مخيم جنين بين نزوحين

نزح حوالي 22 ألفًا من أهالي المخيم نحو قرى المدينة، بحيث بات المخيم اليوم فارغًا من السكان. يسكن حوالي أربعة آلاف منهم في منطقة برقين، ومثلهم تقريبا في سكنات الجامعة الأمريكية، ويتوزع الباقون على القرى والبلدات القريبة. نزوح 2002 كان اسهل لأنه كان يوجد وقتها قوى منظَّمة تعين النازحين وتأويهم، وكان هناك أمل بالعودة، وقد عاد النازحون بالفعل. أما اليوم..
2025-08-21

شارك
نازحون من مخيم جنين يحملون بعض ممتلكاتهم أثناء نزوحهم. تصوير جعفر اشتيه. أ ف ب.

ثائر حسين، موقع "حبر"
19 آب/ أغسطس 2025

مثل باقي أهل المخيم، كانت عائلة الستيني أبو أنس تعيش في كرب شديد، وفي ظروف نفسية صعبة، جرّاء الأخبار التي كان يتمّ تداولها نهاية العام الفائت عن استعداد جيش الاحتلال الإسرائيلي لاقتحام مخيّم جنين.

تناقشت العائلة مطوّلًا فيما يجب فعله، على اعتبار أن العائلة كانت قد خبرت الاجتياحات المتكررة للمخيم، إذ على امتداد الأعوام السابقة تعرّض شمال الضفة الغربية لعمليات عسكرية متتالية مثل عملية «كاسر الأمواج» (آذار 2022) والتي استهدفت جنين ونابلس، وعملية «بيت وحديقة» (تموز 2023) التي استهدفت جنين ومخيمها، وعملية «المخيمات الصيفية» (آب 2024) واستهدفت جنين وطولكرم وطوباس وبلدات شمال الضفة الغربية.

حسمت العائلة أمرها، وقرّرت النزوح من المخيم، «عندي سيارة بيجو بارتنر ستة ركاب. دبرنا حالنا فيها وطلعنا»، يقول أبو أنس. ولم تحمل العائلة معها غير الملابس التي كانوا يرتدونها، حتى عدة عمل أبو أنس، وهو المعروف في المخيم بمهنة تصليح أفران الغاز لم يحملها معها. ومن المخيم توجهوا نحو حيّ الجابريات القريب. بقي أبو أنس عند أقاربه في الجابريات، فيما توزعت أُسَر أبنائه الثلاثة على القرى المحيطة بمدينة جنين؛ كفر بود والجديدة وكفر دان. أمّا ابنه الأصغر محمود فنزح إلى سكن الجامعة الأمريكية في منطقة الزبابدة في جنين.

لم تكن عائلة أبو أنس الوحيدة التي خرجت من المخيم عند بدء اجتياحه نهاية العام الفائت، إذ نزح حوالي 22 ألفًا من أهالي المخيم نحو قرى المدينة، بحيث بات المخيم اليوم فارغًا من السكان. واليوم يسكن حوالي أربعة آلاف منهم في منطقة برقين، ومثلهم تقريبًا في سكنات الجامعة الأمريكية.

جنين بين السور الواقي والسور الحديدي

لم تكن هذه التجربة الأولى لعائلة أبو أنس مع النزوح، إذ سبق أن نزحت العائلة عام 2002، عندما اجتياح جيش الاحتلال جنين وباقي مدن الضفة الغربية خلال عملية «السور الواقي». حينها كان أبو أنس أربعينيًا، ولديه سبعة أطفال وزوجته حاملًا.

في ذلك الاجتياح قصفت طائرة أباتشي إسرائيلية بيت أبو أنس بصاروخ. نجت العائلة بأعجوبة فيما انهار جزء من البيت. خرجت العائلة حينها سريعًا، وعبر فتحات كان المقاومون قد أحدثوها في جدران البيوت اتقاء لطائرات الاحتلال وقنّاصيه، تنقلت عائلة أبو أنس داخل المخيم حتى وصلوا إلى ساحة في منتصفه. ترك أبو أنس عائلته مع شقيقه، فيما ذهب متطوّعًا مع فرق الإغاثة والإسعاف.

ومع دخول آليات الاحتلال لقلب المخيم، نزحت العائلة إلى حارة مجاورة، وكلّما تحرّك جيش الاحتلال كانت العائلة تنزح من جديد من حارة إلى أخرى. وفي أحد بيوت النزوح العديد التي عاشت فيها العائلة تواجد في الوقت ذاته 60 نازحًا، وعدة مقاومين مصابين يتلقون الإسعاف. وفي أحد الأيام سمع أبو أنس صوت انفجار من الجهة التي يتواجد فيها البيت فأسرع إليه ليجده مقصوفًا، لكن عائلته وباقي العائلات كانت قد غادرته قبل وقت قصير إلى حارة أخرى «فتت ضويت الكشاف لقيت في الدار خمسة شهداء».

أكمل جيش الاحتلال اجتياحه للمخيم بعد 12 يومًا من المواجهات مع المقاومين. وبدأ التموين والمياه بالنفاد من المخيم. وفي النهاية نزحت العائلة عند أقارب لها في منطقة وادي برقين، وهي منطقة مجاورة للمخيم. «النزوح مش سهل. بتطلع بأواعيك ما معك إشي، الناس ما بتقصر مع بعض أكيد، لكن بتعرف أصلًا المناطق المحيطة بالمخيم كانت محاصرة وفيها آليات الاحتلال. وضعهم كان صعب برضه من ناحية تموين وكذا»، يقول أبو أنس.

مع نهاية الاجتياح، عادت العائلة إلى منزلها فوجدته غير صالح للسكن، فانتقلت إلى شقة استأجرتها لهم وكالة الغوث، وسكنوها ثلاث سنوات، حتى تمت إعادة إعمار المخيّم من جديد.

رغم انتهاء الاجتياح إلّا أن قوات الاحتلال كانت تقتحم المخيم دومًا، وتعتقل بشكل مستمر، وكان من بين المعتقلين أبو أنس، الذي أمضى 15 شهرًا في السجن بتهمة إيواء مقاومين: «في هذيك الفترة أجاني الولد الصغير. أمه ولدته وأنا في السجن». كبر هذا الطفل الذي كانت تحمله والدته في بطنها عندما نزحت العائلة في انتفاضة الأقصى، وولدته حين كان والده في السجن، وأسمته محمود، وتعرض لما تعرض له والده في مخيم جنين حين شن جيش الاحتلال الإسرائيلي بين أواخر كانون الثاني وبداية شباط من العام الحالي عملية «السور الحديدي» على محافظات شمال الضفة الغربية وشملت جنين وطولكرم وطوباس.

وفي واحد من الاجتياحات كانت العائلة قد نزحت لكنه قرر البقاء في البيت على اعتبار أنه الأعزب الوحيد فلم يشعر بأنه من المناسب أن يكون نازحًا في بيوت تسكنها عائلات، ولو كانوا أقاربه. لكن مع اشتداد الاشتباكات انقطعت الكهرباء والإنترنت وكذلك أخبار ما يجري في المخيم، اضطرّ لترك البيت، لكن عندما خرج من البيت «التقيت بجيب الجيش. لحقوني فهربت منهم ونطيت على دار. انحشرت مع حجة وبناتها 11 ساعة».

تكيّف رغم كل شيء

منذ السابع من أكتوبر وحتى تموز الفائت، أجبرت عمليات جيش الاحتلال أكثر من 50 ألف فلسطيني في الضفة الغربية على النزوح من بيوتهم، بينهم 22 ألفًا من مخيم جنين وحده، فيما زاد عدد المداهمات عن 12 ألفًا تخللها تدمير 1386 منزل، بحسب رصد مركز معطى.

تنقل محمود في عدة مناطق من الضفة بعيدًا عن عائلته مثل سكنات طلاب الجامعة الأمريكية في جنين، ثم انتقل إلى قرية برقين «في دار عظم لعمي لسة مش جاهزة. إحنا الشباب زبطنا غرفة وقعدنا فيها».

أما العائلات التي نزحت لأماكن مختلفة، ومن بينها سكنات طلاب الجامعة الأمريكية، فتصلها مساعدات مالية بسيطة من وكالة الغوث بشكل غير منتظم، وأحيانًا تأتي المساعدات من الأهالي على شكل بيوت ومنشآت زراعية يقدمها الناس للنازحين أو بدل إيجارات يدفعونها عن العائلات المستأجرة، أو على شكل مساعدات عينية مثل العفش والأدوات المنزلية والمواد التموينية.

مقالات ذات صلة

يوضح جميع من قابلناهم صعوبة الظروف الاقتصادية التي تعيشها الضفة الغربية اليوم، من حصار الاحتلال، وبطالة مرتفعة جدًا، وانقطاع لرواتب القطاع العام. ولأن المساعدات التي تقدمها الجهات المختلفة شحيحة، يعتمد النازحون على «الطقطقة» في العمل، فينقل أبو أنس الركاب على سيارته بالأجرة، وافتتح أحد أبنائه بسطة لبيع الملابس والآخر يعمل مع أولاد عمه في نفس المدينة ببيع الفحم، فيما يعمل الثالث في تصليح أفران الغاز وهي مهنة الأب منذ سنوات طويلة في المخيم وكان يملك فيه ورشة كبيرة «إحنا معروفين بهاي الشغلة وبرنوا علينا الناس بس ما في قطع عنا ولا عدة كلها راحت في المخيم» يقول أبو أنس.

«فش زي المخيم»

يمنع جيش الاحتلال أهالي مخيم جنين من العودة إليه رغم شهور على بدء عمليته العسكرية هناك، ومن يحاول الاقتراب من المخيم يعتدي عليه الجنود ويضربونه. لكن هذا لم يمنع محمود من تتبّع أخبار المخيم على الدوام، عبر متابعة قنوات تلغرام إسرائيلية يعرض عبرها الجنود والمستوطنون ما يفعلونه بمنازل المخيم. وعندما يغلب الحنين محمود وأصدقاءه يقتربون من محيطيه، ويجلسون في مناطق مرتفعة تطلّ عليه.

لاحظ الشبان خلال هذه الزيارات دخول جنود الاحتلال برفقة عمّال آسيويين إلى المخيم، وسمعوا من الأهالي عن سرقة أثاث المنازل والأجهزة الكهربائية، كما حدث مع جيرانهم الذين وجدوا أثاث بيتهم معروضًا في محل لبيع الأثاث المستعمل في جنين. وعندما سألوا صاحب المحل، أخبرهم أن البضائع تأتي من أسواق الأثاث المستعمل في «إسرائيل» مثل ساحة حيفا والعفولة.

عرف محمود أن بيتهم لا زال واقفًا، فيما دُمّرت البيوت من حوله، ولذا يقول إن هذا البيت سيكون للعائلات التي دمرت بيوتها بالكامل ولا تقوى على استئجار بيت ما خارج المخيم.

أما الأب فلا ينقطع عن زيارة أبنائه وجيرانه في مواقع نزوحهم ويقضون وقتهم في الحديث عن المخيم، وذكرياتهم فيه متسائلين عن موعد عودتهم «متمسكين بالمخيم. رغم إنه عارفين المخيم صار لا يصلح للسكن حاليًا. بس هذا مربانا وهذا مطرحنا». مشيرًا إلى هدم الكثير من منازله، وتدمير بنيته التحتية.

يعتقد أبو أنس أن «إسرائيل» تريد إرجاع المخيم لما كان عليه عام 1967 حين كان عدد سكان المخيم أربعة أو خمسة آلاف نسمة فقط، وكانت الحارات والشوارع واسعة وبعيدة عن بعضها، فيما يتحدث الأهالي عن وجود مخططات إسرائيلية لتركيب بوابات على بوابات المخيم مستقبلًا، كي يمنعوا الناس من الدخول إليه ومن الخروج منه إلّا بإذن من جيش الاحتلال.

أمّا الفارق بين الاجتياح الحالي، واجتياح العام 2002، فيقول أبو أنس إن الوضع اليوم أسوأ كثيرًا مما كان عليه المشهد في الانتفاضة الثانية. حينها كان ثمّة تنظيم مجتمعي يعين الناس ويساعدهم، كما كانت هنالك حالة من التفاؤل بأننا سنعود إلى المخيم بمجرد انتهاء العملية العسكرية، وأنه لا مخطط لتهجير الأهالي وتشتيتهم، وإلى حد ما كان هناك أفق سياسي. أمّا اليوم فالإشاعات التي يسمعها الأهالي كثيرة، وهم يخشون ألّا يعودوا إلى المخيم أبدًا، وألّا يعود هنالك شيء اسمه مخيم جنين بعد نهاية الحرب، التي لا نهاية في الأفق لها، وحالة من الحيرة والأمور تمضي نحو «مصير مجهول».

رغم كلّ هذا، لا يزال محمود يفكر بالعودة إلى المخيم لأن الحياة التي يعرفها هي حياة المخيم فقط؛ حيث يتكاتف الأهالي وكأنهم عائلة واحدة، مستذكرًا كيف كان الناس يتركون مفاتيح السيارات فيها تحت تصرف من يحتاجها من الأهالي، ويختم بالقول: «طلعنا ولفينا كثير، فش زي المخيم. علاقتنا بالمخيم أرض ودم».

مقالات من فلسطين

للكاتب نفسه