كان الشّتاء هو صوت المطر ليلاً حين ينهمر من المزراب الذي في السّطح ويصب في الحمام الملصق بجسد الدار كالبثرة. يبدو شرح هذا صعباً، لكن هذا المزراب كان طبيعياً يوصل بين السطح والأرض الفلاء، وبعدها أحتاج جدي لأن يضيف بطريقة ما حماماً صغيراً للطوارئ، فألصق الحمام في منطقة المزراب. لذا كنا نعرف المطر: ينهمر من المزراب المرتفع عن الأرض حوالي متراً واحداً، يصب على أرضية الحمام ذات البلاط الأبيض! ولأن مطر صيفاً غالباً ما يكون هادراً سريعاً وراعداً، فلم نكن نميز صوت مياهه في المزراب، لكن شتاءنا كان ضبابياً كثيفاً، وكانت أمطاره وادعة، ديمة كما في الأغاني، تظل طوال الليل تنقر على الأرض.
تختبئ تحت غطاءك أو تنحشر في جلد إخوتك أو أبناء عمومتك، والمزراب يرسل لك بهدوء أمنيات الأحلام السعيدة. الفتيات هانئات إذ لن يذهبن في الغد لجلب الحشائش لأنها ستكون مبلولة تماماً، والرعاة من الفتيان والفتيات آملين بأن تستمر الديمة حتى الصباح المتأخر كيلا يستيقظوا باكراً، إذ لن تُخرج الماشية في جو كهذا، بينما الأمهات أعددن عدة الشتاء وسوف يجففن الإسطبلات الصغيرة للبقر ــ وكن غالباً لديهن بقرات ــ وقد يضعن هناك في تنك قديم جمراً مشتعلاً ليدفئ منطقة البقرة فلا تبرد ولا تمرض.. وتبقى دافئة أكثر من الأولاد، فهي الأهم بالتأكيد. وحتى الماء الذي تشربه البقرات يجب أن يكون دافئاً في الشتاء!
***
كنتُ بعد أن نكمل الحكايات والألعاب والمذاكرة، أحمل فانوسي المليء بالكيروسين، وأغادر الغرفة الكبيرة التي تنام فيها أمي مع إخوتي، أعد فراشي وسط الكراكيب التي تملأ غرفتي الصغيرة، وكثيراً ما كانت أمي تضع فيها البخور لتكون أدفأ. وكانت تلك سعادتي المطلقة: وحدي، أستمع للمذياع الذي كان لجدي، أظل أستمع لـBBC حتى السابعة مساء، بعدها أفقد الإرسال ثم أعود لإذاعة الكويت، وفي الليل لإذاعة صنعاء غالباً. ولم أكن لأترك المذياع يعمل حفاظاً على البطاريات إلا في حالة أن إذاعة صنعاء لديها سهرة مع فنان أحبه، وقد يكون عبد الحليم حافظ، وهنا فقط أخاطر وأتركه كي أستيقظ على أغنية عبد الحليم "زي الهوى". وخلال هذا أكون متماهية تماماً مع صوت المزاريب ممتزجاً بأحلامي عن الحب ورومانسية عبد الحليم. ولم يكن هناك من صوت في الخارج سوى همهمة كلبنا ودورانه حول المنازل، وإنْ نبح بقوة فذلك يدل على أن هناك شيء. كانت جدتي "سعيدة" تصرخ من كوتها الصغيرة: من هناك؟ كانت حارساً آخر للقرية، ولم تكن تنام في الداخل سوى في الأيام الماطرة، وغير هذا فهي تستوطن سطح غرفتها شتاءاً وصيفاً، ولا يمر كائن قبل أن تستعلمه من هو وأين وجهته. أتذكر كيف بعد أن ماتت، كان الكلب ينبح ويظل ينبح، فلا يسند قلقه أحد، ولا يستعلم عن خطوات الغرباء أحد.
الفتية الذين ارتدينا معهم ملابسنا الشتوية الغريبة يرابطون في جبهات متعددة وبإيديولوجيات مختلفة، ويحملون السلاح وهواتفهم الحديثة. ودارنا ما زالت جمراته مشتعلة لكنه استبدل إذاعة صنعاء وBBC بتلفزيون FRANCE 24، وجهاز الراديو خاصتي الذي أهدانيه جدي الراحل يقبع مهجوراً في أحد الصناديق
كان العالم فسيحاً جداً، رغم أن البيوت متباعدة صغيرة، محشورة بالعائلات الكبيرة. كان الإخوة يتشاركون نفس البطانية، والضباب خلال الشتاء يسكن أبداً قمم الجبال، وينزل قبل الظلام رويداً من علاه ليغطي القرى كلها فلا ترى شيئاً. ويبدو مخيفاً جداً أن تخرج للخارج، لذا فقد كانت ترسل التحذيرات للمسافرين الذين ينوون العودة: لا تعودوا في الليل، الضباب كثيف جداً حتى أنك لا تجد يديك! ثم تبدأ الحكايات المخيفة عن الحوادث الخارقة، والكائنات المرعبة واللصوص الذين يسرقون الماشية. ولسبب ما لم أكن أبداً أخاف من كل ذلك، وكان لدي خيال واحد خلال الشتاء، أني إذا ما فتحت النافذة ونظرت إلى الخارج فإني سأرى رجلاً وحيداً حزيناً يمر بجانب جدار اسطبل ماشيتنا، ولم أستطع أبداً إعطاء هذا الرجل وجه، كان خيال قفاه وصرته ووحدته التي تنطق بها انحناءته هي كل خيالات الشتاء الغريبة بالنسبة لي لكني لم أفتح النافذة قط.
أما ملابس الشتاء! فتلك حكاية، كانت بلا أصل معروف، كنت ألاحظ كيف أنّا جميعاً لدينا ملابس شتوية ليست ملابسنا، تُخرج فقط لأيام معدودة في السنة، لكن لا أحد يتذكر متى اشتُريت ولا كيف، ولا لمن كانت في الأساس وكيف وصلت لكل واحد، جيراننا وجيران جيراننا وهكذا. فإن سألت صبية: من أين لك هذه الكنزة؟ تجيب: لا أعرف أمي أخرجتها من شنطة ملابس الشتاء! وتبدو حقائب ملابس الشتاء كالشتاء ذاته: بالية قديمة لكنها دافئة وتتوارثها الأجيال كما هي بدون تعديلات غير لمسات إبرة الأم على الأماكن التي اهترئت. وهذا النوع من الملابس لا يلبس غير في أيام المطر وفي المنزل، لكن في الخارج يعود كل لملابسه العادية، خاصة النساء جالبات الحشائش والحطب. فقد كان من المستحيل أن ترتدي ذاك النوع من الملابس أثناء عملها، فهو يلتقط كل أشواك الحشائش بين أنسجته، وكنا نقضي وقتاً طويلاً لاستخراجها من ملابسنا!
يكون الشتاء ساكناً هادئاً، حتى اللحظة التي تطلع فيها الشمس مشرقة صافية، يتحول الكون كله إلى خلية نمل. في لحظة واحدة سترى الأمهات المرضعات مع أطفالهن يغتسلن بالشمس، والصبايا ينشرن الملابس، وغير الملابس: بطانيات، فِراشات، أغطية.. كل شيء ينشرنه على السطوح كأنما ليخبئن أشعة الشمس حتى الليل، والبقرات القذرات بروثهن أصبحن فجأة مستمتعات بالأكل ويحاولن تنظيف أنفسهن، والرعاة انتشروا بماشيتهم على الجبال، والجميع يغني ابتهاجاً بالشمس وقد عادت ملابس الشتاء لظلمتها من جديد.
حتى زرع الشتاء كان مختلفاً. كنا نزرع الشعير والذرة بخلاف موسم الصيف، وكان هذا سهلاً ومريحاً في زراعته. وسبب آخر يضاف لكي نحب جميعاً الشتاء، إذ نستطيع فلاحة الأرض المرتوية بسهولة ثم رمي الحَبّ كيفما شاء، فينمو كثيفاً غير مرتباً، ولم يكن ليصمد طويلاً بسبب قصر موسم الأمطار في الشتاء. لكنهم لا يستسلمون أبداً، دوماً يبذرونه، دوماً يحصدونه: إما ممتلئاً وإما بدون ثمره، فيكون علفاً للأبقار المتعبة خلال الشتاء. وما تبقيه الأبقار تستفيد منه النساء في إيقاد النار التي تصبح معركة في الشتاء كون الحطب غالباً ما يكون مبتلاً، وتلك الحشائش تكون سريعة الإشتعال، فتستخدمها النساء كوسيلة مساعدة، تماماً مثل الكاز لإشعال النار. كانت أمي امرأة حكيمة، تخبئ الحطب الجاف والغصون الكبيرة اليابسة في إسطبل دارنا، فيظل موقدنا مشتعلاً طوال النهار. كل من أحس بالبرد ذهب ليجلس بجانبه، وهناك الماء الدافئ المتوفر أيضاً طوال النهار، وفي الليل تبقى الجمرات التي تكافح لحياة أطول بينما تضع أمي عليها تنك الماء الذي ستتوضأ به لصلاة الفجر وسنغسل منه وجوهنا.
ألغت الحرب فكرة الرفاهية وأصبح الغاز مثله مثل أشياء كثيرة أخرى شيئاً غالياً جداً وكماليات لا يصل إليها الكثيرون، وتلك القمم المغطاة بالضباب والتي كانت محل حكايات التخويف، أصبحت مسكن المقاتلين ومنها تنطلق القذائف وإليها تتجه
أصبحت الشتاءات الأخيرة شحيحة المطر إن لم تكن منعدمة. ولم تعد البيوت مزدحمة، أولئك الذين تشاركوا البطانية ذاتها صار لهم بيوتهم الخاصة وأطفالهم، وربما أصبح أطفالهم الآن يتشاركون البطانيات، والفتية الذين ارتدينا معهم ملابسنا الشتوية الغريبة يرابطون في جبهات متعددة وبإيديولوجيات مختلفة، ويحملون السلاح وهواتفهم الحديثة، ودارنا مازلت جمراته مشتعلة لكنه استبدل إذاعة صنعاء والـ BBC بتلفزيون FRANCE 24، وجهاز الراديو خاصتي الذي أهدانيه جدي الراحل يقبع مهجوراً في أحد الصناديق الكبيرة.. استبدل حمام المزراب بحمام حديث أكبر، وحل محل صوت المزاريب أصوات القذائف والرصاص وأصوات الطائرات العابرة سماء قريتنا، والتي لم يعد أحد يعرف مهمتها ولا وجهتها. وإن سألتهم عن الذكريات فلن يمنحوك غير الإبتسام. لم يغادر الكثيرون أماكنهم، لكنهم غيروا أنفسهم وغيرتهم الحياة. كبر الصبية، وصاروا أمهات وآباء، وكثيرون أيضاً حققوا قصص الحب التي حلمنا بها بينما كنا رعاة في الجبال. ينقبض قلبي حين أسأل عن حالهم، فأعرف أن هناك آرامل وثكالى، كأن الأرض قد قفزت بهم لوحدهم.
لم تعد الأشجار تكفيهم ليحتطبوا جميعاً، كانت الأسر الجديدة قد اعتمدت على شراء الغاز، المتزوجات حديثاً أردن أن يثرن على الأساليب القديمة، وألا يدخلن في صراعات اقتسام أماكن التحطيب مع الجيل الأول. لكن الحرب ألغت فكرة الرفاهية وأصبح الغاز مثله مثل أشياء كثيرة أخرى، شيئاً غالياً جداً وكماليات لا يصل إليها الكثيرون. وتلك القمم المغطاة بالضباب والتي كانت محل حكايات التخويف، أصبحت مسكن المقاتلين، ومنها تنطلق القذائف وتتجه إليها، أرى الأمهات في هذه الشتاءات الباردة كثيرة الريح، يغيرن مواقع جلوسهن مع أطفالهن تبعاً لحركة الشمس مثل عباد الشمس، أرى البيوت الكابية والبحث عن الأحطاب، وسد النوافذ و"الكوات" بالخرق البالية كيلا يتسرب الهواء خلال الليل، وأسمع الأمنيات الطويلة بانتهاء الحرب والحصار، وعودة كل شيء على الأقل إلى ما كان، حيث يعود المتقاتلون إلى بيوتهم والضباب لمواقعه وإسطوانات الغاز تحملها النساء على رؤوسهن بديلاً عن حزم الحطب.