هكذا تكلّم زياد الرحباني..

وأكثر من ذلك.. نعاه رفاقنا في غزة. "نهار حزين"، كتب زميلنا المقداد. يا الله ما أعظم محبته في القلوب! من أحزن بقعة على الأرض حالياً، من أكثر البقاع تعباً وانشغالاً بالبقاء على قيد الحياة، بلغ كرم الرفاق في غزّة أن أفسحوا مجالاً لحزنٍ إضافي، خُصّص لهذا الإنسان بالذات، الذي لا بدّ كان ألم غزّة - ولبنان - ملازماً له في فراش المرض.
2025-07-31

شارك
من التجمع الوداعي لزياد الرحباني في بيروت، يوم الأحد 27 تموز/يوليو 2025. (الصورة عن موقع ذا ناشونال).
إعداد وتحرير: صباح جلّول

قبل أيامٍ قليلة، شاهدتُ مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي للرسام الفلسطيني طه حسين أبو غالي من غزّة، يُهشِّم لوحاته الواحدة تلو الأخرى، ليتخذها حطباً لنارٍ يطهو عليها لأطفاله ما تيسّر في القطاع المجوَّع. "بالأزمات، الحلوة بتقصّ شعرها"، قال، فيما كانت يده تهوي على الخشب الذي يلمّ قماشة الرسم وألوانها. "ونحن مضطرون آسفين إنو ندمر اللوحات عشان ناخذ البراويز (الإطارات) نطبخ عليها، لأنه ما في وقود ولا في كهرباء ولا في كاز ولا أي شي". لم يتبادر إلى ذهني لحظة مشاهدة الفيديو المؤلم هذا، سوى أغنية قديمة لزياد الرحباني، تقول: "منشكر الله، عِنّا بيانو / منقدر نكسرلُو إجريه / إصحا تنسمّوا منشانو / ولا يوجعْكن قلب عليه"[1]. هكذا هو الفنان في وقت الحروب والأزمات والإبادة والألم الشديد، كما في أوقات الفاقة والتعثير، التي ليست بغريبة عن كثير من الفنانين الصادقين، يجد نفسه بمواجهة فنّه - مورده الوحيد، وأمام سؤال البقاء. ما أبسط تلك الأغنية وما أفدح المصيبة. "كان بيانو، يا ضيعانو.. كان بيانو، يا ضيعانو"، تردد اللازمة.

بعدها بيومين، صباح السبت 26 تموز/يوليو 2025، خرج الخبر: ماتَ زياد الرحباني.

في صباح اليوم التالي، اجتمع أصدقاؤه ومحبوه أمام مستشفى خوري في الحمرا (بيروت)، ليودّعوه قبل أن يُنقّل إلى المحيدثة (بكفيّا)، حيث أرادت والدته السيدة فيروز إقامه عزائه ثم دفنه في مدفن عائلي خاص، بالقرب منها. طلعت إليها البلاد، إلى بكفيا، تعزّيها – تعزّي التي عزّت البلاد في كل المفاصل الرهيبة التي مرّ بها اللبنانيون.

فيروز التي غنّت "أنا الأم الحزينة ومن يعزّيها"، وابنتها ريما الرحباني أمام نعش زياد في كنيسة رقاد السيدة في المحيدثة. (الصورة عن الانترنت).

كان يوم الأحد 27 تموز/يوليو يوم حداد شعبي حقيقي، رغم عدم إعلانه يوم حداد رسمي. أعرف لأنّ كلّ من كلمني وكلمته في ذلك اليوم، في لبنان والاغتراب، عزّاني وعزّيته.

إكليل وردٍ أُرسل من بيروت إلى بكفيّا، إلى كنيسة جنّازه وعزائه. المرسِل؟ سناك فيصل، فرن مناقيش وفطائر في منطقة الحمرا. قبلها بيوم، وقف شغّيلة مطعم "ملك البطاطا"، لبنانيين وسوريين على باب المحل مودّعين، يتفرجون على المسيرة التي مشت خلف سيارة تحوي جسده. دمعت عيونهم وهم وسط دوام عملهم. على انستغرام، شاركت قهوة الروضة مقطعاً من أغنية "حبيب الروح" لزياد الرحباني (غناء جوزيف صقر وختام اللحام)، التي صُوّر لها فيديو كليب على أحد أسطح المقهى، ونعته: "وداعاً زياد، راح نشتاقلك".

يفكّر الواحد بهذه اللفتات المُحِبّة، أمام موتٍ مفجع كموت فنانٍ كان صوتنا وصوت يومياتنا. مَن غَيره من الفنانين والموسيقيين المعروفين كانت لتنعاه محلات السناك والمقاهي الشعبية وممرضات المستشفى اللواتي خرجن باكيات إلى وداعه في الحمرا؟ وكيف عرفه كل هؤلاء وأحبوه؟ مَن غير زياد الرحباني قال أنه معنا، ومن وسطنا... ثمّ رأيناه فعلاً يكون معنا ووسطنا؟!

قدِم زياد من أكبر وأهم أسرة فنية في لبنان، ابن فيروز وعاصي الرحباني اللذين يكثر وصفهما – عن حقّ - بالعمالقة والجبال وأعمدة بعلبك وأرز لبنان وغيرها من الأوصاف التفخيمية التي لم يحبها هو – زياد، الذي يسميه الناس زياد، حاف. هو ابن آلهة هذا البلد الفنيين، لكنه ابن كل إنسان في أكثر شارع هامشي في ضواحي هذه المدينة، حيث يُسمَع صوته ولحنه. هو معنا، وبيننا، بكلّ بساطة، ولذلك حزنت في يومه كلّ البلاد، حتى أولئك الذين اختلفوا معه أو عاركوه، لأن حبّه قادمٌ من احترامٍ عميق يكنّه الجميع لإنسانٍ يُحْسَد على قدرته على الصدق والمباشَرة.. والوضوح. كم أحبَّ الوضوح!

من هو زياد الرحباني؟

تفصح كلمات وذكريات مَن ودّعوه عن سرّ زياد.

دامعة، قالت السيدة وداد حلواني، مؤسِّسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في الحرب الأهلية اللبنانية أن زياد "كان هو البوصلة التي تدلّنا". وأضافت "هلأ تيتمنا نحن. خلص، البلد صار فاضي. ما بقا في حدا"[2]. هذا الشعور باليتم كان مشتركاً لدى الشباب والشيب في يوم وداعه. "كان في حدا عم يدلنا على الطريق. يدلنا على وين الضوّ، وين الأمل. هلأ خسرناه"... لقد أهدى زياد لجنة أهالي مفقودي الحرب الأهلية لحناً وشعاراً لا يُنسيا. في إعلان تلفزيوني[3] بأداء من الممثلة كارمن لبّس، تقول "صحيح إنو الحرب هلكتنا وبدنا ننسى، يمكن. بس إذا سأل ابنك أو بنتك. شو؟ ما بتقلّن شي؟ أو...؟" بعد السؤال تطلع موسيقى البيانو، تتلهف شوقاً للغائبين، وصوت امرأة تغنّي شعاراً محورياً رافق مسيرة الحملة النضالية للمطالبة بالكشف عن مصير المخطوفين ومحاسبة المرتكِبين: "تنذكر تَ ما تنعاد". هذا شيء من التزام زياد الرحباني.

مشي خلف نعشه المناضلون والآخرون، لكنّ ثمّة سيدة تَلفتّت إليها كلّ العيون. كانت سهى بشارة، المناضلة المقاوِمة التي حاولت اغتيال رأس عملاء ما سمي "جيش لبنان الجنوبي" - جيش عملاء الاحتلال الإسرائيلي في لبنان - وأمضت نتيجة ذلك 10 سنوات من عمرها في المعتقل. كانت تحمل وردة، أو وردتين ودمعة، وتسير بصمت مع السائرين. حضورها أيضاً يجيب عن سؤال "مَن كان زياد؟"..

سهى بشارة في التجمع الوداعي لزياد الرحباني في بيروت، يوم الأحد 27 تموز/يوليو 2025. (الصورة عن فيسبوك).

ومن فلسطين، بُثّت إليه الأمنيات. "كان الطبيعي نكون معكم اليوم. نركب بكير الصبح سياراتنا من حيفا ومن كلّ فلسطين، واللي ما عندوش سيارة يسبق بالقطار، ونوصل بيروت ونمشي معكم ورا زياد، ونكمّل على بكفيّا. ونغني بصوت عالي عالي وقت الدفن. ونبكي. غنّوا اليوم كثير. غنّوا عنّا وبدالنا. وعسى يجي يوم نقدر عالأقلّ نحزن فيو كيف منحب. شكراً زياد الرحباني"، كتب المسرحي بشار مرقص على صفحته على انستغرام. هذا شيء من أثره الممتد.

وأكثر من ذلك.. نعاه رفاقنا في غزة. "نهار حزين"، كتب زميلنا مقداد. يا الله ما أعظم محبته في القلوب! من أحزن بقعة على الأرض حالياً، من أكثر البقاع تعباً وانشغالاً بالبقاء على قيد الحياة، بلغ كرم الرفاق في غزّة أن أفسحوا مجالاً لحزنٍ إضافي، خُصّص لهذا الإنسان بالذات، الذي لا بدّ كان ألم غزّة – ولبنان - ملازماً له في فراش المرض، وعلى امتداد الشهور السابقة التي أبعدته عن الدنيا، بشهادة أصدقائه المقربين.

الوداع في الحمرا من أمام مستشفى خوري يوم الأحد 27 تموز/يوليو 2025. (الصورة عن موقع ذا ناشونال).

وبعد... كُتبت مراثٍ كثيرة عن زياد عاصي الرحباني، الموسيقي والمسرحي ومؤلف الأغنيات وكاتب المقالات ومؤلف الموسيقى التصويرية والحلقات الإذاعية والممثل والشيوعي والسياسي والإنسان.

لعلّ هذه اللمحات القليلة جداً من مسيرته المتفرّدة التي لا تشبه شيئاً تقول شيئاً عنه، أو لعلّ صوت محبيه يعبّر عن "من كان زياد الرحباني؟" بما يتجاوز أيّ رثاء، أو لعلّ كلامه هو يكون الأبلغ في هذا الموضع، ويملك لنا - كما العادة - الإجابة.

*****

عن الوطنية، قال المعادلة البسيطة كالنصل:

"الوطنية إنو تكون ضد إسرائيل". هذه هي. أي ضدّ إسرائيل وما تُمثِّله، وما تعكسه، وما تؤدي إليه، وما أتت منه. أن تكون ضدّها في كل هذا وأبعاده.

وضدّ الولايات المتحدّة الأميركية أيضاً، التي كتب فيها باللهجة المصرية هذه المرّة، أغنية أنشدها عازف العود ومؤسس فرقة "إسكندريللا" حازم شاهين:

"أمريكا مين؟ شياطنهم.
وعرب الباقيين؟ ثعابينهم.
ودولا التانيين؟ بجهلهم.
ياه، يا شباب، يا شباب.
ودة مجلس أمن؟ حاكمهم.
من عشرين قرن؟ ونيّفهم.
وأصحاب الشأن؟ ناطرينهم.
ياه، يا خرابي، يا شباب.
اطلب يا عبيط.. واتمنّى.
ناقِصنا خَبيط، يا بدَنّا.
ودول الشرا*يط. فاهمينا.
ياه، يا هواي يانا ياه(...)"

عناق وإعجاب متبادل بالعمل والمبادئ.. بين زياد والشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم.

عن الفقر، عدو الاشتراكي الأول، كتب نصاً طويلاً بديعاً، ألقاه على خشبة المسرح صديقه الراحل رضوان حمزة، بعض ما جاء فيه:

"قالوا لنا وقالوا لغيرنا، ووصّلوا لنا، بإنو "خلصونا ولوه من سيرة الفقر والتعتير. لا في فقر ولا في تعتير بهالبلد." إنما الحكي مش متل الشوفة. والشوفة مش متل العِصي. واللي عم بيعدّ العصي مش متل يللي آكلها. في ناس بتملّ إذا في كلّ يوم قصة فقير. إنو لازم يا خيي فقير واحد يكون. ويمكن هالعالم حقّهم يملّوا، قد ما صار في ناطقين باسمهم، باسم الفقراء، بالفن والإذاعات (...) ما الفقر، يحرق دين هالفقر، شو بتخسر اذا بتحكي عنه، طالما مش رح يوصلك؟ طالما حاسس بكنباية (كنبة) عريضة تحتك، بتساع خمسة قدّك، انتَ وعم تحكي عنه... الفقر بيطلّع حكي لذيذ. مش معقول. بس تعال شوف الفقر قديش مش حلو(...)

بس ما تخافوا. بطمّنكم. طالما في فقر، بدّو يضل يدق عليكن. وهو شخصي، مش التقليد. مش لمّة بالكنيسة ولا جمعية عاملة حفلة للمحتاجين، ولا بدار الأيتام بأحسن حفلة تبرّع رح تحلّ مشكلته.

بدّو يضلّ الفقر يدقّ عمخوخكن ويطنّ وترنّ، لأنو فاضية متل أحسن نوع بطيخ.

طيب ضروري إذا صبيّة مثل القمر، ساكنة بحيّ السلّم[4]، لأنّ هونيك خلقوها، ما تقدر تستفيد من مستحضرات "لودر"؟ إنو هيي يعني وجّها غير وجّ؟ (...) ضروري هيي تحطّ عوجها كل شي تقليد أو تهريب أو "ستوك"؟ ضروري هيي تجرّب بوجهها؟ مش حرام؟ ما وجّها حلو. وحدُه حلو. لو بتقتنع هيي ما تحطّ شي. يا ريت."

وفي الأغنيات؟ هناك الكثير الكثير.

لفيروز لحّن وكتب ووزع تحفاً يتطلب الحديث عنها صفحاتٍ طوال، كما وضع موسيقى تصويرية خلابة لأفلام مخرجين كبار، أبرزهم الراحلة رندة الشهال التي اشتغل موسيقى فيلميها "طيارة من ورق" و"متحضّرات، ووضع موسيقى فيلم "عائد إلى حيفا" للمخرج قاسم حول، كما موسيقى فيلم "وقائع العام المقبل" للمخرج سمير ذكرى. وتطول اللائحة إلى ما لا نهاية.

زياد الرحباني مع البيانو، الآلة الموسيقية الأحب إلى قلبه.

نختار هنا نشيد الأممية، الذي صار نشيد الحزب الشيوعي اللبناني الرسمي، بكلامه ولحنه، لكي نحاول من جديد الإجابة عن شيءٍ من سؤال هو أعقد مما يبدو عليه: "من كانَ زياد؟".. هذا هو..

"نحن بيرق جامع كل الشعوب

شرقية، غربية، شمال، وجنوب.

نحن الجيش الباقي بعد الحروب

نحن اللي بتاكلنا النار

نحن اللي واجهنا نار وبارود

نحن اعطينا القايد اسم الخلود

حتى يبقى القايد ماتوا الجنود

ماتوا بحرب الاستعمار.

مش رح نبقى عبيد، إلنا مِيّة هوية

بوحّدنا النشيد، بتجمّعنا التحية

ياعهد الأممية، تحية تحية.

نحن ما منآمن إنو في لون،

نحن بنفس المعوَل عمّرنا كَون

يا لْ إسمك رفيقي، لاقيني هون

إيدي بإيدك ليل نهار.

كل الأرض إلنا، كل الورود

نحن ما بتفصلنا أيّ حدود

نحن السيل الجايي يوفي الوعود

هنّي قلال، ونحنا كتار.

مش رح نبقى عبيد، إلنا مية هوية

بيوحّدنا النشيد، بتجمّعنا التحية

ياعهد الأممية، تحية تحية".

في أغنيته المهداة "إلى الزعيم الوطني اللبناني"، الساخرة من الزعماء الطائفيين لهذا البلد، بعنوان "بهنّيك" (أهنئك)، يخبرنا زياد لماذا يسجل الأغاني ومع مَن يتكلّم.. اليوم ننصت.

"للخلايق، للعِباد

للمستقبل في البِلاد،

للْ بيسمّوها "حريّة"

عمْ سجّل هيدي الغنيّة

يمكن عُمري يخلص قبلَك

وعُمري كلّو ما يكفّيك".

______________________

  1. نشكر الله، لدينا بيانو / نستطيع أن نكسر أقدامه / لا تقلقوا بشأنه / ولا يوجع لكم قلباً.
  2. في مقابلة لجريدة الأخبار.
  3. بمناسبة 13 نيسان، ذكرى الحرب الإهلية اللبنانية واليوم الوطني اللبناني للذاكرة.
  4. أحد الأحياء الشعبية التي تحوي مساكن عشوائية في الضاحية الجنوبية لبيروت.

مقالات من لبنان

المشهد البيروتي قبل غزو 1941 وبعده

شكّلت الحرب تجربة قاسية للطبقات الوسطى غير التجارية، ولأصحاب المداخيل الثابتة (ملاّكون، موظفون في القطاعين الخاص والعام، أصحاب مهن حرة، متقاعدون...). ويرى الباحث جبرائيل منسى أن العمال، وعلى الرغم من...

"احكيلي": ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية في "بيت بيروت"

2025-04-17

اكتسب مبنى بركات، الذي صار اسمه "بيت بيروت"، ويقام فيه معرض "احكيلي"، أهميته الموضوعية والرمزية، شاهداً على المدينة وويلاتها، ومساحة مفتوحة لناسها لإعادة الاعتبار إلى ذاكرتهم المتشظية، وربما، لمحاولة فتح...

انتصارٌ ثمين في قضية الأملاك العامّة البحرية: حكومة سلام تستردّ مراسيم ميقاتي

2025-04-10

وإذ يشكّل هذا القرار انتصارًا للشرعيّة والملك العامّ، فإنه يأذن بوقف نزيف سلعنة الشاطئ وخصخصة استعماله ويمهّد لبدء مسار طويل لاسترداد الأملاك البحريّة المنهوبة ونقض ما صنعته حرب 1975-1990 والفوضى...