تتعدّد أشكال التضامن في الحزن والفرح في المغرب العميق، وتتنوّع مظاهر التآزر في قرى الريف والصحراء، وتختلف بحسب تنوّع عادات وتقاليد وأعراف القبائل بالجنوب الشرقي والغربي للبلد.
طقس العزاء
عندما تخطف المنون فرداً من القبيلة، يتوجّه أكبر شيخ مختص في حفر القبور وغسل الموتى إلى بيت الفقيد، وفي يده عصا من عسوب النخيل، لقياس طول الميت، وبرفقته شاب من شباب القرية، لتعلّم تقنية قياس الميت وغسله وتكفينه وجهر قبره، بعد ذلك يقصدان المقبرة لحفر القبر.
بعد غسل وتكفين الميت، يُشرع في مراسيم الدفن. ينقل الراحل إلى المسجد للصلاة عليه، يمدد الميت أمام المصلين ، يتقدم رجل اشتهر بالإحسان والفلاح جموع المصلين ويلتمس منهم أن يتقدم كل من يدين للميت بدَين إلى عائلته للمطالبة بأداء الدَين، ويؤكد لهم أن الورثة عازمون على أداء ما بذمة الراحل من ديون قبل توزيع الترِكة. هنا يعلن الكرام من الحضور عن مسامحتهم للميت إن كان لهم دين بذمته، ويلتمسون من المشيعين أن يسامحوه في الحياة قبل الممات. تُعلن الحشود المشاركة في الصلاة على الراحل عن مسامحته، ويحمل النعش إلى المقبرة ليوارى الثرى.
داخل خيمة العزاء المبنية أمام بيت الفقيد، تجتمع جموع المعزين القادمين من كل شعاب وفيافي وقفار وقرى. فإن تزامنت الوفاة مع فصلي الصيف والخريف، يقدم للحشود أطباق من الرِطب (التمر الطازج) والماء، كما جرى العُرف لدى قبائل الصحراء والريف. وتقدم أطباق من التمر اليابس (المقصود بعد أن ييبس) في فصلي الشتاء والربيع.
يعدّد كل معزي مناقب ومثالب الراحل، ويسأل الرب أن يتغمده بواسع رحمته، ويوصي ورثته بمواصلة فعل الخير والاقتداء بأخلاقه وبخصاله الحميدة. ثم يلتمس المعزون من فقيه القرية أو القبيلة، أن يتلو دعاء يترحم من خلاله على الراحل، ويعلنون أنهم سامحوه في الدنيا والآخرة، ويسألوا الله أن يرزقه الجنة وأن يلحقهم به مسلمون.
مظاهر التضامن أثناء مصاب جلل
يعلن الحداد وجهاء "القصر" ( أي وجهاء الجماعة. والقصر هو سكن الجماعة المجسد بالدور الملتصقة ببعضها البعض، وبالامازيغية يقال له "إغرم"). يجتمع الرجال في المسجد لتلقي العزاء. يفد المعزون حاملين أكياس السكر وصناديق الشاي الجيد. يقدم بعضهم لعائلة الفقيد ذبائح وأموال وعطايا. ويجود كريم على العائلة المفجوعة ببدنة أو جمل لنحرهما ليلة تنظيم عشاء الفقيد. هذا إن كان الراحل من علية القوم أو له حظوة لدى قومه، وتكون عطايا المعزين ضئيلة إن كان الراحل فقيراً أو ذو مكانة اجتماعية متواضعة أو بسيطة.
تقصد نسوة القبائل والقرى المجاورة بيت الفقيد لتقديم واجب العزاء، وهن محملات بأطباق من سعف النخيل عامرة بالخبز الطازج الخارج للتو من التنور التقليدي، وبأقداح طينية مملؤة بالدسم والزبدة البلدية وبقرب من لبن، لدعم موائد الإفطار المقدمة للمعزين. يلجْنَ خيمة العزاء التي غادرها الرجال صوب المسجد. قبل وصول الحافلات إلى الصحراء والريف، كانت تُرى جماعات من النساء وهن متوجهات إلى القرى التي شهدت وفاة رجل أو امرأة، مشياً على أقدامهن، يحملن على ظهورهن وفوق رؤوسهن مأكولات شعبية تقليدية، لمساعدة عائلة الراحل على إكرام وفادة المعزين. وقد خفف وصول الحافلات اليوم إلى المغرب العميق نسبياً من معاناة النساء.
تلعب الجنائز في المغرب اليوم دوراً سياسياً خطيراً، لذا يسجل توافد محترفي العمل السياسي عليها، من البرلمانيين والمستشارين، لتسجيل حضورهم كرجال تواصل بامتياز يستمعون إلى هموم ومشاكل الكتلة الناخبة بالريف والصحراء المشهود لها بالتصويت بنسبة مرتفعة
وتتعدّد أشكال التضامن لدى ساكنة شعاب وجبال المغرب العميق، ومن مظاهرها نذكر أن العرف المحلي الشفوي المتوارث جيلاً عن جيل منع العائلة المكلومة من إيقاد النار وتقديم الطعام للمعزين لمدة ثلاثة أيام، واقر بقيام الجيران وأفراد القبيلة بتحضير وتقديم الطعام بدلها. كما تجرى مراسيم الدفن بسرعة امتثالاً لوصية كتب التراث القاضية بالتعجيل بدفن الميت إكراما له، وتعدّ ساكنة القرية قاطبة قصعة من الكسكس لكل "كانون" (يعني أسرة) وتبعث بها إلى بيت الفقيد.
تلعب الجنائز في المغرب اليوم دوراً سياسياً خطيراً، لذا يسجل توافد محترفي العمل السياسي عليها، من البرلمانيين والمستشارين، لتسجيل حضورهم كرجال تواصل بامتياز يستمعون إلى هموم ومشاكل الكتلة الناخبة بالريف والصحراء المشهود لها بالتصويت بنسبة مرتفعة. يساهم بعضهم في التكفل بمراسم الدفن وبطقوس العزاء ويقدمون دعماً مادياً ومعنوياً للأسر المفجوعة، طمعاً في الأصوات الناخبة الأكثر تأثيراً.
يشارك جميع سكان القرية والقبيلة، في الإعداد لعرس فتاة يتيمة، ويقدمون لها هدايا عينية ومالية، ويعتقدون أن كل من ساهم في حفل زفافها سيحظى بمباركة ورضا من الله
يذبح بعض المقتدرين خرافاً وماعزاً عصر اليوم الثالث على الوفاة، والمعروف محلياً بيوم "السلكة" وتعني قراءة ستين حزباً في بيت الفقيد في ذلك اليوم، ومدائح نبوية ومتون شعرية تذكر الأحياء بالموت وبجهنم، ويجزل من كان غنياً مالياً من المعزين العطاء للفقهاء ولتلاميذ المدارس العتيقة، ليلة قراءة القرآن ووهب ثوابه إلى روح الفقيد.
ينصّ العرف المحلي المتواتر في الصحراء والريف ولدى ساكنة جبال المغرب، على منع النساء المنحدرات من أصول وفروع الراحل إبداء مظاهر الزينة، أو تخضيب شعورهن أو نقش أيديهن أو أرجلهن بالحناء، أو تكحيل عيونهن أو مضغ "السواك" (عود من قشر الجوز تمضغه النساء لتزيين شفاههن ويستعمل كمكياج تقليدي) الذي يُصيّر لون شفاهن أقرب إلى "الكميت" (حمرة يداخلها السواد) قبل مرور أربعين يوماً على وفاة الفقيد. كما يمنع العرف ذاته على أقارب الفقيد عقد زواج أو حفل عقيقة، احتراماً لحرمة الميت، ويجوز بعد مرور الأربعين تنظيم العرس شريطة ألا يصاحبه غناء أو رقص.
وقد استغربت متطوّعة أمريكية تعمل في مجال الصحة بإحدى قرى المغرب العميق، في رسالة كتبتها إلى زميلة لها، من عادة عيادة نساء المغرب العميق لامرأة مريضة، وتقديمهن لهدايا محلية لها، ودعائهن لها بالشفاء. ودفعها ذلك إلى إجراء بحث حول الفرق بين ثقافة عيادة المريض لدى الأمريكان وسكان المغرب العميق.
العقيقة والختان والعرس
تقدم نسوة القرية أو القبيلة للنفيسة أموالاً ودجاجاً وبيضاً وملابس للرضيع، وتهدي أخريات لها لوزاً وتمراً وشعيراً وزبدة وسكراً. ويقدم لها والدها هدية معتبرة (كبشاً أو عجلاً ولوازم العقيقة) تُسمّى في العرف المحلي "تصربت" ويقضي العرف بأن تتكفل أسرة العروس بعقيقة المولود الأول.
يعلن كبير القبيلة أن "المعلم" (يقصد به الطبيب التقليدي) سيزوره في بيته لختان أبناء القرية الذين بلغوا سن الختان، ويحدّد يوماً ووقتاً معلوماً للحدث. يحضر الأهالي أبنائهم والأطفال اليتامى إلى بيت شيخ القبيلة لختانهم جماعياً. يبدون تضامناً فيما بينهم لإعداد وجبتي الفطور والغداء للضيوف، احتفاء بالعرس الصغير لفلذات أكبادهم. تقدم هدايا إلى أسر الأطفال المختونين: ملابس، قطع نقدية، سكر.
سابقاً كان الأهالي يتضامنون جماعياً للإعداد للعرس، يلم الرجال جريد النخيل للإستضاءة به، لأن الكهرباء لم تصل إلى العالم القروي زمنئذ، وتشارك النساء في عملية تنقية القمح وطحنه بالرحى، وإعداد البخور والحناء لتزيين العروس. واليوم لا زال الأهالي متمسكين بعاداتهم ومتشبثين بتقاليدهم التضامنية، ويعتبرونها جزءاً من تراثهم وحضارتهم. تشارك الفتيات العازبات في الطبخ وغسل الأواني وإعداد الطعام، وأداء بعض الرقص المحلي خلال أيام العرس التي كانت تستمر لمدة أسبوعين ثم تقلصت إلى أسبوع الآن في بعض القرى ولدى بعض القبائل، احتفاء بعرس زميلتهن. ويشارك الشبان العازبون في عملية الذبح، وتقديم الطعام للضيوف، وأداء الرقصات، وضبط الإيقاع أثناء غناء ورقص الفتيات.
ويشارك جميع سكان القرية والقبيلة، في الإعداد لعرس فتاة يتيمة، ويقدمون لها هدايا عينية ومالية، ويعتقدون أن كل من ساهم في حفل زفافها سيحظى بمباركة ورضا من الله، لأنه ساهم في إدخال السرور والسعادة إلى قلبها. ويسمون من تزوج بيتيمة بأنه "مبارك من عند الله"، وبأن الله "سيهبه رضا والديه".
وخلاصة.. يساهم التضامن في الحزن والفرح في وحدة القبيلة والقرية، من سكان المغرب العميق. وقد ساهم العرف المحلي في الحفاظ عليه وجعله ينتقل من جيل إلى جيل، ويعد اليوم من أرقى العادات والتقاليد التي ورثها الخلف عن السلف، مما دفع بشباب اليوم إلى حمايتها من الاندثار، وتشجيع الباحثين على إجراء دراسات تتناول الظاهرة، أملاً في الحفاظ عليها وضمان استمراريتها ونقلها إلى الأجيال الصاعدة.