عراق الـ 56

قبل 14 عاماً، شهد العالم غزو القوات الأمريكية وحلفائها للعراق، واحتلالهم للعاصمة بغداد، ثم إقامتهم لنظام المحاصصة. الحصيلة كارثية: سيادة النصب والاحتيال كطريقة في إدارة السلطة والثروة.
2017-04-07

أمجد صلاح

كاتب صحافي من العراق


شارك
أحمد السوداني - العراق

- يا أخي بلد 56.
- إي والله، تخيل دولة كاملة عبارة عن 56.
- المفروض يغيرون العلم.. يكتبون عليه 56.. وشعار الجمهورية يصير 56.

ويضحك الصديقان العراقيان المحبطان بعد أن أنهيا حوارهما بشأن واقع بلدهما بسخرية باتت الخيار الوحيد تقريباً لمجابهة المصائب التي تخرج من الأرض وتهبط من السماء لتصفع الحالمين في العراق وتنقلهم من قيلولتهم الهادئة الى هولوكوست اليأس الذي احترقت فيه آمال وطموحات وحيوات.

مصطلح "56" هذا حديث الولادة في العراق، لكنه صار واسع الانتشار لكثرة الحاجة لاستعماله، ولخفة إيقاعه وإيحائه الكوميدي عند نطقه. اشتق العراقيون هذا المصطلح من المادة 456 من قانون العقوبات العراقي، وهي المادة الخاصة بجرائم النصب والاحتيال. ومن أجل الاختصار، صار الرقم 56 يطلق على كل شخص أو مؤسسة أو مشروع يستند إلى أرضية الاحتيال.

 لا يدخل في باب المبالغة القول بأن أكثر ما تعامل معه العراقيون خلال الـ14 عاماً الماضية هو النصب والاحتيال. والكارثة أنهم عانوا هذا الأمر من مؤسسات الدولة ومن الطبقة السياسية القابضة عليها أيضاً

لا يدخل في باب المبالغة القول بأن أكثر ما تعامل معه العراقيون خلال الـ14 عاماً الماضية هو النصب والاحتيال. والكارثة أنهم عانوا هذا الأمر من مؤسسات الدولة ومن الطبقة السياسية القابضة عليها أيضاً، ومن يتتبع مسيرة "العراق الجديد" منذ سقوط النظام الدكتاتوري لغاية الآن، سيمر بمحطات عديدة كان فيها التلاعب والمراوغة وسيلة لتأسيس النظام الحالي القائم على اقتسام السلطة والثروة بطريقة تضمن لكل رأس كبير فيه حصته التي تصله جاهزة، من دون التعرض لخطر الملاحقة القانونية، ما دام ملتزماً بقواعد اللعب على طاولة المحاصصة. فعلى سبيل المثال، عند كتابة الدستور العراقي الجديد، نُفذت حملات مكثفة من الأحزاب والتيارات السياسية  ــ لاسيما الشيعية منها ــ لحث الناس على التوجه الى صناديق الاقتراع والتصويت بـ"نعم" للدستور، مستخدمة كل المحفزات الدينية والمذهبية والوطنية في ذلك. وعندما انهالت الأزمات لاحقاً، بدأ الجميع ينتقد الدستور وأخطاءه ودوره الأساسي في التدهور السياسي الذي أنتج تدهوراً على كل الصعد، والغريب في الأمر أن من بين من انتقد الدستور أشخاص كانوا قد ساهموا في كتابته!

تزخر المواقع الإلكترونية للوزارات ــ في زمن الوفرة المالية خصوصاً ــ بأخبار يومية عن توقيع عقود بملايين الدولارات لتنفيذ مشاريع سكنية أو خدمية أو ترفيهية عملاقة. وتمر السنين والمشاريع التي صرفت أموالها قابعة في قاع الوهم. وبعض تلك المشاريع كان ضحية ظاهرة هروب المقاولين التي انتشرت بشكل ملحوظ في فترة ما، حيث يتسلم المقاول أموال المشروع ويتركه بنسبة إنجاز لا تتجاوز 25 في المئة  ويهرب بالأموال الى خارج العراق. وبالطبع هذه العملية لا يمكن أن تتم إلا بتواطؤ من المسئولين الكبار في المؤسسات الحكومية الذين يحصلون على حصصهم ويواصلون حياتهم برخاء وسلام. كذلك يشاهد السائر في شوارع بغداد والمحافظات الأخرى أراضي في كل مكان محاطة بأسوار عليها صور جذابة لمشاريع تجارية وسكنية وغير ذلك، وخلف الأسوار لا يوجد سوى التراب وبضع آليات متوقفة عن العمل منذ سنوات.

 

عمران يونس - سوريا

 

ملف الكهرباء الذي أرّق العراقيين طيلة السنوات الـ14 الماضية، كان من الملاعب المفضلة لفرق "56"، ولذلك فإن ساعات إيصال التيار الكهربائي بقيت محدودة ولا تتجاوز 12 ساعة باليوم على الرغم من إنفاق نحو 30 مليار دولار على هذا الملف، وبقيت الوعود الزائفة هي التيار الوحيد الذي يحصل عليه الناس في البرد والقيظ، وكلما جاء رئيس حكومة ووزير كهرباء، كرر تعهداته بأن أزمة الكهرباء ستنتهي مع انتهاء السنة التي يتحدث فيها، وتنتهي السنة والمعاناة باقية.

فواجع ومجازر ونكبات كثيرة مرت على العراق بعد 2003، وما إن تقع واحدة منها حتى تسارع الحكومة إلى الإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق واسعة لكشف تفاصيلها وإعلان النتائج على الرأي العام. وبعد تجارب عديدة، صار العراقيون يدركون معنى اللجان التحقيقية: تخدير مؤقت. لم يسمع أحد إلى الآن شيئاً عن نتائج التحقيق في فاجعة جسر الأئمة التي وقعت سنة 2005، ولا التفجيرات العنيفة التي قتلت وأصابت الآلاف، ولا هروب مئات الإرهابيين من سجني أبي غريب والتاجي سنة 2013، ولا سقوط الموصل ومجزرة سبايكر سنة 2014، ولا تفجير الكرادة سنة 2016، ولا غير ذلك من الحوادث وفضائح الفساد التي لاذ المتورطون فيها بحصون أحزابهم المستحوذة على السلطات والمتمتعة بدور الخصم والحكم.

من يتتبع مسيرة "العراق الجديد" منذ سقوط النظام الدكتاتوري لغاية الآن، سيمر بمحطات عديدة كان فيها التلاعب والمراوغة وسيلة لتأسيس النظام الحالي القائم على اقتسام السلطة والثروة بطريقة تضمن لكل رأس كبير فيه حصته التي تصله جاهزة، من دون التعرض لخطر الملاحقة القانونية، ما دام ملتزماً بقواعد اللعب على طاولة المحاصصة

بهجة العراقيين بصناديق الاقتراع انقطعت أنفاسها مبكراً بعد أن أدركوا أن هذه الصناديق ليست سوى وسيلة من وسائل "البقاء للأقوى". فهي لم تنتج طيلة السنوات الـ14 الماضية غير الأحزاب والوجوه ذاتها. رئيسا مجلسي النواب والوزراء السابقان يصيران نائبين لرئيس الجمهورية ومعهما رئيس وزراء أسبق، ورئيس وزراء أسبق آخر يصير وزيراً للخارجية، بل أن أحد الشخصيات المعروفة في الوسط السياسي تسنم منذ عام 2003 لغاية الآن أربع وزارات مختلفة المهام والاختصاصات، حتى أطلق عليه العراقيون تسمية "ست البيت"، وهي الماكينة الصغيرة التي تؤدي وظائف عدة في المطبخ كفرم اللحم وعصر الفواكه وتقطيع البصل. ومرد ذلك إلى أن العملية الانتخابية في العراق تسير وفق أهواء ومقاسات الأحزاب الماسكة بالسلطة، وهذا ما أكده النائب السني عن محافظة صلاح الدين مشعان الجبوري في أكثر من لقاء متلفز، إذ أشار الى أن أكثر من  50 في المئة  من الأصوات التي تحصل عليها الكيانات السياسية متأتية من التزوير وبيع وشراء البطاقات الانتخابية.

عندما ثار الناس على هذا الواقع المزري وخرجت قبل أكثر من عام تظاهرات حاشدة تطالب بإصلاحات تشمل إنهاء المحاصصة وتشكيل حكومة تكنوقراط، هتفت كل الأحزاب والقوى السياسية بأنها مع هذه المطالب. لكن ما حصل على أرض الواقع هو تدابير مماطلة ومراوغة لكسب الوقت وامتصاص غضب الشارع عبر إجراءات صورية لم تمس جوهر الإشكالات، وقدمت الأحزاب أكباش فداء لإسكات الناس، فأقيل عدد من الوزراء ليتم استبدالهم لاحقاً بآخرين رشحتهم الأحزاب ذاتها، كما أن نواب رئيس الجمهورية الثلاثة (نوري المالكي وأسامة النجيفي وإياد علاوي) الذين ألغيت مناصبهم في 9 آب/ أغسطس 2015 بقرار من رئيس الوزراء حيدر العبادي، عادوا إلى المناصب بعد أن احتاجت المحكمة الاتحادية إلى سنة وشهرين لتقرر (في 10 تشرين الأول /اكتوبر 2016) أن قرار إقالتهم لم يكن دستورياً.

إزاء هكذا أنماط  ــ وغيرها الكثير ــ من السلوك الاحتيالي، يعشعش اليأس في نفوس العراقيين الذين يترقبون مستقبلاً مجهول الملامح، لكنهم يستطيعون دائماً تلمس آثار الرقم "56" في واقعهم الحالي.

مقالات من العراق

"شنكَال"؟

فؤاد الحسن 2024-12-23

لا يقبل الدين الإيزيدي الراغبين في الانتماء إليه، الذين لم يولدوا لأبوَين إيزيديين. وهو بذلك، كديانة، ليست تبشيرية، ولا نبي أو رسول للإيزيديين، وهذا ما يجعل علاقتهم مباشِرة مع خالقهم،...

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

للكاتب نفسه

الموصل المحررة والعقول الأسيرة

أمجد صلاح 2017-07-22

تحرير الارض وحدها لا يكفي. فهناك عقول تأثرت بفكر "داعش" ومن بينها نساء واطفال. يحتاج التخلص الفعلي من "داعش" الى إعادة ترتيب أوراق كثيرة بعثرها عبث القوى السياسية وتخبّطها