"لا يمكنكم الاتصال بهذا الرقم، قد يكون الجهاز مغلقاً أو خارج نطاق التغطية"، هذه الرسالة الصوتيّة هي ما حصلت عليه عند محاولاتي للتواصل مع أربع نساء يمنيات، من صعدة وتعز، شرّدتهن الحرب من بيوتهن وقراهن فحملن أطفالهن فوق ظهورهن ورحلن تبحثن عن مأوى وماء وفراش وبعض الأكل.
إحداهن تدعى هدية، هاجم مسلحون بيتها في حي الجحملية بتعز بحثاً عن "داعشي"، وأرغموها على المغادرة هي وأطفالها، فغادرته المسكينة في الساعة الثالثة فجراً لتغدو نازحة. اتصلتُ بهدية فأجابني رجل طيب لم يتعرف على اسم هدية، وبعد توضيح قصير تذكر الرجل هدية وقال لي: "ليست هنا، إنها في الحارة المجاورة". فاتصلت بالأخريات لكن هواتفهن كانت مغلقة. كرّرت المحاولة في الصباح، في الظهيرة، بعد الظهر، في المساء، بلا طائل.
ثم اتصلت بخامسة اسمها حمامة: عزيزتي، أود أن أجري معك مقابلة على الهاتف لأكتب مقالاً، هل توافقين؟
- نعم، تفضلي.
أولاً، أود أن أعرف كم عمرك؟
- عمري 47 سنة. لا، عمري يمكن 40!
عزيزتي، أنا أكتب مقالاً عن يوم المرأة العالمي الذي يصادف يوم الأربعاء القادم، 8 آذار / مارس، ولدي أربع أسئلة قصيرة.
سؤالي الأول، هل سمعتي بيوم المرأة العالمي؟
- لا والله ما سمعتش، أنا أرقد من المغرب لأني أجري من مكان لمكان، عندي ستة أطفال، أربع بنات وولدين أكبرهم عمره 12 سنة. أنا امرأة منهكة أجلب الماء كل صباح من المنظمة التي تساعد النازحين، أشتغل هنا وهناك لأسدد إيجار البيت في هذا المكان الجديد علينا، وأتابع اجراءات المنظمة لتسجيلي وأطفالي حتى أحصل على معونة غذائية وفراش للنوم. أعطونا فراشاً واحداً، كيف يكفي ستة أطفال وأمهم، أما زوجي فهو رجل شيبة ومريض وقد نزح إلى عدن.
الله يعينك ويعاونك! طيب، كيف تتخيلين أن يكون يوم المرأة العالمي؟
- والله ما أفهمش كيف يكون، لكن ممكن يكون يوماً للمطالبة بالحقوق، بس مين بيطالب؟ نحن أو أنتم؟!
- كلنا!
- خلاص، يكون يوم تطالب فيه النساء بحقوقنا زي توفير المساعدات الطبية والعلاج وخاصة للأطفال، يجيبوا لنا فرش، ومساعدات مالية أو أعمال، ويصرفوا لنا مواد غذائية.
حلو يا حمامة! شوفي، يوم المرأة العالمي هو يوم للاحتفال بانجازات النساء في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة وغيره، أنتِ كيف ترين هذه الفكرة؟
- هاه، مانيش دارية أن يوم المرأة العالمي هو هذا!
- طيب، كيف تشوفيه؟
ارتفع صوت حمامة فجأة وبحماس قالت:
- صح! هذا يوم صح، لازم تشارك المرأة بكل شي، لازم تدرس، لازم تتاجر، لازم تشتغل بكل حاجة بمقام الرجل.
- سؤالي الأخير، ألو.. ألو.. حمامة، تسمعيني؟! انقطع الاتصال! ثم، "لا يمكنكم الاتصال بهذا الرقم، قد يكون الجهاز مغلقاً أو خارج نطاق التغطية".
حمامة التي أجابتني على أسئلتي بصوت ازداد قوة حين قالت "صح، لازم تشارك المرأة في كل شي"، لم تخبرني بأن قدم ابنتها "نهلة"، 13 سنة، قد بترت بسبب انفجار لغم فيها كانت قد داست عليه بينما كانت ترعى الغنم في القرية التي نزوحوا إليها في تعز.
نازحة أخرى من صعدة إلى صنعاء، لا أعرف سوى اسمها الأخير – الصعدي - زوجها ذهب ليقاتل في الجبهة، وهي أم لطفلتين وحامل أيضاً. أضر قصف الطيران بما يملكونه من بيت وأرض في صعدة فنزحت وأخوها والطفلتان إلى صنعاء باحثة عن مساعدة طبية لتلد بسلام إذ هي لا تستطيع الولادة طبيعياً. في صنعاء، سكنت وعائلتها في بيت متواضع للغاية، واستمرت في البحث عن تلك المساعدة الطبية. وبالمصادفة دلتها سهى باشرين، مختصة الجندر في منظمة كير العالمية، على منظمة Mona Relief وتعهدت الأخيرة بإجراء عملية قيصرية لها ومنحها سلة غذائية قبل الولادة وأخرى بعدها!
ليس سهلاً أن تجري اتصالاً هاتفياً مع نازحة في اليمن، فقد يكون الهاتف مغلقاً لأن بطاريته قد نفذت من الشحن أو "خارج نطاق التغطية" لأنها لا تصل إلى الطرقات البعيدة والوعرة التي تسلكها النازحات وأطفالهن في رحلة نزوحهن المتكررة
الحجة نعيم، نزحت من قريتها في شرعب بتعز إلى خمس أماكن مختلفة خلال سنة فقط، كانت تبحث عن مأوى ومأكل في كل قرية. شاهدتُ فيلماً قصيراً لها وثقه "فريق رصد". كانت الحجة نعيم امرأة كبيرة في السن تحمل فوق رأسها حقيبة بلاستيكية صغيرة لأحد منتجات الغسيل، وتقول مشيرة للحقيبة: "هذا كل ما أملك، أحمله كل يوم من مكان لآخر وأبحث عن مساعدة". وأضافت - وهنا بكت الحجة نعيم: "جعلها في راسه من كان السبب، جعلها في راسه من ضيع الشعب، من خلانا نتشرد من بيوتنا ونشحت".
ليس سهلاً أن تجري اتصالاً هاتفياً مع نازحة في اليمن، فقد يكون الهاتف مغلقاً أو خارج نطاق التغطية. مغلقاً لأن بطاريته قد نفذت من الشحن، فأين لمثل هؤلاء النساء أن يجدن كهرباء في العراء. أو قد يكون الهاتف "خارج نطاق التغطية" لأنها لا تصل إلى الطرقات البعيدة والوعرة التي تسلكها النازحات وأطفالهن في رحلة نزوحهن المتكررة. أو هو مغلق وخارج نطاق التغطية لأن صاحب البقالة أو الخضروات قد امتلكه بدلاً عنهن مقابل تسديد ديونهن القليلة.
كان سؤالي الأخير لك يا حمامة: لو كان في اليمن يوماً وطنياً للمرأة، كيف تحبين أن يكون؟
نيابة عنك، أرجو ألا يكون يوما للمطالبة بحقوق النازحات في المأوى والمأكل والصحة والماء النظيف والحماية، أرجو أن يأتي يوماً في أقرب وقت لا يكون فيه نازحات في اليمن على الاطلاق، لا يكون فيه حرب.
--------------
أتقدم بالشكر الجزيل للناشط أكرم الشوافي، رئيس "فريق رصد" Watch Team، الذي ساعدني بتوفير المصادر من أجل هذا المقال.