادل من وسائل العيش، ويتحركون في إطار مُضاغنة بينهم وبين الطبقة التي كانت تقف وراء هذا التحشُّد الأرستقراطي لتلك السيارات القادمة من أرض أحلام.
ومرت الأيام ورياح الصواريخ العاتية على المنطقة، وبات يُسمع صوت سرف الدبابات الأمريكية وهي تجوب مركز بغداد الرئاسي ومحيطه الشعبي في حي التشريع، والصالحية، وكرادة مريم، والعلاوي، وشارع حيفا..
ورقة بنجامين فرانكلين
على الرغم من حزام الفقر الذي يطوق الكراج الشعبي، إلّا أنّ سكان هذا الحزام، وهم قلائل بسبب هرب الباقين إلى ملاذات آمنة من القصف، لم تمتد أيديهم للاستيلاء تلك السيارات اللامعة. وظلوا يُشاهدون موجاتٍ من الغرباء المسلحين الذين تعاقبوا على أخذ تلك السيارات أو التصرف بها. أولى طلائع هؤلاء الغرباء كانوا جنودا من البيرو التي تتحالف مع أمريكا، بدؤوا يرطنون بلغتهم ويتجولون مع أرتالهم العسكرية المجوقلة بشأن تلك السيارات، فأخذوا بعضاً منها معهم.
فيما بعد نزل إلى الكراج رجال يرتدون الزي الكردي ومعهم دولارات كثيرة. لكن من يبيع لهم تلك السيارات الرئاسية؟ وفي حيص بيص الأحداث ظهرَ مالكون فجأة وراحوا يتفاوضون مع الأكراد وفلوسهم من أجل بيع هذه الكالوبر، أو تلك الأفلون، أو هذه الأوبل! وعلى ذكر سيارة الأوبل، كان هذا النوع مفضلاً لدى الانتحاريين الإرهابيين حتى أنّها لُقبت فيما بعد بـ"همر المجاهدين"، نظراً للهجمات المتكررة المنفذة بهذا النوع من السيارات على مدى ثلاث سنوات متعاقبة (2005 و2006 و2007) في محيط بغداد وداخلها، وفي محافظة ديالى، وفي شمال محافظة بابل.
لم يعرف سكان الكراج الشعبي ممّ ينتقمون: عنف السلطة الماضية وتعسفها؟ أم الفقر وزراية العيش؟ أم من يوميات اجتماعية بلا عدالة؟ أم من الأمريكان؟ لقد اهتزّ وجدانهم بكل تلك الضغوط، وهم منذ 2003 إلى يومنا هذا، ظلوا مَحَاويجَ للمادة والكرامة وضرب من عدالة ما. وفي عراق يصعب عليه إنصاف متنه، كيف سيكون حال الهامش فيه؟
كما كان للجنود الأمريكان حصة في تلك السيارات، فقد جاؤوا بدباباتهم وقناصيهم إلى الكراج المليء بالسيارات الرئاسية المتينة، بصحبة قوات تابعة لأحمد الجلبي. وقوات أحمد الجلبي جنود يرتدون المرقط ويعتمرون قبعات دائرية متوسطة الحجم، ويحملون في أيديهم هواتف من نوع "الثريا". وكانوا هم الموجة الأخيرة التي اقتحمت الكراج الشعبي وأخذت ما تبقى معها من السيارات.
في يوم 11/4/2003 عصراً، تمّ نسف الكراج الشعبي بالقذائف وتحول إلى تلة مرتفعة من الرمل والجثث. ونتيجة للطرق المقطوعة، سيتم دفن الضحايا في مقبرة الشيخ معروف الكرخي القريبة.
ورقة الثأر
مكونات سكان الكراج الشعبي يتلوّنون بين حمّالين وباعة متجولين وعمال نظافة، ومجاذيب من نساء ورجال يعيشون على أبواب المساجد الكبيرة، ومراقد أهل الكرامات في بغداد. كانوا عرضة للاضطراب السياسي والأمني، وجعلتهم القوى السياسية ذات المشاريع المتنافرة كُتل مناورة و"جمهوراً" عند الحاجة. وهذا الأمر أدّى لأن تتحول المضارب الشعبية للسكان إلى ألبوم شديد التناقض والعنفية لصور السياسيين.
واقع الأمر، لم يعرف سكان الكراج الشعبي ممّ ينتقمون: عنف السلطة الماضية وتعسفها؟ أم الفقر وزراية العيش؟ أم من يوميات اجتماعية بلا عدالة؟ أم من الأمريكان؟ لقد اهتزّ وجدانهم بكل تلك الضغوط، وهم منذ 2003 إلى يومنا هذا، ظلوا محتاجين للمادة والكرامة وضرب من عدالة ما. وفي عراق يصعب عليه إنصاف متنه، كيف سيكون حال الهامش فيه؟