نشرت دار الهندسة المعمارية البريطانية "وِستون وليامسون" مقترحاً معمارياً لأبنية سكنية صُممت لتستهدف العائلات الفلسطينية في غزّة والضفة الغربية. المشروع يعرض ما سمّته دار الهندسة بـ"مقارعة نقص المساكن" (combating housing shortage)، أو نقص الوحدات السكنية ذات الأسعار المعقولة بالنسبة للعائلات الفلسطينية محدودة الدخل. تقول الشركة بأن حوالي 70 في المئة من الفلسطينيين لا يجدون في سوق الإسكان الحالي ما يناسب ميزانياتهم المادية، وأن السوق قاصر عن تلبية احتياجاتهم المباشرة. وهي تعتمد على معطيات وفّرتها لها استطلاعات وإحصاءات من كل من مكتب "الرباعية" (Office of the Quartet) (الذي يعمل وسيطاً بين الإسرائيليين والفلسطينيين) والبنك الدولي.
الفكرة تتلخّص بمجموعة عمارات مركّبة من شقق سكنية حديثة ذات أسعار معقولة، تسمح كلّ منها بتوسّع مساحتها حسب حاجة القاطنين. مفترِضةً علاقة طردية بين دخل الأفراد وبين المساحة. أي أن سكان الشقق سيتمكّنون من توسيع مساحة منازلهم كلّما ازداد دخلهم. تقترح الشركة مجموعة خرائط لشقق تحوي الغرف الأساسية دون إضافات، حول مركز للمجمّع السكني يسمح بالانتقال والحركة ويشكّل مساحة مشتركة، وتكون لكل شقة شرفة كبيرة تابعة لها. تكبر الشقق مع سكانها، بحيث يستحدث السكان غرفاً جديدة من خلال الشرفات، كلّما دعت الحاجة. تشرح الشركة بأن "تُبنى أربعة ألواح لتسمح لاحقاً بالتوسّع باتجاه المساحات الخارجية في الشقة كلّما كبرت العائلة وكبر دخلها". الصفائح المصنّعة مسبقاً تسمح باستخدامها بعدّة أشكال، لتُمكِّن من صناعة الشكل المناسب للغرفة حسب الحاجة. وتختلف الشقق من حيث المساحة والتقسيم، فأصغرها بغرفة نوم واحدة وأكبرها بثلاث.
المساحات المشتركة أساسية في المشروع ومعدّة لرعاية السكان كمجتمع يتفاعل مع بعضه البعض، مثال على ذلك هو الطابق الأرضي الذي يضمّ مقاهٍ ومساحات التقاء حرّة. بحسب الشركة فإنّ التصميم مُعدّ لكل من الضفة الغربية وقطاع غزّة.
قارنت مجلّة "ديزين" الإلكترونية المختصّة بالعمارة هذا المشروع بالتصميم الطموح للمهندس التشيلي أليخاندرو أرافينا (وهو حاز العام الماضي على "بريتزكر" في العمارة، وهي جائزة مرموقة وعالمية) لإنشاءات معمارية في المكسيك بُنيت كذلك لتكبر تدريجياً مع السكان.
هذا هو المشروع إذاً من وجهة نظر شركة وستون ويليامسون البريطانية. وهو أمر بغاية الأهمية أن تنتبه دور عمارة بمستوى الشركة إلى أزمة الإسكان الفلسطينية وتبدأ بلفت الأنظار إليها. لكن نظرة عامة على خرائط المشروع ومنطلقاته تنبّه أيضاً إلى أمور أخرى.
يشي التصميم المعماري بقصور ما في اطّلاع المهندسين والمصممين على شعوب المنطقة وفلسطين، وبخلل في فهمهم لحاجات الناس فيها وما يطلبونه عادةً في مكان سكنهم. وهو، وإن كان تصميماً متميّزاً وذا عناصر معمارية ملفِتة، إلا أنه غريب تماماً عن ثقافة المجتمع الفلسطيني وطريقة عمارته. هناك مشكلة وظيفية على سبيل المثال، إذ يحتل الزجاج حيّزاً لا بأس به من واجهات البناء المقتَرَح، تاركاً فضاءات الغرف الداخلية مكشوفة، ومتجاهلاً ثقافة أهل البلاد العربية وفلسطين، التي تميل نحو السكن في بيوت توفّر الحد الأقصى من الخصوصية. وإن غزَت الواجهات الزجاجية مدننا حديثاً، فهي غالباً واجهات تابعة لمبانٍ غير سكنية (شركات، مكاتب مشتركة، فنادق، أبراج.. إلخ)، أو لمبان سكنية فخمة مترامية المساحات ويتوفر فيها نظام ستائر حاجبة. إذا تصوّرنا مثلاً شكل هذا المبنى لو غطت كل واجهاته أقمشة الستائر ــ وهو ما سيحصل بالتأكيد إن سكنته عائلات فلسطينية ذات دخل متوسط – فهو سيخسر مفهومه الهندسي الجمالي، ولن يكون هذا خطأ السكان..
التصميم، وإن كان متميّزاً وذا عناصر معمارية ملفِتة، إلا أنه غريب تماماً عن ثقافة المجتمع الفلسطيني وطريقة عمارته
فكرة المساحات المشتركة ليست جديدة على العمارات السكنية الحديثة، خاصة حين تُصمَّم كمجمّعات سكنية. وهي لن تأتي بجديد في مجتمعاتنا حيث يلتقي الناس في مقاهي الأحياء وفي السوق القريب أو ساحات البلدات.. أما الفكرة المميِّزة للمشروع، المساحة السكنية التي تتمدد مع توسّع العائلة والدخل، فهي كذلك رائجة في بلدان المنطقة، والفرق أنها تتخذ في أغلب الأحيان طابعاً عمودياً عوضاً عن التوسع أفقياً كما في هذا المقترح. هذا ما يحصل عندما يبني أحدهم ويترك السطح معدّاً لاستكمال البناء وإضافة طابق أو غرفة أو غرفتين عند توفّر المال أو عندما تكبر الأسرة أو يتزوّج أحد الأبناء. لكنها في حالة المقترح البريطاني مهمة كخيار إضافي في مشاريع الشقق الجاهزة، وهو ما يفتقده معظم الناس الذين لا تتوفر لديهم إمكانية البناء.
اقتراح شقق في أبراج تتحول لمساكن دائمة في حالة الفلسطينيين بالضفة وغزة يعني وضع العائلات في علب (جميلة؟) مصفوفة بشكل عمودي، في بلاد تعاني أساساً من الاحتلال الإسرائيلي لأرضها واستمرار السطو على مزيد من الأراضي
المثير للاهتمام أن معظم المهندسين المعماريين المعلّقين على المشروع لفتوا إلى أن تكلفة هكذا أبينة مرتفعة فعلياً، وأن على الشركة المصمّمة تفسير كيف ستكون الشقق السكنية "بمتناول العائلات متوسطة الدخل" وذات كلفة منخفضة. أما الأهم من ذلك كلّه، فأننا نتحدّث عن مشروع يتنافس على السوق والطلَب، لا يذكر مسألة الاحتلال الإسرائيلي إطلاقاً، ويقارب مسألة الإسكان من منطلق تجاري، وإن روّج له من زاوية الهم الاجتماعي. وإن كان المشروع بالأساس لا يدّعي "الهدف النضالي" بغض النظر عن نوايا المهندسين.
مشروع شركة وستون وليامسون يطرح إذاً محاولة لعلاج مشكلة حقيقية موجودة، ويجب أن يكون مشجّعاً لتقوم دور عمارة أخرى بمقاربتها واقتراح الحلول.. لكنه طرح قد يكون شائكاً وخطيراً لناحية أبعاده. فاقتراح شقق في أبراج تتحول لمساكن دائمة في حالة الفلسطينيين بالضفة وغزة يعني وضع العائلات في علب (جميلة؟) مصفوفة بشكل عمودي، في بلاد تعاني أساساً من توسع الاحتلال على أراضيها واستمرار محاولات السطو على تلك الأراضي.