من موقع "المفكرة القانونية" | حسين شعبان
2025-10-21
“بدّنا معلومة… لو صغيرة. أيّ معلومة”. تقول لولو حمود، من أمام مقرّ بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بيروت، تتلفّت كأنّها تنتظر خبرًا لن يأتي. إلى جانبها تقول فاطمة كركي بهدوءٍ صلب: “إذا الصليب الأحمر الدولي عاجز، فأين ضغط الدولة اللبنانية؟” وكلتاهما من عائلات الأسرى والرهائن اللبنانيين المخفيّين قسرًا في سجون الاحتلال الإسرائيليّ.
صباح الإثنين 20 تشرين الأول، سلّم وفدٌ من العائلات برفقة الجمعية اللبنانية للأسرى والمحرّرين، مذكرة رسميّة لرئيسة البعثة أنييس دور (Agnès Dhur). مطلبهم بسيط ومباشر: معرفة مصير أبنائهم وضمان التحقّق من أماكن الاحتجاز وظروفه والتواصل معهم، وفق تفويض اللجنة الدولية.
جاء اللقاء بعد كشف أسيرٍ فلسطينيّ محرَّر، عن وجود لبناني مفقود الأثر داخل زنزانة معه، ما رفع حالات الأسر الموثّقة إلى عشرين على الأقلّ وأعاد سؤال المصير إلى الواجهة.
وقبل بيروت، نظّم الأهالي يوم السبت 19 تشرين الأول وقفةً أمام مقرّ الصليب الأحمر في صور، رافعين صور أحبّتهم ولافتاتٍ تطالب بمعلومة واحدة، أيّ معلومة.

الأهالي يسلمون مذكرة رسميّة لرئيسة البعثة أنييس دور لمعرفة مصير أبنائهم
الاجتماع مع الصليب الأحمر الدوليّ: حدود التفويض وصوت الأهالي
في الاجتماع الذي جمع الوفد برئيسة البعثة أنييس دور، قدّم ممثلو الجمعية اللبنانية للأسرى والمحرّرين مذكرةً رسمية أعادت التذكير بجملة من الخروقات الإسرائيلية الجسيمة للقانون الدولي الإنسانيّ.
المذكرة وثّقت ما يتعرّض له الأسرى اللبنانيون منذ اللحظة الأولى لاحتجازهم: “تعذيب جسدي ونفسي يشمل الضرب والتفتيش العاري والتهديد؛ حرمان من الاحتياجات الأساسية، ولاسيّما الماء والغذاء، مع نقصٍ شديدٍ في مقوّمات الحياة؛ إهمال طبيّ متعمّد وغياب رعاية صحّية كافية؛ عقوبات جماعية تطال الأسرى وعائلاتهم؛ اعتقالات عشوائية من دون تمييز بين مقاومين ومدنيين وفي ظروف غير إنسانية؛ ومنع زيارات الصليب الأحمر الدوليّ وحرمان الأسرى من التواصل مع أهلهم ومحامين يتولّون متابعة أوضاعهم القانونية”.
وأكّدت المذكرة أنّ ملفات اللجنة الدوليّة نفسها “ملأى بانتهاكات العدو الإسرائيلي”، وأنّ ما يجري يمثّل مخالفات غير مسبوقة لاتفاقية جنيف الثالثة (معاملة أسرى الحرب) والرابعة (حماية المدنيين).
على الطاولة، كرّر الوفد مطلبه المباشر بكشف المصير وضمان الزيارة والتواصل. يقول رئيس الجمعية، أحمد طالب، لـ”المفكّرة”: “نحن نعرف أنّ الصليب الأحمر يلتزم حدوده القانونية والحياد في علاقاته، وأنّ الاحتلال لا يتجاوب، لكننا سنبقى نرفع الصوت حتى نصل إلى نتيجة”.
كما أبلغ الوفد اللجنة بأنّه أدرج اسم حسن يوسف قشقوش ضمن لائحة الأسرى لدى الاحتلال الإسرائيليّ، بناء على إفادة أسير فلسطينيّ محرّر كان معه في زنازين سجني عوفر ونفحة. وبذلك يرتفع عدد الأسرى والرهائن الموثّقين إلى 20 شخصًا.
وبحسب ما يفيد طالب، أكّدت رئيسة البعثة بأنّ الجانب الإسرائيلي يرفض حتى اليوم تزويد اللجنة بأيّ معلومة عن الأسرى اللبنانيين أو أماكن احتجازهم، ما يعطّل الزيارات ويشلّ المتابعة الطبية والإنسانية. وبرغم ذلك، أكّدت البعثة أنّها تتابع “حتى النهاية”، مع الاستمرار في إرسال الطلبات والضغط للحصول على الأسماء والمعلومات. هذا الواقع، كما يراه الأهالي، يضع مسؤولياتٍ أكبر على الدولة اللبنانية، حيث لا يكفي انتظار مراسلاتٍ لا تُجاب، بل يلزم تحرّكٌ رسميّ واضح يوازي فداحة الجريمة.
مسيّرة فوق المبنى وصوتٌ يطلب عدالة
كان المشهد أمام مقرّ الصليب الأحمر في بيروت مفارقًا وثقيلًا. جدارٌ ملوّن بلوحات الإغاثة والإسعاف، أمامه أهالي الأسرى والرهائن بملامح صلبةٍ يغلّفها القلق. وفي الجو يعلو طنين مسيّرةٍ إسرائيلية. تحلّق فوق المبنى مباشرة، وتشوّش حتى على أحاديثهم القصيرة. يرفع الجميع رؤوسهم. تقول فاطمة كركي، شقيقة حسين كركي: “حتى هنا، في بيروت، تلحقنا المسيّرات. من الجنوب إلى العاصمة، لا يفارقنا صوتها”.
وحسين كركي لا يزال مجهولَ المصير. اختطفته قوّةٌ إسرائيلية صباح 26 كانون الثاني 2025، يوم بدأ الأهالي العودة إلى قراهم بعد انتهاء مهلة الانسحاب وفق إعلان وقف الأعمال العدائية. فتح الجنود الإسرائيليّون النار على حسين الذي كان برفقة شقيقته فاطمة وأمّه تمارا الشحيمي، ومعهم ربيع زراقط وطفلاه. أُصيب حسين في يده، ثم تكرّر إطلاق النار فاستُشهدت والدته وأصيب حسين في ظهره، أمام عيني شقيقته التي أدلت بشهادتها لـ”المفكّرة”. قتلت القوّاتُ الإسرائيلية ربيع زراقط أيضًا، ومنعت إسعاف حسين، لتقوم بعدها باختطافه، كما اختطفت الطفلين قبل الإفراج عنهما وبقي حسين مجهول المصير.
تتقدّم فاطمة نحو جهاز التسجيل، تُثبّت نبرتها وتقول: “في الاجتماع لا يلوح أيّ أفق لنتيجة. اللجنة ترسل مطالباتها عبر مكتبها لدى الاحتلال، لكن الاحتلال لا يجيب. فأين مسؤولية الدولة التي أعلنت أنّ الملف في عهدتها؟ وعليها أن تضغط وأن تتحرّك، وإن لم ترغب في ذلك، فلتُصرّح، وليعلم الناس فيتحرّكوا”.
ثم تُضيف: “لم يتواصل معنا أيّ مسؤول في الدولة، ولم يطلب أحدٌ لقاءنا”.
تتفاعل لولو حمود، شقيقة حسن حمود، وتقول بنبرةٍ متماسكة: “مضت تسعة أشهر وأخونا لا نعرف عنه شيئًا. وإن كانت اللجنة عاجزة، فماذا تفعل الدولة اللبنانية؟ ليقولوا إنّهم لا يريديون أو لا يقدرون، ولكن لا يتركونا نفتّش عن الحقيقة وحدنا”.
وحسن حمود، داهمت قوّةٌ إسرائيلية منزلَه في الطيّبة واختطفته منه عصر 27 كانون الثاني 2025. وبحسب معلومات وشهادات وثّقتها “المفكّرة”، كان الرجل الأربعينيّ قد عاد لتوّه إلى بلدته بعد يوم واحد من انسحاب القوّات الإسرائيلية من محيطها. وعند الـ5:00 عصرًا، اقتحمت قوّة إسرائيليّة البلدة، وحاصرت المنزل، واختطفته واقتادته إلى جهةٍ مجهولة، ثم أضرمت النار في المنزل قبل انسحابها. منذ ذلك اليوم، لم تصدر أيّ معلومة رسمية عن مكانه أو وضعه الصحي، لكن لبنانيين أدلوا بشهاداتهم لـ “المفكّرة” بعد الإفراج عنهم في 5 آذار 2025، أكدوا أنّهم التقوا به في الاحتجاز.
أمام مقرّ الصليب الأحمر الدوليّ، يستمر طنين المسيّرة في السماء. تختتم فاطمة كركي بوضوح: “نحن مستمرّون في رفع صوت الأسرى على كلّ المنابر. والدولة التي تتحلّى بالأخلاقيات تجاه شعبها هي التي تبادر من تلقاء نفسها لطلب الاجتماع بأهالي الأسرى. لا أن نركض نحن وراءها حتى تقبل باللقاء، والحمد لله على كلّ حال”.
جريمة باردة ومستمرّة
منذ وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، لم تتوقّف أعمال التوغّل الإسرائيلية والخطف. تغيّرت طبيعتها فحسب، من أسرٍ ميداني أثناء القتال إلى خطف مدنيّين واعتقالهم في ظروف يحظر فيها التواصل ترقى إلى مرتبة الإخفاء القسري، يُدار لأهداف تفاوضية.
بحسب توثيق “المفكّرة”، ينقسم المحتجزون الحاليون في السجون الإسرائيلية إلى مجموعتين. قبل وقف إطلاق النار: ما لا يقلّ عن 11 لبنانيًا، بينهم مقاتلون أُسروا خلال مقاومة الغزو، ويُعدّون قانونيًا أسرى حرب يجب الإفراج عنهم فور انتهاء القتال. بعد وقف إطلاق النار: ما لا يقلّ عن 9 مدنيين خُطفوا من منازلهم أو بعد عودتهم إلى قراهم وخلال ممارستهم أعمالهم اليومية من صيد ورعي.
يُحتجز هؤلاء في ظروفٍ غير إنسانيّة. وثّقت “المفكّرة” شهاداتٍ تعذيبٍ وسوء معاملة، وإهمالٍ طبيّ طال الجرحى. ويرجَّح أن يكون العدد أكبر من 20، في ظلّ تكتّم الاحتلال على المعلومات، وفقدان أثر العشرات ممن شاركوا في مقاومة الغزو، إضافةً إلى الإفراج عن مدنيّين لم يكن موثّقًا رسميًا اختطافهم.
في آذار 2025، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية إدخال هذا الملفّ ضمن سلّة سياسية تشمل الحدود والسيادة والتفاوض المباشر. وبمقتضى قراءة قانونيّة لـ “المفكّرة”، يصبح ما يجري جريمة أخذ رهائن، حيث يتمّ احتجاز أشخاصٍ لبنانيين لابتزاز طرفٍ ثالث هو الدولة اللبنانية.
الأهالي يتحرّكون
وفي الذكرى الأولى لعدوان 2024، افتتح ذوو الأسرى والرهائن اللبنانيين تحرّكاتهم يوم السبت الماضي. عصرًا، وقفوا للمرّة الأولى في الشارع، وأمام مكتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مدينة صور، اصطفّوا حاملين صور أبنائهم، والكلمات عليها قاطعة: “أسرانا ليسوا أرقامًا”.
تحوّلت الوقفة إلى منبرٍ للتذكير بالحقّ وإعلان العتب معًا. فقد دعا المشاركون الدولة اللبنانية إلى تحمّل مسؤولياتها في المتابعة والتحرّك السياسي والقانوني، كما وجّهوا نداءً إلى هيئات الأمم المتحدة وآلياتها المعنية بالاختفاء القسري والاحتجاز التعسّفي، وكذلك اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
غير أنّ الكلمة التي ألقتها فاطمة يونس، ابنة أسير الحرب وضّاح يونس، في وقفة السبت شكّلت ذروة الوقفة حيث تلت بيانًا قانونيًا وإنسانيًا باسم العائلات، جمع بين اللغة الحقوقية والوجع. خاطبت فاطمة الرئاسات اللبنانية الثلاث واللجنة الدولية للصليب الأحمر وهيئات الأمم المتحدة، وقالت بصوتٍ ثابت أمام الحشد: “نقف بصوتٍ واحد من أجل آبائنا وأبنائنا وإخواننا… هذه ليست قضية إنسانية فحسب، بل قضية عدلٍ وحقّ كفلتهما المواثيق الدولية، وفي مقدّمها اتفاقيات جنيف. أين تقف هذه الضمانات اليوم؟ أين حقّ الأسير في سماع صوت أمّه أو رؤية أطفاله؟”
استعادت يونس نصوصًا من اتفاقية جنيف الثالثة والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لتذكّر بأنّ ما يجري ليس خرقًا عرضيًا بل انتهاكٌ ممنهجٌ للقانون الدولي. وأضافت: “لقد حوّل الاحتلال الاعتقال التعسّفي إلى سياسة ممنهجة تتعارض مع كلّ هذه النصوص. وباسم عائلات الأسرى، نطالب بتفعيل آليات الأمم المتحدة لرصد الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عنها. إنّ الصمت عن معاناة الأسرى مشاركةٌ في الألم وتغافلٌ عن العدالة”.
وبين اللافتات وصور الوجوه الغائبة، بدا أنّ كلماتها اختزلت مطلبًا واحدًا تتقاطع عنده القوانين والعواطف، أن يُعامل الأسرى كأحياءٍ لهم حقوق وكرامة، لا كأوراق تفاوضية تُدار في صمتٍ طويل.
نداء للحريّة
بين بيروت وصور، يتنقّل الأهالي حاملين صور أبنائهم ورسائلهم، كأنّهم يسدّون بأجسادهم الفراغ الرسميّ والصمت الدوليّ. في الموازاة، تواصل إسرائيل احتجاز لبنانيين في ظروفٍ تتنافى مع أبسط مبادئ القانون الدولي الإنساني، وتحجب عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر أيّ إمكانيةٍ للزيارة أو التواصل، فيما يزداد الغياب الرسمي اللبناني عمقًا.
لكنّ ما يفعله الأهالي اليوم يتجاوز المطالبة بمعرفة المصير. إنّه فعل مقاومة مدنية وصون للذاكرة الجماعية في وجه محوٍ مضاعف: محو الإنسان في الزنزانة، ومحو قضيته في الخطاب العام. وفي كلّ وقفةٍ وبيانٍ ومذكرة، يذكّرون الجميع بأنّ الأسرى والرهائن ليسوا أرقامًا ولا أدوات تفاوض، بل أحياءٌ لهم أسماءٌ وحقوقٌ وكرامة، وأنّ الصمت عنهم تمكين للجريمة نفسها، لتصبح كلّ حركتهم، نداء مفتوح للحريّة.



