نحاول دائماً تلمّس وضعية المرأة في الواقع ويخيفنا عدم تحسنها، لكننا نادراً ما نرصد العوامل التي تساعد على ذلك، أو تعمّق من ثغراتها. ولأنّ السينما تعتبر الأكثر تأثيراً على الوعي الجمعي بين الفنون السّبعة، وعلى انتشار قيم أخلاقية، دون أخرى، تبرز الحاجة إلى قراءة صورة المرأة في السينما، وأبعاد هذه الصّورة التي لا يصنعها المجتمع وحده دون تأثيرات خارجية، بل تتشكّل بمساهمة جهات متعددّة، تؤثّر على وعيه بشكل خفيّ.
وفي أيّ قراءة لبعض الأفلام المغربية، تصدمنا صورة المرأة التي، على الرغم من بعض المحاولات لإنصافها، إلا أنّ غالبية الأفلام وغالبية الشّخصيات فيها تلعب دوراً سلبياً في تقديم علامات تحطّ منها. يتعلّل المخرجون بكونهم يقدمون هذه الصورة السّلبية لإحداث صدمة لوعي المتلقّي، أو لتقديم معاناة المرأة. لكن أيّ صورة مكرّرة لتصرّف معيّن تؤدّي إلى التّطبيع مع السّلوك السّيئ الذي تقدمه، عن وعي، أو من دون وعي.. وهذا أخطر.
سجن الضحية المؤبد
في فيلم"مسافة مِيل بحذائي" للمخرج سعيد خلاف، تترسّخ صورة المرأة "الضحية المسلوبة الإرادة" في شخصية زوجة الشرطي التي اتُّهم بطل الفيلم باغتصابها (الذي لعب دوره بإتقان، صاحب جائزة أحسن ممثل في مهرجان الفيلم الوطني، أمين الناجي). فرد فعلها غير منسجم مع الآثار النفسية المدمّرة للاغتصاب، وهي لم تمنح لدورها البعد الدرامي المفترض، وكان رد فعل الزوج أكثر تفاعلاً منها، بل في لحظة معيّنة طلبت الشّخصية من زوجها أن يقول شيئاً أو يصرخ أو يضربها بدل الموقف السلبي الذي اتخذه منها. قمة المازوشية إذأ أن تطلب الضّحية من زوجها ــ الذي كانت مغامراته خارج عش الزوجية عاملاً مساعداً في وقوع الاغتصاب، وآخرها بتخليه عن مرافقة زوجته من أجل سهرة ــ أن يضربها لينفّس عن غضبه مما حدث.
كلّ النساء في الفيلم كن ضعيفات وعاجزات عن فعل شيء، كما كانت شخصية الجارة التي لعبت دورها باحترافية، فاطمة الهرادي، (الفائزة بدور أحسن ممثلة في دور أول)، وقد كانت طريحة الفراش معظم الفيلم، وقعيدة الكرسي المتحرك في بقيّته. لم تستطع فعل شيء حين أُلقي القبض على سعيد الذي كان في مقام ابنها سوى السقوط أرضاً، والزّحف للاحتجاج على أخذه منها في يوم عرسه.
ابنة الجيران التي حملت من سعيد دون زواج، لم يظهر لها وجوداً حقيقياً، حتى عندما ذهبت لتخبره بحملها. كانت خائفة وطيّعة ومستسلمة، فلم تطالبه بأيّ شيء، بل اكتفت بإخباره أنها حامل، ومشاركته خوفها من أهلها، وطرحت الانتحار كحل بدلاً من أن تطالبه بالزّواج. ولولا "شهامة" سعيد لانتحرت.
نلاحظ أيضاً غياب التّنوع في شخصيات المرأة، حيث غلب نموذج وحيد على كافة الشخصيات النّسائية في الفيلم. مع غياب مواقف قوية للمرأة، عدا المساعِدة الاجتماعية أو الطبيبة النفسية التي كان يقص عليها سعيد حكايته، والتي على الرغم أنها ساعدته في آخر الفيلم، لكنها عجزت عن ذلك في مرحلة طفولته حين كان في أشدّ الحاجة لها. حتى الجارة العاجزة، كان كلّ ما استطاعت فعله لأجله هو الموت، بعد أن كتبت البيت باسمه.
المرأة لدى المخرج سعيد خلاف، إما غائبة/حاضرة، أو يفتح غيابها الكامل الباب لمستقبل ممكن، من خلال دخول الأم للسّجن بدل ابنها الذي قتل زوجها، وموت الجارة، "الأم البديلة".
إشاعة صورة مخيفة وسلبية تمجّد المرأة/الضّحية، عديمة الحيلة أمام مصائب الحياة وطغيان الرجل، من دون أدنى رد فعل، حتى بالغضب
بقية نساء الفيلم (شقيقة البطل وأمه) كانتا ضحيتين لقسوة زوج الأم الذي اعتاش من عرقها، وهي بعد ذلك تحملت السّجن بدل ابنها الذي قتله حين فاض به الكيل، بعدما أضاف لاستغلاله للأم أن أقام علاقة جنسية مع الابنة التي هربت وضاعت إلى الأبد.
صورة مخيفة وسلبية تمجّد المرأة/الضّحية، عديمة الحيلة أمام مصائب الحياة وطغيان الرجل، من دون أدنى رد فعل، حتى بالغضب. كل ما فعلته الأم/ الضحية الأولى في الفيلم، هو البكاء المُمسرح، وتحمّل مسؤولية زواج سيء النّتيجة على أطفالها.
المرأة كانت حاضرة في معظم شخصيات الفيلم، لكن حضورها كان تأثيثاً له، ولقصة البطل. فلم تقدر كل هؤلاء النّسوة على تقديم نماذج قوية للمرأة، بل كن أدوات فقط في قصة متعددة الأبعاد، دون أن يغصن في أيّ منها. قصة حاولت أن تقول كل شيء (كما هي عادة الأعمال الأولى). عدا لقطة واحدة اختار المخرج أن يظهر فيها في فيلمه ليقول لصديقه الشرطي: "المرأة سبب خيانة زوجها لأنها لا تضع المكياج ولا ترتدي ملابساً جميلة لزوجها بعد الزواج". المرأة تتحمل مسؤولية الخيانة الزوجية إذاً، وفي الباقي هي ضحية، أو شاهد، أو قربان.
حين يضرب معظم أبطال الأفلام نسائهم، يصبح من حق أي رجل أن يضرب المرأة، لأنه سلوك جاري العمل به ولأنه مخنوق جداً، ولأنه يراه في دائماً في الأفلام التي يشاهدها
الفيلم حمل قضايا اجتماعية ثقيلة دون أن يكون قادراً على تحمّلها درامياً، في غياب العمق المطلوب في المعالجة، وبالأخص تفاعلات العلاقات داخل المجتمع.
كلشيه التنفيس عن اختناق البطل
بينما في "البحر من ورائكم" للمخرج هشام العسري، وهو فيلم من نوعية مختلفة وأدوات سينمائية متمكنة تنتصر للمنحى الفني الإبداعي أكثر من الجماهيري، يظهر الرجل العربي مخنوقاً وضائعاً، عاجزاً عن كل شيء.. عن إيجاد نهاية لبؤس فرسه ("عربي")، عن قتل نفسه بعد أن فقد روحه، وعن إقناع صديقته بممارسة الجنس.. فيضربها بشدة. والغريب أنها تتقبّل هذا الضرب كرمز للرجولة التي لطالما انتظرتها من صديقها، والفحولة التي افتقدتها فيه. صحيح أن الفيلم يقدّم صورة كاريكاتورية سوداء لواقع عربي مختنق، لكن هل تمكن من التّعبير عن ذلك ومن صون صورة المرأة التي كانت ضعيفة أو خفيّة؟
لا يجد المخرجون المغاربة متنفساً للرجل المخنوق الذي يحاول الانتقام من المجتمع ومن سلسلة طويلة من الضّغوطات والإخفاقات، سوى بضرب المرأة، لإظهار حجم الغضب والنقمة. وهذه كليشيه تؤشر على فقر إبداعي كبير، وغياب للاجتهاد في تقديم رؤى ناضجة للمجتمع بعيداً عن الصور المسيئة للمرأة.
هذا اللّجوء المستمر للمخرجين إلى الانفجار الذّكوري العنيف في وجه المرأة، يكرّس الممارسات العنيفة ضد النساء، أكثر مما يحاول لفت الانتباه إليها. فحين يضرب معظم أبطال الأفلام نسائهم، يصبح من حق أي رجل أن يضرب المرأة، لأنه سلوك جاري العمل به ولأنه مخنوق جداً، ولأنه يراه في دائماً في الأفلام التي يشاهدها.
مع العلم أن الرجل دائماً ما يكون مغلوباً على أمره في السينما العالمية، لكنه يظهر اختناقه وغضبه عبر طرق كثيرة لا يشكّل ضرب المرأة إلا جزءاً بسيطاً منها، ويكون ضرورة درامية تحاول الانتصار لضعف المرأة أكثر مما تحاول تبرير حنق الرجل.
المرأة ليست هكذا، في أي زمن وفي أي مجتمع. المرأة كائن شرس، أبي، صاخب، متدفّق.. بدرجات نعم، تقل لدى البعض منهن، وتشتد لدى البعض الآخر، لكنها ليست كائن ميّت
إظهار العنف ضد المرأة بهذا الشّكل المتكرّر والمتساهل، يُظهر جهل المخرجين المغاربة بخطورة هذا النّوع من المعالجة السّطحية، ودورها في تكريس ثقافة العنف ضد المرأة، خاصة في مجتمع بالكاد يقرأ، ويعتمد على الصّورة المقدمة في الفرجة التي يتلقاها عبر السينما والتليفزيون والانترنت، في تشكيل وعيه الجمعي. وهناك تزايد لنسب العنف ضد المرأة التي انتشرت لدى الفئات الشابة والمتعلمة. فبعد أن كان العنف تصرفاً ينم عن جهل وأمية وتخلف الرّجل العنيف، أصبح الرجل المعنِّف رجلاً مختلِفاً تماماً. فهو شاب متعلم أو موظف يلجأ للعنف ضد المرأة لينفّس عن إحباطه العام، بعد أن كان الرجل الأمّي يضرب امرأته بسبب الغيرة، أو لأنه مخمور.
تنميط المرأة وفق الرؤية الذكورية
في فيلم "أفراح صغيرة" للمخرج محمد الشريف الطريبق، يغيب الرّجل وتحضر المرأة بطلة للفيلم، في مجتمع مغلق يعود إلى خمسينيات القرن العشرين، حيث تعيش أسرة محافظة تفاصيل يوميات بطلاتها. نساء تجمعهن علاقات متعددة، حماة، كنة، شقيقات، صديقات. وفي العلاقة الأخيرة يتداخل الحب مع الصداقة بين بطلتي الفيلم، حيث يظهر المخرج مثلية هذه العلاقة في إطار محتشم إلى حد ما، لكنه حتى في علاقة الغيرة التي نشأت بعد قرار إحدى الصديقتين الزواج، خنق صوت المرأة التي حاول تقديم حياتها، فكانت هادئة في غضبها، هادئة في رغبتها، طيّعة في الخضوع لقوانين الرجل التي لا تنزل الأرض، حامية لتقاليد المجتمع، وسلبية في كل شيء: في الكراهية، والحب، والرغبة، وفي الخوف. تتنفس في عالم مخنوق، حتى لتكاد وأنت تشاهد الفيلم تسمع أصواتاً مكتومة تتردّد من خلف الشّاشة.
المرأة ليست هكذا، في أي زمن وفي أي مجتمع. المرأة كائن شرس، أبي، صاخب، متدفّق.. بدرجات نعم، تقل لدى البعض منهن، وتشتد لدى البعض الآخر، لكنها ليست كائن ميّت كما قدمها الفيلم.
سجن المخرجون المغاربة المرأة في هذه الإطارات، فبالكاد تخرج منها في أفلام قليلة وفي أدوار معدودة. والمرأة مهضوم أمرها بلا شك في المجتمع والسينما مرآته، لكن هذه المرأة بالرغم من اضطهادها لم تكن مستسلمة بشكل قاطع وقطعي، بل لطالما صرخت واحتجت حتى ولو بين جدران أربعة. كانت حية على الرغم من كل شيء، كانت تقاوم بشكل ما.. حتى لو لم تنجح في تغيير وضعها فهي لم تخضع له بصمت الموتى كما تقدمها الأفلام المغربية.