ترزح دولة مالي منذ فترة تحت وطأة أزمة أمنية وإنسانية وسياسية، تتفاقم مع الأيام ولا تلوح في الأفق بوادر لحلها قريباً، إذ تتسع رقعة سيطرة التحالفات المتطرفة المناوئة لسلطة باماكو ما يهدد أكثر باستقرار الدولة، وهذه الحال تلقي بظلالها على واقع الأمن في منقطة الساحل الإفريقي والدول المجاورة لمالي، وكذلك الجاليات الأجنبية الحيوية في الدولة، وتحديداً الجالية الموريتانية النشطة وكثيرة العدد.
جذور قديمة لأزمة متشعبة
أزمة مالي مركبة، ولها جذور قديمة، مثل مطالب سكان الشمال للاستقلال عن البلاد، وتحديداً منطقة أزواد، حيث تتركز المجموعات الطارقية والعربية، وكذلك مجموعة السونغاي، بالإضافة إلى أقلية من الفلان.
ومنذ استقلال مالي، ظل الشمال نقطة ضعف للدولة المالية أمام المطالبين بالاستقلال عن السلطة المركزية، ولذلك أسباب منها، التهميش الظاهر والجلي في مجالات التنمية الاقتصادية والقمع، على الرغم من أن مجموعات كبيرة من أُطُر الشمال ظلت جزءاً من الخريطة السياسية الحاكمة في مالي، بتواجد وزراء ومسؤولين كبار من الشمال في أعلى المناصب الحكومية، لكن ذلك لم يجعل المطالبة بالاستقلال تخمد.
ومع سقوط نظام القذافي، حدث انفلات أمني كبير في منطقة الساحل، وتدفقت الأسلحة إلى كل دول الساحل ومع انحسار بعض التنظيمات المتطرفة من المشرق، وصلت شظايا من فلول تلك الحركات إلى دول الساحل، ومن ضمنها مالي، وتأسست جماعات على فكر القاعدة وداعش، ومن هنا تدخلت الجزائر في وساطة بين باماكو والشمال، ويرى البعض أنها كانت لقطع الطريق على تحالف محتمل بين هذه الجماعات والحركات الوطنية في الشمال، والمطالبة بقيام دولة على أُسس لا تتقاطع مع فكر المتطرفين.
فن الحرب: تفكيك أوصال ليبيا
12-02-2014
الاضطراب في ليبيا ومنطقة الساحل
02-07-2014
وقد أدى ذلك التدخل إلى معاهدة الجزائر، التي وقعتها الحكومة المالية برئاسة الرئيس المالي الراحل إبراهيم بوبكر كيتا، مثلت هذه الاتفاقية بحس البعض أمل سلام لمالي، لكنها ما لبثت أن تم إلغاؤها بعد سقوط نظام كيتا بانقلاب عسكري في عام 2020، ومن هنا، انفجرت الأزمة من جديد، وحمل الشماليون السلاح، ودخلوا في مواجهة عنيفة مع الحكام الجدد، وفتحت بعد ذلك ثلاث جبهات قتال في دولة مالي، وهي جبهة: حركة ماسينا، وهي حركة مرتبطة بالقاعدة، ويقودها أمادو كوفا، وتنشط في وسط مالي، ويغلب عليها عنصر الفلان، وجبهة "نصرة الإسلام والمسلمين"، بقيادة إياد آغ غالي، وهي ممثلة القاعدة في غرب إفريقيا، ويتركز نشاطها في الشمال والشمال الغربي، وهي خليط من العرب والأمازيغ والسونغاي والفلان، وميلشيات الدونزو، وهم مجموعة مرتبطة بالحكومة، وقد نُسبت إليها عدة مجازر في وسط مالي ضد الفلان.
تمثل مالي منذ عام 2021 نموذجاً حياً للتحول الجيوسياسي في منطقة الساحل، إذ أدى تعاقب الانقلابات العسكرية إلى قطيعة مع النفوذ الفرنسي التقليدي، والتوجه إلى الدب الروسي كبديل استراتيجي. وقد تجسد حضور موسكو في تكامل بين الدعم العسكري الميداني عبر مجموعة "فاغنر"، وبين خطاب دبلوماسي يرتكز على السيادة الوطنية ومناهضة الهيمنة الغربية، وهو ما وجد صدى واسعاً في الداخل المالي.
وفي بداية شهر أيلول/سبتمبر المنصرم، قررت الحكومة المالية حظر بيع المحروقات في الشارع أو السوق السوداء، واقتصر السماح ببيعها على المحطات. وتوجد هذه المحطات غالباً في المدن وبالقرب من المراكز الأمنية، وهذا سيحد من حصول عناصر الجماعات المسلحة عليها ، حيث لا يمكنهم الاقتراب من المدن وإلا سيتم القبض عليهم، خاصة أنهم يستخدمون غالباً دراجات نارية ذات حجم كبير ومعروفة لدى الجميع بسبب شكلها الغريب. لكن الجماعات المسلحة ردت على هذا القرار بتهديد لم يلبث أن صار أمراً واقعاً، وهو أنها لن تسمح بمرور إمدادات الوقود للمدن الكبرى. وبدأت موجة من إحراق صهاريج الوقود على كل المنافذ البرية بين مالي ودول الجوار.
ومنذ منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي، والدولة تعاني نقصاً حادّاً في الوقود، ما أدى الى تدخل الجيش ليرافق الصهاريج، وهو أحياناً يتعرض لهجمات عنيفة.
وأدت هذه الأزمة إلى دعوات من دول عربية عديدة لمناشدة مواطنيها الخروج فوراً من مالي، وقامت الشركات العالمية الكبرى للشحن بإيقاف إيصال البضائع لمالي. وتوجد هذه الأيام قرابة 2800 حاوية متعطلة في مطار داكار بسبب رفض الناقلين إيصالها لمالي، وهو ما يسبب أزمة كبيرة في التموين، وقد سافرت وزيرة التجارة المالية قبل يومين إلى داكار لحل هذه الأزمة، لكن من دون جدوى حتى الآن.
ويمكن القول إن الأزمة المالية هي نتيجة مباشرة لتفكك العلاقة بين المواطن والمؤسسة الرسمية، حيث يؤدي تضاؤل سلطة الدولة ومصداقيتها إلى تزايد الاستقطاب المجتمعي وتصاعد وتيرة الصراع.
مكانة مالي
تمثل مالي منذ عام 2021 نموذجاً حياً للتحول الجيوسياسي في منطقة الساحل، إذ أدى تعاقب الانقلابات العسكرية إلى قطيعة مع النفوذ الفرنسي التقليدي، والتوجه إلى الدب الروسي كبديل استراتيجي.
وقد تجسد حضور موسكو في تكامل بين الدعم العسكري الميداني عبر مجموعة "فاغنر"، وبين خطاب دبلوماسي يرتكز على السيادة الوطنية ومناهضة الهيمنة الغربية، وهو ما وجد صدى واسعاً في الداخل المالي.
لدولة الإمارات وجودها أيضاً في مالي، حيث تُكثف أبو ظبي استثماراتها، لا سيما في قطاع الذهب الذي شهد صفقة كبرى بقيمة 375 مليون دولار عام 2025، ضمن استراتيجية أوسع شملت ضخ 110 ملياردولار في أفريقيا. وتلاحق هذه التحركات اتهامات بضعف الشفافية ووجود تدفقات غير رسمية للمعدن النفيس باتجاه الإمارات. وميدانياً، تتقاطع المصالح الإماراتية مع النفوذ الروسي لتقليص الدور الغربي، مستغلة الفراغ الذي خلفه تراجع فرنسا.
ومن خلال استثمارها في الفراغ الأمني، الناتج عن انسحاب القوات الدولية وبعثة "مينوسما"، رسخت روسيا أقدامها كقوة في المنطقة، ولم يقتصر هذا التمدد على باماكو فحسب، بل امتد ليشمل تشكيل محور إقليمي جديد يضم النيجر وبوركينا فاسو، مما أعاد رسم خريطة التحالفات في القارة الإفريقية.
وهكذا تحولت مالي من ساحة للتعاون الأوروبي-الإفريقي إلى حجر زاوية في صراع النفوذ بين القوى الكبرى الساعية لإعادة صياغة النظام الدولي.
وبدورها وجدت تركيا مكاناً لها في مالي، ومنطقة الساحل الأفريقي، بسبب التحولات في المنطقة. فمن خلال الانتقال من سياسات "القوة الناعمة" والمساعدات التنموية إلى التعاون العسكري التقني، استطاعت أنقرة فرض وجودها كلاعب مهم، عبر تزويد دول التحالف بطائرات "بيرقدار" و"أكنجي" المسيرة.
وتمتاز هذه الشراكة بفاعليتها العالية وتكلفتها المنخفضة، مما مكّن جيوش مالي والنيجر وبوركينا فاسو من تعزيز قدراتها الدفاعية في مواجهة التهديدات وتأمين الحدود. وبذلك، استثمرت تركيا عقيدة "العمق الاستراتيجي" لتدخل في منافسة مع النفوذين الروسي والغربي، محولةً المنطقة إلى ساحة نفوذ تركية صاعدة.
ولدولة الإمارات وجودها أيضاً في مالي، حيث تُكثف أبو ظبي استثماراتها، لا سيما في قطاع الذهب الذي شهد صفقة كبرى بقيمة 375 مليون دولار عام 2025، ضمن استراتيجية أوسع شملت ضخ 110 ملياردولار في أفريقيا. وتلاحق هذه التحركات اتهامات بضعف الشفافية ووجود تدفقات غير رسمية للمعدن النفيس باتجاه الإمارات. وميدانياً، تتقاطع المصالح الإماراتية مع النفوذ الروسي لتقليص الدور الغربي، مستغلة الفراغ الذي خلفه تراجع فرنسا.
جالية نشطة في مهب الأزمة
تلقي الأزمة المالية بظلالها على واقع الجالية الموريتانية في مالي التي تعد من أكثر الجاليات الأجنبية حضوراً وتأثيراً في المجال الاقتصادي، وخاصةً في قطاع التجارة، وهي كذلك من أكبر الجاليات عدداً، على الرغم من غياب الإحصاءات الرسمية، ولها جذور ضاربة في القدم، سبقت استقلال البلدين، ويحمل بعض أفرادها الجنسية المزدوجة، وقد نال أفراد الجالية الموريتانية ما نال الشعب المالي من أزمات، وتأثروا بها سلبا، لا سيما الأزمة الأخيرة، حيث صارت الجماعات المسلحة تقطع الطرق بين المدن، وحتى بين مالي ودول الجوار، بما في ذلك موريتانيا.
لكن الضرر الأكبر الذي لحق بالموريتانيين مؤخراً، يتمثل في إغلاق محالهم التجارية، وتحديداً سوق بغداد، وهو أكبر سوق خاص بهم في قلب العاصمة باماكو، وقد أُغلقت محلاتهم نتيجة لتأخرهم في استكمال وثائق تخص قانونًا ضريبيًا تم استحداثه عام 1996.
وقد تحدث كثير من المتضررين عن استكمالهم لجميع الوثائق المطلوبة، لكن السلطات المالية لا تزال تُصر على إغلاق محلاتهم. وعلى إثر ذلك، تظاهروا أمام السفارة مرات عديدة مطالبين بالتدخل لحل هذه المشكلة، لكن من دون جدوى.
موريتانيا تدفع ثمن الحرب على مالي
07-05-2013
وفي شهر أكتوبر المنصرم، زار وزير الخارجية الموريتاني مالي واجتمع بأفراد الجالية، ووعدهم بحل المشكلة، وتَلَتْ ذلك زيارة رئيس أرباب العمل الموريتانيين في بداية شهر نوفمبر بهدف إيجاد حل لصالح هؤلاء التجار. ومع ذلك، وحتى اللحظة، لم يتغير الوضع، ولا تزال المحلات والسوق مغلقين، ويتحدث المعنيون بهذا الملف عن أربعمئة مَحَلّ تجاري تم إغلاقها من دون سابق إنذار.
تلقي الأزمة المالية بظلالها على واقع الجالية الموريتانية في مالي التي تعد من أكثر الجاليات الأجنبية حضوراً وتأثيراً في المجال الاقتصادي، وخاصةً في قطاع التجارة، وهي كذلك من أكبر الجاليات عدداً، على الرغم من غياب الإحصاءات الرسمية، ولها جذور ضاربة في القدم، سبقت استقلال البلدين، ويحمل بعض أفرادها الجنسية المزدوجة، وقد نال أفراد الجالية الموريتانية ما نال الشعب المالي من أزمات
الضرر الأكبر الذي لحق بالموريتانيين مؤخراً، يتمثل في إغلاق محالهم التجارية، وتحديداً سوق بغداد، وهو أكبر سوق خاص بهم في قلب العاصمة باماكو، وقد أُغلقت محلاتهم نتيجة لتأخرهم في استكمال وثائق تخص قانونًا ضريبيًا تم استحداثه عام 1996.
والأزمة المالية تهدد كذلك المشتغلين في مجال التنمية الحيوانية من الموريتانيين، إذ يعتمد قطاع الثروة الحيوانية الموريتانية، الذي يُعتبر من أهم مصادر الثروة في البلاد، بشكل كبير على المرعى المالي لخصوبته وقرب مياهه، وتكمن الأهمية الوجودية لهذا الترابط في أن القاعدة السائدة لدى سكان الولايات الحدودية هي أن المواشي لا بد لها من المراعي المالية لتصح وتنمو وتتكاثر، وتأوي ولاية الحوض الشرقي الموريتانية وحدها ما يمثل حوالي 50% من إجمالي الثروة الحيوانية التي تمتلكها موريتانيا، وهذا الارتباط الوجودي يعني أن تفاهم الأزمة وإغلاق الحدود أو التقييد لحركة الرعاة بشكل أكبر يشكل تهديداً لاستدامة قطاع التنمية الحيوانية برمته والأمن الغذائي الوطني، خاصة مع اقتراب موسم الجفاف، وتتركز الأنشطة الموريتانية بشكل كبير في المدن الرئيسية والمناطق الحدودية. وقد شكلت مدن مثل انيور ومحيط ليره، نقاط توترعالية.
هل تحقق موريتانيا الاكتفاء الذاتي؟
19-09-2024
ويأتي توقيت الأزمة الحالية حرجاً للغاية، حيث يتزامن مع انتهاء موسم الأمطار في موريتانيا، وهي الفترة التي يهاجر فيها الموريتانيون بمواشيهم تقليديّاً إلى داخل الأراضي المالية بحثاً عن المرعى، لذلك فإن التضييق الذي يحدث في هذه الفترة يضاعف من الخسائر المتوقعة على الرعاة والمواشي على حد سواء.
موريتانيا الرسمية والأزمة المالية
لا تزال موريتانيا الرسمية تدعم مالي في أزمتها، على الأقل في الخطابات الرسمية، إذ قال رأس الدولة محمد ولد الغزواني في تصريح له خلال لقائه مع مواطنين في مقاطعة عدل بكرو شرق البلاد، إنه: "يجب تفهم الظروف الأمنية في مالي، ومساعدة النازحين الماليين والصبر على وضعيتهم الإنسانية"، لافتاً إلى أن "الأزمات تحدث وتنتهي لكن المصير المشترك بين البلدين أقوى من أية تحديات أخرى"، ومؤكدًا أن: "دخول مالي في حالة حرب لا يجب أن ينسي الموريتانيين ما قدمت لهم مالي في فترة الرخاء".
هذا وتحتضن موريتانيا آلاف اللاجئين الماليين منذ سنوات بسبب أزمات مالي المتعددة، وتشتبك بدورها مع الأزمة لأنها أمر واقع ومصير مالي مهم لموريتانيا نتيجة لترابط البلدين والشعبين.




