واحدة من المفردات الشعبيّة التي ترددت حولي وأنا صغيرة كانت "طوَّاقة". كان هذا النعتُ ينطلق من أفواه النساء في مذمَّةِ أي امرأةٍ كثيرة الخروج من المنزل. "الطوَّاقة" امرأةٌ بالكاد تضعُ العباءةَ عن رأسها، تنحدر إلى الشارع في كلِّ وقتٍ، وتدور البلدة (أو تطوِّقها – ربما؟) بزياراتها. على ما يبدو، لم يعد النعت متداولاً كالسابق. لم تمتْ المفردة فحسب، بل الصورة أيضاً. لا لأنَّ اللغة الاجتماعيّة باتت أشدَّ رأفةً بالنساء، بل لأنَّ هذه الصورة تفترضُ في المرأة قدرةً على الخروج والحركة، وَسهولةً في مِلاحةِ الشوارع والأزقّة، وَأريحيّةً في طرقِ الأبواب ودخولها. مثل هذه القدرة كانت متاحةً لا لصغر مساحة البلدة وتقارب بيوتاتها فحسب، بل لكون طرقها وَشوارِعها مُهيّئة للسائرين قبل أيّ أمرٍ آخر. هذه الطرق الضيّقة الملتفّة والمتعرّجة دائماً كمتاهة أليفةٌ لمشاتها ومألوفةٌ لديهم، معَ قليلٍ جداً من الاعتبار للسيّارات التي يحملها ضيق الأزقّة إمّا إلى البطء الشديد أو إلى تفادي مغامرة العبور برمّتها.
ورغم أن المرأة لم تقتحم هذا الفضاء العام، إلّا أنّها لم تُقص عنه تماماً – كعابرةٍ أقلاً. كان حقّها في استخدام هذا الطريق كمركبٍ يعبر بها إلى ضفّةٍ أخرى متاحاً حتى حين. هذا الحقّ سلبته جغرافيّة الأحياء الجديدة، بمصفوفة المنازل الثنائيّة التي تشرف على شوارع إسفلتيّة تتسع لعبور السيّارات لكنها تفتقر إلى الأرصفة. في مثل هذه المساحات يصبح عبور الماشي طارئاً على المكان، محفوفاً بخطر الحوادث، وَمجبراً على مفاوضة حقّ الِعبور مع مركباتٍ معدنيّةٍ مصمتة، مفاوضةٍ لا يحسمها إلا مزاج سائق المركبة غالباً. ولأنَّ الشارع باتَ مساحةً للمركبات ابتداءاً، ولأنَّ سائق هذه المركبة – في السعودية – رجل بالضرورة، أُعلِنَ الشارعُ فضاءاً ذكورياً بامتياز، يتعسّر فيه عبور المرأة إلا بشكلٍ وجيزٍ أو اضطراراً. أصبح عبورها الشارع الآن محفوفاً بالأسئلة، باعثاً على الشك، محفزاً على التحرّش بها وترهيبها من خوض هذه المغامرة.