تمُرّ دانية ابنة أُختي يومياً على بيتنا، أسألها كلّ مرة إذا ما تناولت الفطور أم لا. هذه المرّة سألتها، وقالت إن أهلها أكلوا، لكنها لم تأكل. لم أفهم السبب، ومباشرةً أعددنا لها سندويش من الجبنة والزعتر، وهي مكونات بسيطة للغاية، لكنها لم تعد موجودة في البيوت الغزيّة في الأشهر الأخيرة، مع تفشّي المجاعة. كنتُ قد حاولت إبقاء الكمية القليلة الباقية منها، لأطول فترة ممكنة. توقفنا كلّنا عن تناولها، مقابل بقائها لأجل سلوان، طفلتي الصغيرة، كخيارات للطعام، في ظلّ عدم توافر طلباتها اليوميّة التي لا تنساها، مثل البيض والدجاج.
بعد يوميْن عرفت أن دانية، تعمّدتْ في ذلك اليوم عدم الأكل في بيتها، فأُمها التي لا يتوفّر لديها سوى "الدُقّة" الغزاويّة[1]، لا تُطعمهم غيرها في سندويشاتٍ صغيرة. تعمّدتْ دانية عدم الأكل، والحضور إلينا. قالت لأمها إنها فعلت ذلك لعلّ أحداً من أخوالها، أي نحن، أنا وبيوت إخوتي وأهلي، يسألها إن كانت قد أكلت في البيت أم لا، وفي حال ردّت بالسلب، سيُعرض بالتأكيد عليها خياراً جيداً من المخزون البسيط الباقي، مقارنةً بخيار أُمها المستهلَك وغير اللذيذ.
غزة: لن ننسى ولن نسامح
26-06-2025
فوراً، قُلت لدانية بعد ذلك، تعالي غداً ، سنُقيم سُفرة فطور خاصّة من أجلكِ. عادةً نأكل جميعاً سندويشاً صغيراً كلّ صباح، بهدف توفير الخبز القليل، والمخزون الموجود من الطعام، ضمن خطّة يقوم بها كلّ من يملك باقي الطعام في غزّة، كي يصمد لأطول فترة مُمكنة. أمّا أولئك الذين نفدت لديهم الخيارات، فبالتأكيد سيقضون الصباح في البحث عن شيء لأطفالهم يسُد جوعهم.
جاءت دانية، أكلت البطاطا، الجبنة، الزعتر والزيت. أكلت كثيراً، وبقيت طويلاً، أسألها كلما نفدت الصحون، إذا ما كانت تُريد المزيد، فترُد بالإيجاب، حتى شبعت بالكامل.
**
في اليوم السابق لهذا الحدث الاستثنائي في حياة دانية خلال هذه الأشهر، كان العيد قد حلّ على غزّة. مشيتُ في الشارع، كان كُل الناس يُسكون عُلب الجبنة المصنّعة، أو جبنة "الفيتا" المصريّة، التي غابت عن منازل غزّة لأشهر، مع نفاد كمياتها من القطاع، وغلاء الكمية القليلة الباقية لما يزيد على 20 دولاراً للقطعة الواحدة، وهي التي لا تكاد تكفي عائلة لنصف يوم.
كُل الناس أيضاً كانوا يحملون السكّر، وبعضهم التمر، والمؤكد أنّ الجميع اشترى الطحين. ليس الجميع بالضرورة، فليست كلّ عائلات غزّة تستطيع توفير المبالغ البسيطة جداً التي عُرِضت بها بعض البضائع. ولفهم هذا الأمر، يجب أخذ نظرة على الأسعار سريعاً، خصوصاً لِما توفّر في يومٍ واحد للناس.
أعلنت إسرائيل مؤخراً عن السماح بدخول بضائع التُجار، ليستطيع كلّ تاجر في غزة شراء بضائع من الضفة الغربية ومصر والداخل المُحتل، وإدخالها عبر المعابر، لتُباع بأسعار مختلفة. وهو شيء مختلف عن المُساعدات التي يُفترض توزيعها على السكان مجاناً. فعلى مدار أسبوعيْن، كانت المساعدات تُسرَق بالكامل، في ظل "هندسة الفوضى" التي يعمل عليها الاحتلال، حيث يَمنع تأمين حراسة المُساعدات، ما يدفع اللصوص والمافيات إلى سرقتها، وبيعها بأسعار خيالية، ويجعل هؤلاء يتحكمون تحكّم بالسوق.
بلغ سعر الكيلو من الطحين في ذلك اليوم من 10 إلى 18 شيكلاً، فيما سعر الكيس الكامل الذي يحتوي 25 كيلو، كان يبلغ سابقاً 20 شيكلاً فقط. أي سعر الكيلو اليوم، بسعر الكيس سابقاً، لكن الناس اعتبروه إنجازاً، بعد أن بلغ الكيلو الواحد في الأسابيع السابقة، ما يزيد على 100 الى 200 شيكل، وصولاً إلى أسعار متفاوِتة... أمّا السكر، أبو خمسة شواكل، والرخيص جداً في غزّة، والمتوفّر في كلّ بيوتها في الحياة العادية، فقد زاد على 400 شيكل في الأيام الأخيرة، وفجأةً، وبعد دخول بضائع التُجار، وصل إلى 50 شيكلاً، وهو ما اعتبره الناس عيداً لهم.
مساعدات ل"إنقاذ الحرب"
31-07-2025
قطعة الجبنة الصغيرة، التي احتفلَ الناس بها، وصاروا يحملونها لتزيّن منازلهم، وليأكل كلّ أهلها في هذا النهار الجبنة بكلّ أشكالها، كان ثمنها لا يزيد عن اثنين شيكل فقط، وفي الأسابيع الأخيرة زادت عن 70 شيكلاً، أمّا الآن فهي تتراوح بين 10 إلى 15 شيكلاً، وهو ليس إنجازاً بالنسبة إلى مئات الآلاف ممن لا يملكون قوت يومهم، بلا فرص عمل، ولا رواتب، ولا حتى سيولة لسحب الأموال، بعد عاميْن من الإبادة.
**
أعلنتْ إسرائيل مؤخراً عن السماح بدخول بضائع التُجار، حيث يستطيع كلّ تاجر في غزة شراء بضائع من الضفة الغربية ومصر والداخل المُحتل، وإدخالها إلى غزّة عبر المعابر، لتُباع بأسعار مختلفة، وهو شيء مختلف عن المُساعدات التي يُفترض توزيعها على السكان مجاناً. هذه الخطوة أسهمت في تحريك السوق الغزّي ومساعدة الناس. فعلى مدار أسبوعيْن كانت المساعدات تُسرق بالكامل، في ظل "هندسة الفوضى"، التي يعمل عليها الاحتلال، حيث يَمنع تأمين حراسة المُساعدات، ما يدفع اللصوص والمافيات إلى سرقتها، وبيعها بأسعار خيالية، ويجعل هؤلاء يتحكّمون بالسوق.
أسهمتْ بضائع التجار في كسر احتكار اللصوص. وعلى الرغم من أنني استغرب من حديثي عن هذا الأمر بشكلٍ طبيعي، لكن الطبيعي في ظلّ الحرب يتحوّل إلى شاذ، فيما تطفو على السطح الشوائب التي تسود المُجتمع وتتحوّل إلى نمطٍ يومي واعتيادي. هذا ما نعيشهُ في غزّة: نُفاضِل بين احتكار التُجار واحتكار اللصوص. وهي بالتأكيد سياسة يسعى الاحتلال إلى ترسيخها، لإضعاف المُجتمع وإذلاله أكثر.
جاء قرار احتلال مدينة غزّة ليكسرَ فرحة الناس، لكنها لم تنكسر. صادق الكابينت الإسرائيلي على القرار كخطوة لاحتلال كامل القطاع، ويبدأ ذلك باحتلال مدينة غزة، وتهجير سكانها من جديد نحو الجنوب، قبل حصارها، ثُم دفع من تبقى للاستسلام أو القتال. قُلنا لن نخرج. هذه المرة لن نخرج، سنموت أو نعيش، لا خيارات أُخرى. كُلنا خائفون، لكننا نأكل ونأكل، نؤجّل الألم المرتقب إلى ما بعد أكل الجبنة...
سَمح الأمر بدخول أنواع مختلفة من البضائع. السكر، الطحين، التمر، القهوة، وأشياء أُخرى وعد التجار بها، مثل الخضار والفواكه والدجاج. انتظرها الناس، مترقبين دخولها بأسعار خيالية، أمام استمرار "هندسة التجويع" التي يرسِّخها الاحتلال. فالتجار، إلى جانب جنوحهم إلى الاستغلال البشع، يدفعون مبالغ طائلة مقابل وصول البضائع إلى الناس، أولها، تأمين البضائع من خلال عناصر غير فصائلية، وهو ما يحتاج إلى مبالغ خيالية، ولكنه يَحول دون استهدافهم من قبل الاحتلال لعدم انتمائهم إلى حماس أو غيرها من الفصائل، ثم أسعار تنسيقات دخول البضائع من المعابر الإسرائيلية، وهو ما يرفع أثمانها، فتصل البضائع إلى سكان غزة بأسعار تتراوح بين 5 إلى 10 أضعاف الثمن الأصلي، الذي كان قبلَ الحرب.
المُهم، وهو ما يقوله الناس، إن هذه البضائع كسرتْ احتكار اللصوص، وأسهمت في كسر الأسعار بشكلٍ لافت، فهي في يوميْن انخفضت سريعاً.
نقاش هادئ حول ألم غزة
05-07-2025
احتفى الناس في غزّة بعُلب الجبنة. احتفاليّة كبيرة بشيءٍ بسيط وخفيف جداً، حتى أنه غير مُغذٍ صحياً، لكن يبدو أن تغيير مذاق الفم يحتاج إلى فرحة خاصّة. نشر كثيرون صوراً لسندويشات الجبنة إلى جانب كأس الشاي المُحلى بالسكّر، بعد وصول الصنفيْن البسيطيْن اللذين غابا عنهم طويلًا. كتبتُ على حسابي في تويتر:"كل هاد الاحتفال على جبنة وسكر يا غزازوة، كيف لو شربتوا قهوة؟". هذا، وسعر القهوة في غزّة تحول من 14 شيكلاً لربع الكيلو، إلى 500 شيكل، فصار فنجان القهوة ضرباً من الخيال في هذا المكان.
**
كُنتُ قد وعدتُ سلوان باحتفال خاصّ بعيد ميلادها الثالث. سنُقيم حفلة. قُلت لها ذلك قبل أكثر من شهر، حين توقعنا جميعاً أن هناك اتفاقاً مرتقباً لوقف إطلاق النار بعد أيامٍ قليلة. قُلتُ سيبدأ الاتفاق وستدخل البضائع، وإلى حين وصول تاريخ ميلادها (14 آب/ أغسطس)، سيكون الاستقرار قد ملأ الأسواق بالبضائع وصارت أسعارها في متناول اليد، مع توافر كل احتياجات عيد الميلاد. لم يحدُث ذلك، لكن قرار الاحتلال دخول المُساعدات رُبما أسهم في التخفيف من تأزم حالة السوق. فقُلت سنُقيم الحفلة.
تنتظر سلوان عيد ميلادها على أحرّ من الجمر. تقول بشكل مُستمر إنها ستستضيف أبناء عمّاتها وأعمامها، سيحتفلون ويُغنّون. طلبتْ أن نُحْضر مهرِّجاً تُشاهده على يوتيوب بشكلٍ دائم كضيف في الحفلة، والصدفة أن هذا المُهرِّج من عائلتي. اتصلتُ به، وطلبت منه الحضور لحفلة عائلية بسيطة، وبمُقابل مادي، كأنها فعالية خارجية يؤديها في عمله، وافق، واحتفلت سلوان احتفالًا كبيراً في انتظار الحفل الأكبر.
**
جاء قرار احتلال مدينة غزّة ليكسرَ فرحة الناس، لكنها لم تنكسر. صادق الكابينت الإسرائيلي على القرار كخطوة لاحتلال كامل القطاع، حيث يبدأ ذلك باحتلال مدينة غزة، وتهجير سكانها من جديد نحو الجنوب، قبل حصارها ثُم دفع من تبقى للاستسلام أو القتال. قُلنا لن نخرج. هذه المرة لن نخرج، سنموت أو نعيش، لا خيارات أُخرى. كُلنا خائفون، لكننا نأكل ونأكل، نؤجّل الألم المرتقب إلى ما بعد أكل الجبنة، ونغضّ النظر عن الخوف، بانتظار شاحنات البضائع التي وعدونا بها، فالناس تنتظر أحد مصيريْن: التهجير والموت، أو أكل الدجاج واللحوم.
سقط العالَم إنْ سقطَت غزّة
24-07-2025
لا شكّ في أن الناس يحتفلون بانتصارهم الصغير بالوصول إلى الطعام، ولو على بساطته - وهو تنويه ضروري يجب دائماً أن نقوله كي لا يظن العالم أن المجاعة انتهت – والناس في الوقت نفسه يدركون في دواخلهم، أن هذه المُساعدات هي أشبه بتحقيق الأمنية الأخيرة للشخص المحكوم عليه بالإعدام!
- الدُقة الغزاوية: مزيج مطحون أساسه حبوب القمح والسماق والفلفل الأحمر، وتُخلط بالزيت. هذه المواد لا تتوافر بسهولة، وسعرها مرتفع، لكنها أرخص من الزعتر، الذي وصل ثمنه إلى أكثر من 100 دولار للكيلو! ↑