عين البصرة البصيرة ويدها القصيرة

الفقر يمشي على قدمين بالبصرة، جائلاً في ساحة أم البروم العاجة بالحياة برغم تكدس الفقراء فيها، فيما أغنياء المدينة لاهون بالنهب.. ليسوا أحفاد من أطعموا الفقراء في المجاعة بتلك الساحة نفسها.

2017-02-23

عاصم ترحيني

كاتب ومهندس من لبنان مقيم في ألمانيا


شارك
سوق العشار في البصرة / تصوير عاصم ترحيني

تكنس ساحة أم البروم في البصرة عنها تعب الأمس، وتتحضّر ليوم مزدحم وتراكم خيبات جديدة. تبتسم للدروب التي تلتقي عند عتبتها، وتفتح ذراعيها بشوق أُمومي لتستقبل الباعة الحالمين بربح بسيط يسدّ ثغرات حاجاتهم وعوراتها.

ساحة أم البروم قبلة القادمين من أطراف المدينة المترامية، ينتصب في وسطها تمثال لعامل يحمل فأساً، من يمر به يتمنى لو أنه ينقض بفأسه هذه على مارد الفقر الذي يتفشى ويتمشى في البصرة من طلوع الضوء حتى انسدال ستارة الليل.
 

جلّ ما تتمناه أن يؤجل الله موتها إلى يوم آخر، حتى تتزوج البنات، ويتحول زغب جناحي ولدها إلى ريش يُمكّنه من الطيران إلى بلاد بعيدة عن كل هذا الفقر وكل هذا الموت

حول التمثال، يتجمع عدد من الفعلة متأهبين لاقتناص فرصة عمل، يكرّرون الأحاديث ذاتها، كما في كل لقاء، عن شكوى الزوجات وازدياد عدد الأفواه الجائعة في البيت وانعدام الحيل للوصول إلى الرزق، يتثاءبون، يتأففون، يتشاكون، وكلما اتضح قرص الشمس فوق رؤوسهم، ازدادت وجوههم تجهماً وجباههم عبوساً وانقطع داخل قلوبهم حبل الأمل.

على مبعدة من مشهد العمال، يلملم عجوز متشرد جسده عن الرصيف، الذي شكل سريره ليلة الأمس. يتكوم أسفل الجدار بانتظار أن يمر أحد المحسنين، ينفث دخان سجائره ويغيب في صمته، يتمتم كلمات وأسماء وأطراف ألحان، كأنه يقلّب خيالات وتهيؤات غريبة، ويقيم في بعد فيزيائي وميتافيزيقي آخر.

قربه، تتحضر "الحجّية" الستينية، لمقارعة أعباء الحياة ومتطلباتها. هي أحد معالم الساحة، طاعنة مثلها في السن وفي الهم. مع وصول "الحجية" يتعدل مزاج الساحة وروادها، يصبح المشهد أقل سوداوية وأكثر رجاء. تعيد ترطيب الأجواء وترتيب الرصيف وتتنشط مع حركتها الدؤوبة أحلام الكسب القليل. تفرش بضاعتها ومنتجات بيتها الطازجة بعناية ودراية: الگيمر الحلوى، تشكيلة بهارات، التبسي والتشريب والمسگوف (أطباق عراقية)، والطُرشي (المخلل) على أنواعه.
 

البصرة اليوم فرغت قدورها، وازداد فقراؤها عدداً، أما أثرياؤها فتحولوا إلى مصاصي دماء، يعتاشون على دِين الفقراء وديونهم، ولم يكتفوا بإهدار ثرواتها وإفقار أهلها وحدهم، بل جلبوا من كل أنحاء العالم شركات ومحتكرين وسماسرة تقاسموا وإياهم نعيم الثروات التي تختزنها أرضها

أفنت "الحجية" عمرها في إعداد مأكولات لا تتذوقها، بل تشبع بها أفواه المقتدرين، وتظل هي على لحم بطنها حتى نهاية النهار. تشتهي عينها أن ترى في بيتها سفرة عارمة تفوح أطباقها الساخنة بروائح ما تبيعه، تعد نفسها بقرب وصول ذلك اليوم، تكتم آهة معذبة، وترفع عينيها إلى السماء. جلّ ما تتمناه أن يؤجل الله موتها إلى يوم آخر، حتى تتزوج البنات، ويتحول زغب جناحي ولدها إلى ريش يمكّنه من الطيران إلى بلاد بعيدة عن كل هذا الفقر وكل هذا الموت.

يستدير قرص الشمس أكثر، يكتمل، يتحول إلى قطعة نار ملتهبة ترسل سياطها في كل الاتجاهات، فتغلي أركان الساحة وتفور، وتتدفق إليها أعداد إضافية من الفعلة والبنائين وصباغي الأحذية وربات البيوت، تفتح أكشاك الصحف والعصائر وبسطات الثياب والكماليات المستوردة أبوابها، وتعبق أجواؤها بروائح لفات الفلافل واللبلبي والباقلاء وعرق المتسولين.

أم البروم، هي قلب العشار النابض، اكتسبت اسمها يوم فرش أثرياء البصرة البروم (القدور) لإطعام الفقراء أيام المجاعة التي مرت على المدينة في بدايات القرن الماضي.

البصرة اليوم فرغت قدورها، وازداد فقراؤها عدداً، أما أثرياؤها فما عادوا كما حدّثت الرواية، تحولوا إلى مصاصي دماء، يعتاشون على دِين الفقراء وديونهم، ولم يكتفوا بإهدار ثرواتها وإفقار أهلها وحدهم، بل جلبوا من كل أنحاء العالم شركات ومحتكرين وسماسرة تقاسموا وإياهم نعيم الثروات التي تختزنها أرضها، ودفعوا أهلها نحو جحيم الفقر والحاجة.

كل ما في البصرة ينطق بالفقر، مساكنها وسكانها، شوارعها، درابينها، متاجرها المتواضعة، تجاراتها البدائية، عمالها، مزارعوها، مقاهيها ومرتادوها، شعراؤها، متعلموها، مثقفوها ومتشردوها. وكلهم تائهون، مشتتون، مبعثرون أفكاراً وأحلاماً وجوعاً وجثثاً وقصائد.
 

لم أفكر يوماً أن الفقر كائن حي يمشي على قدمين، ويتنقل بين البيوت والأزقة والمدن، لم أتوقع يوماً أنه يمكنني أن أرى الفقر وأعيش معه وأحس بوجوده.. حتى التقيت به في البصرة

الفقر قدر البصرة، لا تبصر في البصرة إلا ما يجعل العين تتمنى الظلام. فيما مضى، حط الفراهيدي رحاله فيها، وعاش مستفيضاً شعراً وعروضاً في مدارسها، ثم مات  فقيراً معدماً. اليوم، حط فقراء البصرة رحالهم في "فِلكة الفراهيدي"، وها هم يتقاسمون فيها وكلاب المدينة وطيورها ما تجود به مآدب الأثرياء من فتات الصمون (الخبز) البائت وبقايا التمّن (الرز) اليابس، بانتظار موت على قارعة المجهول.

الفقر في البصرة له طعم ولون ورائحة، يمكنك أن تتذوقه وتراه وتشمه، في وجوه الناس، في حركة أجسادهم وأحاديثهم وعلاقاتهم مع القريب والغريب، في أمنياتهم ولوعاتهم.

هو في حديث إسماعيل الذي هجر عائلته الزبيرية المتدينة، وأقام في مركز الحزب الشيوعي حارساً و"چايشي" (بائع الشاي) في الاجتماعات الحزبية، يعيش على ما يهبه المحازبون من إكراميات، وما تبقى من مازات سهرات الرفاق السكارى. هو في هجرة علاوي، العامل في مطبعة في أحد درابين أم البروم، على قوارب الموت إلى السويد. هو شوق حسوني بائع العلاليك (أكياس البلاستيك) على مدخل سوق الخضّارة في العشار لنفر كباب حار (أي كباب لشخص واحد). هو أجساد الأحياء الذين تحسبهم أيقاظاً وهم رقود، التي تفترش الساحات والأسواق، فاقدة كل أمل، تحت لهيب الشمس الحارقة.

لم أعانِ الفقر يوماً، لم أكن أعرف عنه إلا ما كنت أقرأه في الكتب أو أراه في الأفلام، لم أفكر يوماً أن الفقر كائن حي يمشي على قدمين، ويتنقل بين البيوت والأزقة والمدن، لم أتوقع يوماً، أنه يمكنني أن أرى الفقر وأعيش معه وأحس بوجوده.. حتى التقيت به في البصرة.

"إنه لأمر ذو غرابة ارتطامك الأول بالبؤس" كما قال جورج أورويل حين تشرّد بين باريس ولندن. غريب نعم، الارتطام الأول بالبؤس، لكن الأغرب بعد.. الارتطام الثاني والثالث والعاشر والمئة أن تظل أنت نفسك، ألا يَضعف إيمانك، ألا يقوى، ألا تفرح بما لديك، ألا تغضب، ألا تكتشف تفاهة أحلامك وخططك للمستقبل، أن تكمل حياتك وكأن الذي مررت به كان مناماً، ألا يتحول ما مررت به إلى كابوس يؤرق ضميرك وقلبك وروحك، ألا تدرك أن معنى وجودك بلا جدوى إن لم تترجم تعاطفك إلى أفعال، إن لم تعلِّم الفقراء الصيد بدل أن ترمي لهم كل يوم سمكة.. أو أن تكتب عنهم في الجريدة!

مقالات من البصرة

لا ينال من كرامتها موت ولا حياة

تبتسم لوجهها في انعكاس المرآة، تفرد جدائلها وتسرّح عنها تعب الأيام. في عمق الصورة تشع ألوان جسدها من مواسم الصبا حتى حصاد التعب، تتفحص ثناياه، ثنية ثنية، تطمئن إلى تقاسيم...

عن البصرة وخرابها

عمر الجفال 2014-11-05

 "...بعد خراب البصرة" هو مثلٌ كناية عن حدث يقع بعد انتفاء الحاجة إليه. وقد عَمّ المثل بعد أن أُحرقت البصرة اخصاصاً وبيوتا وحارات، عشية سيطرة الزنج وصاحبهم علي بن محمد...

للكاتب نفسه

مراثي المدن

أترى ما زالت ورود شرفتنا خضراء؟ هل نجت مكتبتنا وصورنا ومقتنياتنا الخاصة العزيزة وذكرياتنا، من حقد الغارات التي استهدفت الحي من كل الجهات؟ يخصني "رائف" بعناق طويل. حمل "رائف" غيتاره...

عمارة كروغسون... فلينسبرغ

أكمل كل منّا ذكرياته، متنقلين ما بين مساقط رؤوسنا وأفئدتنا، شمال الجليل وجنوبه. هو يحدثني عن شاطئ حيفا وحي الألمانية، والمعارك اليومية ضد الاحتلال والماشتاب والمستعربين والمتعبرنين والتهويد والعنصرية، وأنا...

يسقط كل شيء

يوماً ما كتبتْ كفرنبل السورية "يسقط كل شيء". واليوم من بغداد إلى بيروت، تهتف حناجر الشرق الجديد الذي سنعبر إليه: يا حراس الهيكل وديكتاتوريات العصور الوسطى، يا حكم الأوليغارشية والتبعية...