على الشُباك بعدَ أن عُدت إلى مكتب عملي الأصلي، الذي اعتدتُ إطلالتهُ المجاورة لبحر غزّة، استعدتُ المشهد نفسه. غزّة الجميلة تفوحُ منها رائحةُ البحر وضجيج السيارات، مع هدوء الشارع الذي يكسر الضجة اليوميّة للأحياء السكنية المكتظة في المدينة. هُنا، حيٌ صغير مليءٌ بمقرّات المؤسسات الدولية والمُجتمعية، مقرّ للوفود الأجنبية، يجاور أشهر مناطق الفنادق والصالات وكورنيش البحر الشهير في أهمّ نقاطه، حيثُ الميناء.
المشهد نفسه، الرائحة نفسها، رائحة الشتاء الممزوجة بهواء البحر. لكن غزة تلك كانت بعيدة جداً، وما أن أشحتُ بنظري إلى الأسفل قليلاً، حتى انكسرَ المشهد. شارعُ البحر الشهير المجاور للفنادق، تحوّل إلى منطقة مُكدّسة بالخيام وما يُرافقها من مآسٍ: الحمّامات وخطوط الصرف الصحي اليدويّة، والحُفر الامتصاصيّة. الدمار في جوانب الشارع.
غزة: ثنائية الحرب والبحر المسكون بالذكرى
14-08-2022
في هذه المنطقة، كانت الدبابات الإسرائيليّة تتجوّل واتخذت منها مقراً دائماً في طريقها إلى قلب المدينة وأحيائها السكنيّة المكتظة، كأنّها سعت إلى تشويه صورة البحر التي نعرفها، وشارعه الذي كانَ مُستقراً يومياً لأغلب أفراح المدينة، ولهدوء أهلها وجمعاتهم العائليّة.
اشتدَّ المطر لأكثر من يوميْن، مع أوّل منخفضٍ جوي تعيشهُ غزّة في هذا الموسم. تأخّرَ المطرُ قليلًا، قال الناس إنها فرصة كي لا يغرق أهلُ الخيام، وكأنّ الاحتباس الحراري قرَر إعفاءهم من المهمّة لهذه السنة، لكنهُم كُلهم كانوا يدركون أنهُ مجرّد تأخير طارئ، وأنّ الضيف المُنتظَر سيأتي.
غرقت المدينة على مدار ثلاثة أيام من المطر، لينكشف الوجه الأقبح للحرب، والأسوأ لما خلّفتهُ من أثرٍ بينَ الناس. الحرب هُنا تتحوّل إلى تركيبٍ عجيب من المصائب، مصيبةُ تدمير البيت، فمصيبةُ الخيمة، ثم مصيبةُ الصيف وحرّه، حتى مصيبة عدم وجود مراحيض، وصولاً إلى مصيبةٍ أكبر يجرُّها الوقت، مصيبة الشتاء.
الشوارع كُلها مدمّرة وهشّة. تحوّلت مع المطر إلى بركٍ وبحيراتٍ كبيرة، تمنعُ تجوّل الناس أو تحرّكهم، فنسبة كبيرة من شوارع المدينة، جرى تجريفها وتدميرها من قبل الآليات العسكرية في الاقتحامات المُتكررة، كما جرى تدمير البُنية التحتيّة بالكامل.

وفق البيانات والتقارير الحكوميّة الرسميّة، فإنّ 90 في المئة من البنية التحتية مُدمّرة، كما دمّرت الحرب معها 2.8 مليون متر من شبكة الطرق، ما يعني انهيار كُل هذه الطرق مع أيّ موسمٍ ماطر.
أمّا الخيام التي يعيشُ فيها الناس منذُ أكثر من سنتيْن، وهي مُجرّد قُماش أو نايلون يهترئ مع الوقت وتنتهي صلاحيته، وهي في غالبيتها لم تعُد صالحة للاستخدام، وقد انكشفت مع المطر هشاشتها، إذ غرقت الآلاف بينَ جنوب القطاع وشماله.
التقديرات الحكوميّة تقول إنّ نسبة الخيام التي لم تعد صالحة للاستعمال والمعيشة، بلغت 93 في المئة، أيّ 125 ألف خيمة من بين 135 ألفاً موجودة في القطاع. على الجانب الآخر، لا تزال إسرائيل ترفضُ تطبيق كلّ بنود اتفاق وقف الحرب أو "خطة ترامب"، التي تضمّنت إدخال الخيم والمنازل مسبقة الصنع ("الكرافانات") للقطاع. والتقديرات تقول إنّ غزّة بحاجة إلى 250 ألف خيمة على الأقل، و100 ألف "كرفان".
كان الناس يصرخون من شدّة المطر، وما خلّقه بعدها من خلافٍ بين سُكان الخيام، الذين غرقت مآويهم، بما فيها ملابسهم، وما لديهم من طعامٍ، أو مُعدات داخل الخيمة.
العيش في الشارع هو العنوان الرئيسي للحياة في غزّة اليوم. غرق الشارع، غرق الناس، وتحوّلت غُرفهم القُماشية إلى بحيرات.. صارت الأرض من تحتنا عالماً كبيراً من الطين الفاسد، لا يختلفُ في فساده عن هذا العالم الغارق في تخاذله.
لا نزال نُناشد.. تنطلق المُناشدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تُناشد المؤسسات، الفصائل، وتُنادي البيانات والتقارير المُختلفة بضرورة إنقاذ غزّة وإدخال الخيام. يخرجُ الناس بصورهم الكارثية من داخل الخيام، ويُطالبون بإنقاذهم. يتحدث الصحافيون ويتساءلون في المنصات المُختلفة: أينَ الخيام؟
غزة فوق العالم
09-09-2025
للحظة تظنُ المناشدات أنها تحمل في مطالبها أحقيّة إنسانية وقانونية، مناشدات لحياةٍ كريمة وجيّدة. إلّا أننا، وفور العودة إلى الواقع، ندرك أنّنا وصلنا إلى اللحظة الأحط والأقذر في تاريخنا، حيث نستجدي العالم أن يُدخِل "الخيام"، وأن يُعطينا فسحةً لنعيش "داخل الخيمة".



