"أشرفْنا على غابةِ قابس، ووصلنَا إليها ضُحًى، فرأينا بلداً قد استوفى المحاسِن واستغْرقَها، وأذكر بمنظره الأنضر، وورقها الأخضر، جنّة الخُلد واستبرقَها. وقد أحدقت غابتهُ من جميع جهاته. وبهذه الغابة من الجواسق، والنخل المتناسق، ما يستوقفُ الطَّرْف، ويستوفي الحُسن والظُرْف، ويحقّقُ ما قيل إنّ قابس جنّة الدنيا. وهي مدينة بحريّة صحراويّة، فإنّ الصحراء متّصلة بها، والبحر على ثلاثة أميال منها. ويُقال إنّه لا يجتمعُ في مائدةٍ صيدٌ لبرٍّ وصيدُ البحر وأصناف التمر إلّا في مائدة مَن يسكنُ قابس". هذا بعض ما ذكره "أبو محمّد عبد الله بن أحمد التجاني" عن "قابس" (جنوب شرق تونس)، التي زارها سنة (706هـ ــ 1306م). لو "عاد" التجاني إلى قابس اليوم لما عرفها، لا بسبب العمران ومظاهر الحياة العصرية، بل لذبول ورقها الأخضر وسقم هوائها، ومن المرجح أنه كان ليحس بضيق في الصدر وصعوبة في التنفس، وربما قد يصاب بالاختناق والإغماء مثل العشرات من أبناء المدينة الذين نُقِلوا إلى المستشفيات في الأسابيع الفائتة. حالات اختناق جماعي تتواتر، منذ بداية شهر أيلول/ سبتمبر الفائت، في مدينة كانت مضرب الأمثال في البهاء وفرادة المناظر الطبيعية والنظم الأيكولوجية.
عرفت قابس لدى التونسيين بواحات النخيل المتصلة بالشواطئ، وكرم بحرها، وجودة منتجاتها الفلاحية، مثل التمور والرمّان والحنّاء، وجمال صناعاتها التقليدية، مثل: السلال، والحقائب، والقبعات المصنوعة من سعف النخيل.
تونس الخضراء، هل هي فعلاً كذلك؟
01-05-2017
لكنها أيضاً عنوان رئيسي للتلوث الصناعي في تونس، الذي بدأ يأخذ أبعاداً مخيفة. قابس الوديعة والصبورة تعيش منذ أواخر شهر أيلول/ سبتمبر الفائت، حالة من الغضب والسخط الشديدين، تعبِّر عنهما بأشكال مختلفة لكن بمطالب موحَّدة. هذه المطالب تريد نهاية لـ"جريمة" تعيشها قابس منذ حوالي نصف قرن وليس نصف شهر.
تتفاعل السلطات الجهوية والمركزية بـ"تكتيكات" متعددة، في محاولتها لتفكيك الأزمة في قابس بأقل التنازلات، فيما ينقسم الرأي العام في تعامله مع الأحداث وفقاً لحسابات سياسية واقتصادية.
"البخارة" تُطْبِق على أنفاس المدينة (كرونولوجيا)
في 9 أيلول/سبتمبر، شهد المستشفى المحلي بمعتمدية "غنوش" في محافظة قابس، توافد حوالي 30 حالة طارئة بسبب الاختناق، ثم ست حالات أخرى في اليوم التالي، وتكرر الأمر يوم 16 أيلول/ سبتمبر مع قدوم حوالي 20 حالة جديدة، وفي 27 أيلول/ سبتمبر 2025، جاءت القطرة التي أفاضت الكأس: أكثر من 50 حالة اختناق في منطقة "شط السلام"، أغلبها لدى تلاميذ مدرسة إعدادية. لم يكن للمؤسسات الصحية العمومية في المحافظة ما يكفي من الكوادر الطبية، والتجهيزات الضرورية للتعامل مع هذا التدفق الهائل، فتم استقدام فريق طبي من محافظة صفاقس، ثم تقرر نقل عدد من الحالات إلى مستشفى في العاصمة تونس، على بعد 400 كيلو متراً!
"موجات" الاختناق هذه ليست أمراً طارئاً أو نادراً في يوميات مدينة قابس، وتتكرر من فترة إلى أخرى، لكن هذه المرة كانت أكثر حدة وعدد ضحاياها أكبر. لم يتطلب الأمر تحقيقات أو تخمينات أو اتهامات لمجهول، فسكان المدينة - وكذلك السلطات المحلية والمركزية - يعرفون جيداً السبب والمصدر: "البخارة"، أي الأدخنة والأبخرة السامة المنبعثة من وحدات الإنتاج في مصانع "المجمع الكيميائي التونسي"، وهو مؤسسة عمومية ضخمة متخصصة في معالجة الفوسفات، وتثمينه، وصناعة الأسمدة والمخصبات الكيميائية. المداخن والسحابات السوداء والأبخرة الصفراء صارت من معالم المدينة منذ عدة عقود. ويبدو أن كمية الانبعاثات وخطورتها تتزايد عبر السنوات مع تراكم الآثار البيئية، وتهالك البنى التحتية والتجهيزات في مواقع الإنتاج.
التقرير المنجز بتكليف من "المجمع الكيميائي التونسي" نفسه، يقول بوجود "عدم مطابقة جسيمة" في إدارة جودة الهواء، وإن "آخر حملة قياس للانبعاثات تعود إلى عام 2010، وقد أظهرت تجاوزات خطيرة: "ثاني أكسيد الكبريت: تركيز 7805، والحد المسموح 300 فقط! (تجاوز بـ 26 ضعفاً). فلوريد الهيدروجين: تركيز 184، والحد المسموح 5 فقط! (تجاوز بـ 36 ضعفاَ)، ثاني أكسيد النيتروجين: تركيز 924، والحد المسموح 500، الغبار: تركيز 68، والحد المسموح 40!".
تُلقي وحدات التحويل المختلفة قرابة 12 ألف طن من مادة "الفسفوجيبس" في البحر يومياً. "الفسفوجيبس" أو الجبس الفوسفاتي هي فضلات المعالجة الصناعية للفوسفات الطبيعي بهدف إنتاج الحامض الفوسفوري والأسمدة الفوسفاتية، وتَخرج في شكل رواسب رطبة بعد معالجة الفوسفات بحمض الكبريتيك. وتحتوي هذه المادة على عدة عناصر كيميائية ومعادن ثقيلة، من مثل: الجبس، وحمض الهيدروفلوريك، والحمض الفوسفوري، والزنك، والكادميوم، والزئبق، بالإضافة إلى عنصر مشع هو الراديوم 226... فقررت السلطات في آذار/ مارس 2025 إلغاء تصنيف "الفوسفوجيبس" كنفايات خطرة!
امتزج الخوف بالغضب في قابس أمام هذا العدد الكبير من حالات الاختناق، ولم تفلح التكتيكات التقليدية للسلطات الجهوية والمركزية (اجتماعات مكثفة، إجراءات عاجلة وخطط مستقبلية طموحة، ووفود من المسؤولين والخبراء، إلخ) في احتواء الأزمة.
تفاعلت عدة فعاليات أهلية ومكوِّنات من المجتمع المدني فيما بينها - من أبرزها حملة "أوقفوا التلوث Stop Pollution "- وقررت شن جملة من التحركات الاحتجاجية في عدة أماكن. في 9 تشرين الأول/أكتوبر نظّمت تحركاً مزدوجاً، وطنيّاً في العاصمة تونس أمام المقر المركزي لشركة "المجمع الكيميائي"، ومحليّاً في منطقة "شط السلام". وفي اليوم التالي، تركزت الاحتجاجات أمام المقر الجهوي للمجمّع في وسط مدينة قابس. في اليوم نفسه، تم تسجيل أكثر من 50 حالة اختناق جديدة في منطقة "شط السلام"، فزاد سخط المحتجين وكذلك عدد الملتحقين بالاحتجاجات. ابتداء من 11 تشرين الأول/أكتوبر، أخذت الاحتجاجات منحى أكثر صدامية، اذ اقتحم بعض المشاركين وحدات الإنتاج في المركّب الكيميائي، وحاولوا الاعتصام هناك قبل أن يتدخل الجيش لفض الاعتصام. كما تم حرق بعض مكاتب المقر الإداري. وتواصلت الصدامات مع قوات الأمن في 12 و13 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري. نتيجة لهذه التطورات، قرر المحتجون تنظيم مسيرة كبيرة يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر (يوم عطلة رسمية بمناسبة "عيد الجلاء")، استطاعت تجميع عشرات الآلاف من "القوابسية" (التسمية التي تطلق على سكان محافظة قابس) ارتدى كثيرٌ منهم ملابس سوداء تعبيراً عن الغضب والحزن والخوف والحداد (تسجِّل المدينة نسباً عالية في عدد المصابين بالأورام الخبيثة)، وتوجهوا مجدداً إلى مقرات الإنتاج، فتدخلت وحدات أمنية، مرة أخرى، بالغاز المسيل للدموع لتفريق محتجين مطلبهم الأساسي تفكيك وحدات صناعية متهالكة تنبعث منها غازات سامة. إلى حد الآن، وعلى الرغم من الخطاب الرسمي "المتفهِّم"، فإن الحل الأمني هو الأعلى صوتاً في مواجهة أزمة بيئية مزمنة، وفي قلب مواقع قابلة للانفجار حرفياً.
وقائع جريمة "اغتيال البيئة" في قابس..
توصيف ما يحدث في قابس باغتيال للبيئة لم يأتِ على لسان ناشط بيئي أو سياسي معارض، بل هي كلمات رئيس الجمهورية قيس سعيّد، استعملها خلال اجتماعه، يوم 30 أيلول/سبتمبر 2025، بوزراء الصحة والبيئة والصناعة والطاقة والمناجم، للحديث عن الوضع البيئي في مدينة قابس. وخلال هذا اللقاء أكد سعيّد أنه قد تم "اغتيال البيئة والقضاء عليها منذ سنوات، الأمر الذي خلّف عدداً من الضحايا"، وأشار إلى تفشي الأمراض الخطيرة في الولاية، مثل السرطان وهشاشة العظام، وندد بـ"القضاء على الواحات وعلى كل مظاهر الحياة بمدينة قابس"، ليخلص إلى القول بأن "هذه الاختيارات بمثابة الجريمة".
هي فعلاً جريمة، انطلقت أولى فصولها منذ سنة 1972 ولا تزال أركانها وآثارها قائمة إلى اليوم. يجب أن يكون المرء سادياً و/أو فاقداً للمنطق السليم، وأية ذائقة جمالية حتى يقرر أن يحوِّل واحة شاسعة وجميلة تُطلّ على بحر صاف وغني بالثروة السمكية، إلى قطب للصناعات الكيميائية وأنشطة صناعية أخرى لا تقل تلويثاً وخطورة. وهذا ما حدث عندما قررت الدولة انشاء شركة "الصناعات الكيميائية المغاربية " في محافظة "قابس"، وفي منطقة "غنوش" تحديداً.
امتزج الخوف بالغضب في قابس أمام عدد كبير من حالات الاختناق، ولم تفلح التكتيكات التقليدية للسلطات الجهوية والمركزية (اجتماعات مكثفة، إجراءات عاجلة وخطط مستقبلية طموحة، ووفود من المسؤولين والخبراء، الخ) في احتواء الأزمة.
قرر المحتجون تنظيم مسيرة كبيرة يوم 15 تشرين الأول/ أكتوبر (يوم عطلة رسمية بمناسبة "عيد الجلاء")، استطاعت تجميع عشرات الآلاف من "القوابسية"، ارتدى كثيرٌ منهم ملابس سوداء تعبيراً عن الغضب والحزن والخوف والحداد (تسجِّل المدينة نسباً عالية في أعداد المصابين بالأورام الخبيثة)، والذين توجهوا مجدداً إلى مقرات الإنتاج، فتدخلت وحدات أمنية، مرة أخرى، بالغاز المسيل للدموع لتفريق محتجين مطلبهم الأساسي تفكيك وحدات صناعية متهالكة، تنبعث منها غازات سامة.
هذه المؤسسة هي امتداد لمعضلة بيئية أخرى، خلقها انطلاق استخراج الفوسفات في تونس منذ نهاية القرن التاسع عشر. فإلى حدود سنة اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان الفوسفات المستخرج من مناجم "قفصة" (جنوب غرب البلاد) يتم تصديره خاماً إلى الخارج عبر ميناء "صفاقس". لكن في 1947 تقرر إنشاء "الشركة الصناعية للحامض الفوسفوري والأسمدة "(سياب SIAPE)، في مدينة صفاقس، وبعث أول وحدة إنتاج لـ"ثلاثي الفوسفات الرفيع"TSP في سنة 1952. لم تكتف الدولة بآثار الاستخراج في قفصة، والتحويل في صفاقس، فضمت إليهما قابس ليكتمل المثلث المنكوب الذي ارتضته الدولة قرباناً لتطوير نشاط اقتصادي يدر عليها مدخولاً كبيراً من العملة الصعبة، ويوفر مواطن الشغل، فتشتري بعض "السلم الأهلي".
ما بين 1972 و1992 تطور حجم "الصناعات الكيميائية المغاربية" وتنوعت أنشطتها التحويلية: (حمض فوسفوري، حمض الكبريتيك، أمونياك، أمونيتر، وغيرها)، وعدد وحداتها الإنتاجية والعاملين فيها، حتى تقرر دمجها مع "سياب" صفاقس في مؤسسة ضخمة واحدة، تحت اسم "المجمع الكيميائي التونسي" الذي يتركز الجزء الأكبر من إنتاجه في "قابس"، على بعد مئات الأمتار فقط من الأحياء السكنية. صار "المجمع" قلب المدينة لكنه تضخم بشكل أطبق على صدرها وأنفاسها، وحش ينفث باستمرار أبخرة وغازات تتفاوت درجة خطورتها. ونقلاً عن منصة "بحّاث" الاستقصائية نجد أن تقريراً اُنجِز بتكليف من "المجمع الكيميائي التونسي"، خلص إلى وجود "عدم مطابقة جسيمة" في إدارة جودة الهواء، وأن "آخر حملة قياس للانبعاثات تعود إلى عام 2010، وقد أظهرت تجاوزات خطيرة:
"ثاني أكسيد الكبريت: تركيز 7805، والحد المسموح 300 فقط! (تجاوز بـ 26 ضعفاً)
.فلوريد الهيدروجين: تركيز 184، والحد المسموح 5 فقط! (تجاوز بـ 36 ضعفاَ).
ثاني أكسيد النيتروجين: تركيز 924، والحد المسموح 500!
الغبار: تركيز 68، والحد المسموح 40!".

التلوث في المناطق القريبة من المجمع لا يحتاج أجهزة قياس متطورة، بل يمكن إدراكه بالحواس "البدائية"، فهو يُرى بالعين المجردة، وله روائح لا يخطئها الأنف، وطعم يلتصق في الحلق، كما يترك آثاره على البشرة ويخترق العظام. لم تكتفِ الدولة بالصناعات الكيميائية المرتبطة بالفوسفات، اذ ركزت وحدات إنتاج للإسمنت، وأخرى لتعبئة قوارير الغاز المنزلي وصناعة "الزفت" ( الإسفلت)، وشجّعت القطاع الخاص على السير في المنحى نفسه، مستغلة قرب الولاية من المناطق الاستخراجية (الفوسفات في محافظة "قفصة"، والوقود الأحفوري في محافظة "تطاوين")، ووجود ميناء تجاري كبير نسبياً... وكأنها تمعن في الانتقام من هذه المناطق وأهلها.
لم يخجل بعضهم من اتهام الأطفال المختنقين في قابس بالتمارض وحتى قبض أموال من جهات أجنبية، وقسم منهم لم يقدر على منع نفسه من طرح السؤال العبقري: "لماذا الآن؟"، وآخرون فضلوا إنكار الوقائع تماماً: المجمع الكيميائي يعمل منذ نصف قرن بشكل عادي بلا أضرار، وسيظل كذلك إلى يوم تُبعَثون.
لا يتوقف الضرر البيئي لأنشطة "المجمّع" ومؤسسات القطاع الخاص المرتبطة به - ومنها الأجنبي مثل شركة "تيماب تونس" التابعة للمجموعة الفرنسية "رولييه" Roullier - على الهواء الملوَّث، فهو يشمل أيضاً الكميات الكبيرة من المياه المستغَلة في الإنتاج... والأنكى من كل هذا التخلص من قسم مهم من النفايات الصناعية -وبعضها سام و/أو مشّع - في الطبيعة مباشرة.
كما تلقي وحدات التحويل المختلفة قرابة 12 ألف طن من مادة "الفسفوجيبس" في البحر يومياً. "الفسفوجيبس" أو الجبس الفوسفاتي هي فضلات المعالجة الصناعية للفوسفات الطبيعي بهدف إنتاج الحامض الفوسفوري والأسمدة الفوسفاتية، وتَخرج في شكل رواسب رطبة بعد معالجة الفوسفات بحمض الكبريتيك. وتحتوي هذه المادة على عدة عناصر كيميائية ومعادن ثقيلة، مثل: الجبس، وحمض الهيدروفلوريك، والحمض الفوسفوري، والزنك، والكادميوم، والزئبق، بالإضافة إلى عنصر مشع هو الراديوم 226 الذي ينبعث منه الرادون 222، وهو غاز مشعّ لا لون له ولا رائحة. ويعد شاطئ "شط السلام" من أكثر المناطق تضرراً من هذه الممارسات.
"الحق كالزيت يطفو دائماً"
يتابع التونسيون ما يحدث في قابس اعتماداً على منشورات مواقع التواصل الاجتماعي أساساً، فأغلب وسائل الإعلام، بشقيه العمومي والخاص، تغطي الأحداث في الحد الأدنى وبانتقائية شديدة، وسط مناخ ثقيل من تقلّص هامش حركة الصحافيين. تتباين المواقف ما بين التعاطف والتضامن المطلقين - خاصة من أبناء مناطق تعاني هي الأخرى تبعات جرائم بيئية مماثلة، وكذلك بعض الناشطين السياسيين والمدنيين - والتفهم النسبي والتوجس، وصولاً إلى التخوين والاتهام بالتآمر.
هناك من يعتبر احتجاجات الأهالي في قابس معركة سياسية في مواجهة السلطة، وآخرون يرون أن الاحتجاجات مشروعة والمطالب معقولة، لكن يجب عدم "تسييسها" والسماح للمعارضة بتجييرها. قسم آخر "عقلاني"، يرى أن ظروف البلاد لا تسمح بهذا "الترف" البيئي، وأن إغلاق وحدات الإنتاج نهائياً أو تعويض القديمة بأخرى جديدة "صديقة للبيئة"، له كلفة اقتصادية عالية، سواء تعلّق الأمر بخسارة مورد للعملة الصعبة ومواطن شغل، أو بتخصيص استثمارات ضخمة لتجديد البنى التحتية والتجهيزات. وبما أن "القوابسية" صبروا لمدة نصف قرن، فلن يضيرهم أن ينتظروا قليلاً حتى "تفرج"، ربما بعد عام أو عقد من الزمن أو نصف قرن. يتجاهل المحاجِجون بالإكراهات الاقتصادية ان المدينة لم تكن خلاء قبل بعث "المجمع الكيميائي"، وأنها عاشت مئات السنوات بفضل الصيد البحري والفِلاحة والتجارة والحرف التقليدية، وأن مئات أو آلاف مَواطن الشغل ضريبتها آلاف المصابين بالسرطان وهشاشة العظام والحساسية، وغيرها من الأمراض، وأن الأكسجين لا يقايَض بالخبز.
وهناك قسم رابع يعيش في أكوان موازية، يقتات على نظريات المؤامرة ويشتم رائحة "الأطراف الخفية" و"اليد الأجنبية" و"الغرف المظلمة" في كل احتجاج مهما كانت منطلقاته ومطالبه. هذا الصنف لديه قناعات "راسخة" لا تتزحزح: الرئيس سعيّد هو السياسي الوطني والشريف والثوري الوحيد في تونس، يخوض "حرب تحرير وطني" ضد التدخل الأجنبي والفاسدين والمعارضين الخونة والعملاء وكل المتآمرين، ويقود "مسار البناء والتشييد" نحو تونس جديدة. لم يخجل بعضهم من اتهام الأطفال المختنقين في قابس بالتمارض وحتى قبض أموال من جهات أجنبية، وقسم منهم لم يقدر على منع نفسه من طرح السؤال العبقري: "لماذا الآن؟"، وآخرون فضلوا إنكار الوقائع تماماً: المجمع الكيميائي يعمل منذ نصف قرن بشكل عادي بلا أضرار، وسيظل كذلك إلى يوم تُبعَثون.
تتالت الاحتجاجات وتشكَّلت عدة شبكات عمل مدني على امتداد سنوات، وحققت أول وأبرز انتصاراتها في 2017، عندما أجبرت رئيس الحكومة آنذاك، يوسف الشاهد، على التعهد بالتوقف عن إلقاء الفوسفوجيبس في البحر، وتجهيز وحدات الإنتاج بالتجهيزات والتكنولوجيات اللازمة لتقليص الانبعاثات بشكل جذري، وتفكيك عدة وحدات متهالكة، وبناء مدينة صناعية جديدة "صديقة للبيئة" في منطقة بعيدة عن مواقع الإنتاج القديمة والمناطق السكنية. لكن لم يتم تنفيذ أغلب بنود هذا التعهد.
بعد "25 جويلية 2021"، والاستفتاء على الدستور، صارت صلاحيات الرئيس سعيِّد شبه مطلقة، وسلطته التنفيذية كاملة، ويمكنه الآن ترجمة "تفهمه" لما يحدث في قابس، و"تعاطفه" مع سكانها إلى قرارات وإجراءات عملية.
المضحك – المبكي - في الأمر أن الغاضبين من حراك قابس البيئي والمتوجسين منه، "ملكيون أكثر من الملك". خلال اجتماعاته الأخيرة بالوزراء المعنيين بملفات الطاقة والبيئة والصحة، لم يكتف الرئيس سعيّد بالإقرار بأن التلوث الصناعي الكارثي في قابس حقيقة لا يمكن إنكارها، وجريمة يصعب طمسها، إذ أكد أيضاً أن الاحتجاجات والمطالب ليست جديدة وأنه عاينها شخصياً عند زيارته للمدينة في عدة مناسبات ما بين 2013 و2015 - قبل توليه الحكم في 2019 - وتواصل مع سكانها واطّلع على مشاكلهم ومقترحاتهم، ولفت انتباه الوزراء إلى "الدراسات التي أعدها شباب الجهة وقدّمت حلولاً لتفادي هذه الوضعية، عبر وضع خطط جديدة تعيد إلى قابس وواحاتها بريقها". ويذكر أن الرئيس كان قد استقبل في تشرين الأول/أكتوبر 2020 رئيس نقابة الصيد البحري، الذي تنقل من قابس إلى قصر الرئاسة في العاصمة على متن دراجة نارية، وعبر عدة محافظات في حركة احتجاجية سلمية للتذكير بمأساة مدينته. يومها كان سعيّد رئيساً محدود الصلاحيات، وشبه معزول في نظام برلماني تسيطر عليه الأحزاب الكبرى، أما بعد "25 جويلية 2021" والاستفتاء على دستور "جويلية/ تموز 2022"، فقد صارت صلاحياته شبه مطلقة وسلطته التنفيذية كاملة، ويمكنه الآن ترجمة "تفهمه" لما يحدث في قابس، و"تعاطفه" مع سكانها إلى قرارات وإجراءات عملية.
المشكّكون والمخوِّنون والمنْكِرون يتجاهلون حقيقة أن معاناة سكان قابس من التلوث وشكاويهم قديمة، انتظرتْ ثورة 2011 وسقوط حواجز الخوف حتى تتحول إلى حراك بيئي متماسِك ومتواصِل منذ أكثر من عقد من الزمن.
تتالت الاحتجاجات والحملات وتشكَّلت عدة شبكات عمل مدني على امتداد سنوات، وحققت أول وأبرز انتصاراتها في حزيران/ يونية 2017، عندما أجبرت رئيس الحكومة آنذاك، يوسف الشاهد، على التعهد بالتوقف عن إلقاء الفوسفوجيبس في البحر، وتجهيز وحدات الإنتاج بالتجهيزات والتكنولوجيات اللازمة لتقليص الانبعاثات بشكل جذري، وتفكيك عدة وحدات متهالكة، وبناء مدينة صناعية جديدة "صديقة للبيئة" في منطقة بعيدة عن مواقع الإنتاج القديمة والمناطق السكنية، إلخ.
لكن لم يتم تنفيذ أغلب بنود هذا التعهد، وماطلت كل الحكومات سكان قابس بالوعود الكاذبة تارة والتجاهل تارة أخرى. كما أن الظرفية لم تكن في صالح الحركات الاحتجاجية خلال السنوات الأخيرة. فبعد الأزمة الوبائية في سنة 2020، جاءت الأزمة السياسية في صيف 2021 عندما أطلق الرئيس سعيّد صافرة نهاية "مسار الانتقال الديمقراطي" (2011 – 2021)، قبل أن يُرسي دعائم نظام سياسي ليس فيه مكان فعلي للأحزاب والمجتمع المدني وغيرها من "الأجسام الوسيطة". في ظل هذا الواقع السياسي الجديد، لم تجد الحكومة حرجاً في التراجع عن بعض المكتسبات البيئية القليلة، اذ قررت في آذار/مارس 2025 إلغاء تصنيف "الفوسفوجيبس" كنفايات خطرة، وعبرت عن نيتها في تثمين هذه المادة واستغلالها في عدة مجالات، كما أعلنت عن بناء وحدة جديدة لإنتاج “الأمونيا الخضراء" في قابس.
ربما تعوِّل السلطة على خفوت أصوات المحتجين في قابس وفتور همتهم بعد أيام أو أسابيع، خاصة أن المناخ السياسي والمزاج الشعبي ليسا في صالحهم. وقد تصح "حساباتها"، وقد تَسْلم الجرة هذه المرة، لكنها بكل تأكيد لن تَسلَم في كل مرة. لا يمكن الهروب من القضايا البيئية طويلاً، فهي لا تختفي لوحدها فجأة بل تتفاقم، وحتى إن تم تعويمها أو إغراقها لفترة، فإنها ستطفو مجدداً.