إعداد وتحرير: صباح جلّول
"يريدونني أن أكون مقهوراً لدرجة أن أتلاشى تقريباً، وحقيقةً لا أعرف كيف سينتهي هذا الأمر".
*المعتقل السياسي علاء عبد الفتاح
يوم السبت في 16 آب/ أغسطس 2025، ذهبت والدة المعتقلة السياسية مروة عرَفة لزيارتها في السجن كالمعتاد، لتفاجأ بابنتها البالغة من العمر 32 عاماً في حالة إعياء شديد يجعلها غير قادرة على حمل نفسها والتحرك بدون مساعدة عدد من زميلاتها في السجن. لنا أن نتخيل شعور أم ترى، بدون مقدمات، ابنتها الشابة بهذه الحال. أخبرت مروة أمها أنها أصيبت في 13 آب/ أغسطس، أي قبل ثلاثة أيام على زيارتها، بعارض صحّي بدأ بوقوعها مغمىً عليها، لتنقلها إدارة السجن مؤقتاً إلى المستشفى، حيث قال لها الأطباء أنها أصيبت بـ"جلطة في الشريان الرئوي بالقلب"، تسببت بغيرها من المضاعفات. بعد ليلة واحدة من الإهمال وانعدام المتابعة في مستشفى السجن، أعيدت مروة إلى حبسها بدون رعاية صحية، سِوى ما تستطيع زميلات السجن منحها من اهتمام ومساندة.
كل ما وفرته إدارة السجن لامرأة مصابة بجلطة وتدهور صحي متسارع كان أسطوانة أكسيجين واحدة نفدت سريعاً، لتعود وتطلب إدارة السجن من عائلة مروة عرفة توفير أجهزة قياس الضغط والسكر وأسطوانات الأكسيجين، بدون السماح للعائلة بزيارتها، وبدون توفير رعاية صحية لها، على أساس أن السجينات الزميلات سيتابعن حالتها بأنفسهنّ... استقالة كاملة لإدارة السجن وللدولة من واجباتها تجاه المساجين، وإحالة الواجبات التي تقع على عاتقها إلى المواطنين.. عائلة وزملاء المحبوسين.
تزداد هذه القصة المرعبة فظاعةً عندما يكتشف القارئ، أو يتذكّر، أنّ مروة عرفة موجودة في السجن بشكل مخالف للقانون أصلاً.. وأنها ينبغي ألّا تكون هناك بالأساس. فمن هي مروة عرفة، وكيف صارت في السجن؟ ولماذا تقبع هناك حتى الآن على الرغم من إصابتها بجلطة؟ وهنا مجدداً، نكتشف طبقات من الظلم والتجني.
مروة عرفة مواطنة مصرية، ولدت عام 1993، درست طب الأسنان والأدب الإنجليزي في الجامعة، وتخرجت لتعمل كمترجِمة مستقلة. والدتها الأكاديمية وفاء حفني، ويصدف أنها حفيدة حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين. لم ترتكب مروة عرفة أي جرم، لم تنضمّ إلى أية جماعة أو حزب، لم تتبنّ حركة الإخوان المسلمين، وليس لها أي نشاطٍ سياسي مرتبط بها. كل ما فعلته حسب كل المعلومات المتوفرة، وبالأدلة، هو أنها قامت بأنشطة خيرية، وقدمت معونة عبارة عن طعام وملابس لأشخاص احتاجوها، لأن المعيل في عائلة هؤلاء في الحبس، كما نسقت حملة "الحرية للأطفال" عام 2015 للدفاع عن الأطفال في السجون.
في 20 نيسان/ أبريل 2020، اقتحمت قوات الأمن المصري منزل مروة عرفة في القاهرة من دون مذكرة قانونية واعتقلتها منه، لتُخفى قسرياً بعدها لمدة 14 يوماً، قبل عرضها على نيابة أمن الدولة. وُجّهت إليها تهم جاهزة: "نشر أخبار كاذبة، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومشاركة جماعة إرهابية أهدافها"، واعتقلت على ذمة القضية رقم 570 لسنة 2020 - وهي قضية تضمّ على ذمتها أكثر من 40 متهماً يقبعون بدورهم في السجون.
خُطفَت مروة من طفلتها التي كانت تبلغ من العمر أقل من سنتين وقت اعتقالها. الآن، بعد خمس سنوات، كبرت الطفلة وحيدة بعيداً عن والدتها، وبحسب والدة مروة، فإن حفيدتها عانت من صعوبات في النطق وحالة نفسية مضطربة بعد حبس أمها التي تعيش الآن في خطر صحي حقيقي في السجن، زيادة على القهر المستمر الناتج عن عدم قدرتها على رؤية ابنتها والاعتناء بها. مرت مروة بفترات مطولة نامت بها على أرضية الحبس الباردة بجانب دورات المياه، حسب شهادات عائلية، بعد تعرضها لمضايقات من بعض السجينات الجنائيات، ومُنعت خلال سنوات حبسها من العمل أو الدراسة أو استكمال الدراسات العليا في الجامعة، ما ساهم في تعبها النفسي والصحي.
مروة عرفة قيد السجن الاحتياطي منذ 2020، يتجدد حبسها كل 45 يوماً طوال خمس سنوات، بما يتجاوز بثلاث سنوات الحدّ الأقصى من التجديدات المنصوص عليها في القانون المصري. هكذا يُفرِّط من يحبسها ليس فقط بحياتها وحياة المعتقلين، ولكن بالقانون نفسه وما له من احترام وقدسية، فاتحاً الباب أمام "شرعنة الاحتجاز الطويل بما يخالف القانون"، كما عبّر حقوقيون بقلق.
حالة خاصة؟ بل حالة عامة
جاء في منشور على صفحة "الموقف المصري" أن "الأجهزة بدلاً من أن تعيد النظر في الظلم الواقع على الآلاف من المعتقلين، قررت أن تعمِّق الظلم ليطال حتى من يساعدهم. وهو ليس مجرد ظلم عادي لكنه قهر بلا رحمة أو اعتبار إنساني حتى". وأشار القائمون على الصفحة أن "نهج الانتقام بالإهمال الطبي متكرر دوماً مع المعتقلين السياسيين"، هو ما سبق أن حدث مع المحامية هدى عبد المنعم والدكتور أبو الفتوح الذي تعرَّض لجلطات أكتر من مرة، وغيرهم المئات من المعتقلين الذين اختبروا الإهمال الطبي الذي يرقى إلى كونه تعذيباً عمداً وجريمة. "كل المطلوب هو إنفاذ القانون، أو على الأقل التحلي بأدنى درجات الحكمة والإنسانية، وإنقاذ حياة إنسانة كل اللي كانت بتعمله إنها بتساعد ناس محتاجة"، يضيف المنشور.
بالإضافة إلى ذلك، عمدت سمر الحسيني، المديرة التنفيذية للمنبر المصري لحقوق الإنسان، إلى التذكير بحالات متعددة لسجناء سياسيين وغيرهم، تمّ تجاهلهم، وبالتالي مفاقمة أوضاعهم الصحية في الحبس، فقالت في منشور على صفحتها على فيسبوك: "صلاح سلطان جاله نزيف في المخ ومتنقلش المستشفى. هدى عبد المنعم محتاجة تغيّر مفصل الركبة ومتنقلتش المستشفى. حسيبة محسوب محتاجة إزالة أورام في الرحم ومتنقلتش مستشفى. مروة عرفة جالها جلطة ومتنقلتش المستشفى. قائمة لا تنتهي من ضحايا النظام"، لتنهي منشورها بالتذكير أن "الرعاية الصحية للمسجون، جنائي أو سياسي، حقّ، مش مِنحة!"
يحدث هذا في وقتٍ يُضرب فيه أكثر من 35 شخصاً من السجناء في سجن "بدر 3" عن الطعام احتجاحاً على الانتهاكات الممنهجة بحقهم، إضراب مفتوح منذ حزيران/ يونيو الماضي. مطالبهم بسيطة، لا تتعدى كونها حقوقاً أساسية لهم: حق الزيارة العائلية والتريّض وإدخال الطعام والدواء وتحسين الرعاية الطبية، لتتم مقابلتهم بزيادة التضييق عليهم عبر قطع المياه وإغلاق مجاري الصرف الصحي والحرمان حتى من المصاحف، بالإضافة إلى منع السجناء الذين تدهورت أحوالهم الصحية من الانتقال إلى المستشفى.

فإلى متى يستمر هذا الظلم من البلد على أبنائه وبناته كأنهم عدوّ وطنهم الأول؟ إلى متى تبقى مروة عرفة، التي باتت حياتها في خطر، بعيدة عن ابنتها وأهلها وحقها في الحياة والرعاية؟
ليس هناك ما يقال إلا التأمل بكلمات مروة عرفة نفسها، التي كتبتها منذ شهور من محبسها لتنشرها حملة "حتى آخر سجين" الحقوقية: "مفيش للأبد، لا بدّ الحال يتغير ويتعدِل، وما فيش مفر! خلينا وخليني أفكّركم وأفكّر نفسي"، تقول بكلمات الشاعر عبد الرحمن الأبنودي: "شرط المحبة الجسارة، شرع القلوب الوفية. ولا بدّ من يوم تِتردّ فيه المظالِم، أبيض على كل حرّ، أسود مهبّب على كلّ ظالِم".