صيادلة مصر.. لون جديد للاحتجاجات الفئوية!

تستفيد شركات الأدوية الكبرى من زيادة أسعار الدواء في مصر فيما لجأ الصيادلة للإضراب بسبب الغبن الذي طالهم وأطلقوا حملة للتوعية بوجود مثائل من الدواء الواحد وكشف تلاعب الشركات
2017-02-28

بسمة فؤاد

باحثة من مصر


شارك
عمر نصيرات - سوريا

مؤخراً، رفع الستار في مصر عن لاعب جديد انضم للنّزال في ساحات الاحتجاج المصرية:  "صيادلة مصر"! فالإضراب الذي اعتزموه بالأمس القريب، لم يلجئوا إليه حين انسحب الأمن من الشوارع المصرية وبات اقتحامهم من قبل البلطجية والمدمنين خطراً حقيقياً محدقاً بهم. إبان صراعهم غير المتكافئ - إذ وقف صيادلة مصر بزعامة نقيبهم في جهة، ضد وزير الصحة وشركات الأدوية في جهة أخرى، عبأت تصريحاتهم الأجواء بمظاهر بؤس ومواطن خلل وشبهات فساد وصلت حداً قيل فيه "إنّها مافيا لصناعة الدواء" في مصر! لكنّ ضغط المفاوضات وجرأة الطرح و- ربما- وجاهة المطالب أفضت إلى الاستجابة الجزئية لبعض تلك المطالب. ربما هدَّأ نقابة الصيادلة "استعادة حقها في ترخيص المؤسسات الصيدلانية"، ولعل الموافقة على "زيادة هامش الربح وتصريف الأدوية منتهية الصلاحية"  تخمد نار الصيادلة، لكنّ ذلك لم يضع حداً ولم يقدم جواباً على ملفات فُتحت وصار البتّ فيها حقاً للرأي العام.

 

استجداء القانون

 

اتباعاً للقاعدة المعمول بها في مصر لصدّ الاحتجاجات العامة بالتعالي والاستنكار، كان أول رد لوزير الصحة إزاء نوايا الإضراب التي أعلنها الصيادلة، هو "الاستغناء عن خدماتهم"،  والاستعاضة عنهم بسيّارات متنقّلة في الشوارع تبيع الدواء. لكن هذا لم يدُم طويلاً - على غير المعتاد -  ربما لأنّ احتجاجات الصيادلة بدت مختلفة، فهي ليست على غرار تلك الفئوية التي تُرهق ميزانية الدولة بمطامعها فلا ترى الدولة حرجاً في صدها. إنّما اختصم الصيادلة مع الدولة – فقط – لتفعيل دورها الرقابي كمنظم موضوعي للصراع بين الأضداد الفاعلة والمتربحة من منظومة صناعة الدواء في مصر. "لماذا لا يكون هناك قانون عادل وشفاف يُلزِم بإعلان تكلفة صناعة الدواء ويُحدد نسباً واضحة لربح كلٍّ من الشركة والموزع والصيدلي؟"، كان هذا أحد المطالب التي أوردها صاحب صيدلية بدمياط أثناء اشتعال الأزمة، مثل تلك المطالب التي تبدو بسيطة ربما تكشف صفقات فساد تُفسّر بعض مظاهر الانحياز لرأس المال الذي تمثله شركات الأدوية الكبرى. 

 

الاستغناء عن الدواء!

 

مع انهيار قيمة العملة المحلّيّة (الجنيه المصري) مقابل الدولار الأميركي،  ضغطت شركات إنتاج الدواء على الحكومة لرفع أسعار الدّواء لتتمكن من الاستمرار في العمل، خاصة وأنّ صناعتها تعتمد بدرجة كبيرة على الاستيراد. ولمَّا نقصت بعض الأدوية في السوق امتثلت الحكومة لمطلب الشركات بقرار مجلس الوزراء رقم 32 الصادر في 16 أيار/ مايو  2016، والذي أقر بعض الزيادات على بعض الأدوية. وباستكمال الصورة نجد أنّ التّضخّم الاقتصادي قد فرض نفسه وامتد الغلاء ليشمل كل السلع،  فطفق الكل يعيد ترتيب أولوياته، ربما تخلى البعض عن الرفاهيات، فيما خرج الدواء - أو كاد يخرج - من القدرة الشرائية لبعض الفقراء يقول صاحب صيدلية بالقاهرة: أخبرتني السيدة أنها توفر جرعة الإنسولين بعض الأيام وتُعول على تقنين وجباتها الغذائية بدلاً من تناول الدواء"، ويزيد: "بعض المرضى يطلب صرف أهم الأدوية الموجودة  بالروشتة  فقط (...) ربما تكون الأعشاب الطبيعية بديلاً للدواء لغير القادرين في الفترات القادمة"، فيما يؤكد كلا الصيدلانيان أن ركوداً حقيقياً أصاب حركة بيع الدواء في الصيدليات، "فإن كان يتردد عشرة زبائن على الصيدلية  يومياً صاروا تقريباً ثلاثة أو أربعة على الأكثر". كانت تلك البداية، أشعل الركود غضب الصيادلة، ولما زادت الخسائر وبلغ الحنق مداه، فتح الغضب كل الملفات المؤجلة وجعل من الوقت الراهن وقتاً لإحقاق الحقوق.

 

اتباعاً للقاعدة المعمول بها في مصر لصدّ الاحتجاجات العامة بالتعالي والاستنكار، كان أول رد لوزير الصحة إزاء نوايا الإضراب التي أعلنها الصيادلة، هو "الاستغناء عن خدماتهم"،  والاستعاضة عنهم بسيارات متنقلة في الشوارع تبيع الدواء. لكن هذا لم يدُم طويلاً

 

التخوف من المثائل: أزمة ثقة .. أم خلل رقابي؟

 

وصف الدواء هو أحد أهم الملفات الساخنة التي طُرحت في احتجاجات الصيادلة المتصاعدة.  بصفة عامة، يوجد لكل دواء اسمين أحدهما هو اسم المادة العلاجية الفعالة (الاسم العلمي)،  والآخر هو الاسم الذي تمنحه الشركة المنتجة (الاسم التجاري). وحيث أن مصر تمتلك سوقا دوائياً ضخماً يصل فيه عدد شركات الأدوية حوالي 470 شركة أو يزيد، لذلك فإنه يتوفر لكل دواء عدد كبير من المثائل (Generics)، على سبيل المثال ليفوفلوكساسين  Levofloxacin  هو مضاد حيوي يستخدم لعلاج العدوى البكتيرية  (في الجهاز البولي / التنفسي/ ...أخرى) بجرعات وتركيزات مختلفة حسب الحالة المرضية، تنتجه أقراص -  بتركيز 500 ملجم - شركة "سانوفي افنتيس" باسم تجاري "تافنيك"، وشركة أدوية الحكمة باسم "نافاسين" والشركة الفرعونية باسم "لي فلوكس" وشركة المهن الطبية للأدوية باسم "ليفانيك"،  وبأسعار مختلفة هى على الترتيب (85 – 32.4 – 30 - 48) جنيه مصري.  لذلك انطلق – مؤخراً - الصيادلة بحملة توعوية من خلال بعض الصفحات الفيسبوكية (صفحة الدواء، صفحة الصيادلة المصريين... إلخ)، قصدت تعريف الناس بالمثائل المتاحة للدواء نفسه، مع حث المرضى على شراء المثيل الأقل سعراً،  والتأكيد على أن المثائل لها التركيب والفعالية نفسهما والاستخدام نفسه، وما الاختلاف بينهم إلا في السعر فقط. ومع ذلك يعاني بعض المصريين أزمة ثقة مع الصناعات المصرية، خصوصاً وأن فروقات الأسعار بين المثائل تبدو غير معقولة في كثير من الأحيان. وربما تشير خبرات بعض المرضى، فعلياً، إلى أن الدواء المستورد يكون أكثر فعالية.  يستنكر عموم الصيادلة ذلك ويرد أحدهم: "إنّ الدواء سلعة حيوية خاصة جداً ولا يمكن أن يكون به فرز أول وثاني مثل السلع الأخرى"، فيما يرد آخر: "إن حدث ذلك فإن علامات الاستفهام توجه حصراً نحو مدى وفاء "هيئة الأدوية المصرية " بدورها، إذ تختص بالكشف عن سلامة وفعالية الأدوية قبل وصولها للأسواق،  بما يضمن - في حال حدوثه - تكافؤ كل المثائل الموجودة بالسوق".

 

دعايات شركات الأدوية

 

من جهة أخرى، يُصرالأطباء على وصف الدواء باستخدام الاسم التجاري.  لذلك يبقى التطلع للهدايا الدعائية التي تصرفها الشركات المنتجة للدواء شبهة لا تُسهِّل تحرير النزاع بين الفريقين، يقترح صيدلي تقليل إنتاج عدد المثائل الدوائية (بدلاً من عشرين مثيل، يُسمح - مثلاً- بخمسة فقط) بحيث تتنازل الشركات المنتجة لصنف دوائي عن صنف آخر لمجموعة أخرى من الشركات، وفق رأيه، وإن ذلك من شأنه أن يقلل الرشاوي الدعائية ويجعل من جودة المنتج المعيار الرئيسي في المنافسة، "كما أن التخصص يُزيد من حجم الإنتاج، فيقلل الأسعارعلى المدى البعيد".  وبالنظر للتوجه العالمي، نجد أن منظمة الصحة العالمية WHO تصرف جهداً كبيراً لإحكام نظام "الأسماء الدولية غير مسجلة الملكية" INN والذي يتضمن إطلاق اسم واحد عام لكل دواء، يكون مرتبطاً بالمادة الفعالة وبعيداً تماماً عن أي علامة تجارية، والهدف من ذلك ــ بحسب المنظمة ــ  تقليل الارتباك وتسهيل التعريف بالدواء ووصفه وصرفه للمريض كما تسهيل الاتصال وتبادل المعلومات بين العاملين في مجال الصحة والعلماء في كل أنحاء العالم.

 

التضخم الاقتصادي فرض نفسه وامتدّ الغلاء ليشمل كلّ السلع،  فطفق الكل يعيد ترتيب أولوياته، ربما تخلى البعض عن الرفاهيات، فيما خرج الدواء - أو كاد يخرج - من القدرة الشرائية لبعض الفقراء

 

فوضى التسعير

 

رافق قرار زيادة أسعار الأدوية الصادر في أيار / مايو 2016،  فوضى عارمة في التطبيق، إذ أقرت نسبة الزيادة 20 في المئة على الأدوية التي سعرها أقل من 30 جنيه على نحو غامض أدى إلى التباس كبير عند التطبيق. في بعض الأدوية أقرت الزيادة على العبوة الدوائية ككل، وفي أخرى أقرت الزيادة على كل وحدة في العبوة، وفي غيرها أقرت بحد أقصى 6 جنيهات مع إهمال حساب النسبة المقررة سواء على الوحدة أو العبوة! وإمعانا في الفوضى، نزلت زيادة لأدوية ممنوعة من السوق بالأساس مثل دواء دوكسيل Duxil الممنوع منذ 2011 بينما نزل اسمه في قوائم الأدوية المزاد سعرها في 2016. في كانون الثاني /يناير 2017،  جاء  قرار الزيادة التالي  رقم 23  والذي  ورد في نصه: "يَعتمد  تسعير الأصناف الصيدلية التي أقرتها لجنة تسعير الأدوية، اعتباراً من التشغيلات التي سوف يتم إنتاجها أو استيرادها ودخولها البلاد بعد تاريخ العمل بهذا القرار"، يعني ذلك أن الدواء الواحد سيباع بسعرين في السوق نفسه، الأمر الذي يخالف قانون التسعير الجبري للدواء 163 لسنة 1950. فهل كان يؤسس  لتحرير سعر صرف الدواء على المدى البعيد ــ ومع الزيادات المتتالية ــ بحيث يختلف سعر الدواء من صيدلية لأخرى دون رقيب. أم قصَد التمهيد للمرضى الذين ستصل نسبة الزيادة في أسعار بعض علاجاتهم لـ40 أو 50 في المئة،  بحسب المعلن في القرار ؟

 

أرباح الشركات .. وأوهام الخسارة!

 

اجتمعت بعض القرائن لتشي بانحياز واضح لصالح شركات الدواء.  بدأ الأمر بتصريح وزير الصحة بقرار زيادة الأسعار قبل تطبيقه بشهرين، مما  أدى لاحتكار بعض الشركات للدواء. زاد على ذلك أن الزيادة الجديدة (كانون الثاني / يناير 2017) شملت حوالي ثلاثة آلاف صنف دوائي فقط، واللافت وفق الصيادلة أنها أدوية الشركات الكبرى الأكثر مبيعاً، ولم تشمل الأصناف الراكدة أو الأقل مبيعاً. الأغرب من هذا وذاك هو منع طمس السعر القديم من على المستحضرات الدوائية، لضمان تطبيق الأسعار الجديدة بعد تاريخ صدور القرار الوزاري،  لكن هذا الحظر لم يكن إلا على الصيادلة، أما الشركات فلا مانع من أن تفعل!  ووفق صيدلي، فإن المستحضر الدوائي "فينتوكف" (شراب) طمست تسعيرته القديمة ووضعت الجديدة بعد صدور القرار بفترة وجيزة. وهو  يعتبر أن هذا يدل على أن الشركات كانت على علم مُسبق بالقرار، لأن صناعة الدواء عملية تستغرق وقتاً طويلا، بدءاً من التصنيع مروراً بالتعبئة ثم الشحن وأخيراً التوزيع على الصيدليات. هذا في الوقت الذي تغدق فيه شركات الأدوية لتسويق منتجاتها. ويضيف: "أن أحد المستحضرات الدوائية (سعره 80 جنيه مصري) تعرضه الشركة المنتجة على الصيدلية بهدية علبة ونصف على كل عشر علب، فيما يعقد مندوب الشركة صفقة مع الطبيب في حالة وصفه للمنتج:  عشرون جنيه مقابل العلبة الواحدة مع نفاذ كل مئة علبة. وتزيد وتقل العروض الدعائية عن ذلك بحسب حجم الشركة ونوع الدواء". وبحساب تكلفة المواد الخام، يستدل بعض الصيادلة على أن بعض الأدوية تصل أرباحها لعشرة أمثال التكلفة.
ربّما يصح الآن الاعتقاد بأن شركات الأدوية تحقق أرباحاً هائلة، الأمر الذي لا يسوغ توقيع زيادة مرتين في العام نفسه على أسعار الأصناف الدوائية الموجودة بالسوق، كما يُصّعِب استيعاب حجم الخسارة التي تشكوها الشركات! بيد أنه من الصعب توقع استجابة حاسمة في بعض الملفات الفنية، بما قد يتعارض مع مصالح بعض اللاعبين الكبار في المشهد. الأفضل إذاً التنازل عن قطعة من الكعكة بما يُهدئ كل الأطراف. الآن لم يبق متضرراً إلا المريض. لا بأس.. سيعتاد!

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه