على شاطئ المحيط الأطلسي، حيث تتنفس العاصمة الموريتانية نواكشوط أولى أنفاسها الكفاحية مع بزوغ الفجر، تتجلى قصة يومية لا تنتهي، في قلب سوق السمك النابض بالحياة. هنا، تتشابك خيوط القدَر مع إصرار البشر على انتزاع لقمة العيش من خيرات البحر الوافرة، لتنسج لوحة فنية باذخة العمق، عنوانها الصمود والتحدي والقناعة.
صمود يتحدى الأمواج
في زحام هذا السوق، تقف السيدة فاطمة سيد أمين، وهي امرأة في أواخر عقدها الرابع، كأنها امتداد لأمواج المحيط، صامدة تتحدى كل عاصفة. وقد ألقت فاطمة بنفسها في غمار العمل الشاق بسوق السمك، منذ 2005، سعياً منها خلف رزق كريم وحلال، يغنيها عن الحاجة إلى الناس، ويعينها على أعباء الحياة القاسية في العاصمة.
يبدأ يومها مع الفجر، وعيناها ترصدان أفضل الأسماك، ولا تساوم بالكلمات فحسب، بل بلمسة خبيرة على السمكة، وبنظرة فاحصة ولمّاحة، تدرك جودتها ومصدرها. يداها اللتان تحملان قصة سنوات طويلة، من العمل الشاق تحت أشعة الشمس الحارقة ورياح الأطلسي المربكة، تتحركان برشاقة بين الأسماك، تختار، وتفرز، وتعبئ. وهي لا تبيع الأسماك فحسب، بل تبيع الصبر والأمل لكل من يمر بجانب بسطتها المتواضعة، التي تعتمد عليها في حصد ما تعيل به أسرتها.
على هامش السوق، كان لقائي بفاطمة في ختام يومها الشاق. وهي في خضم عملية مساومة مع مشتر. وبعد أن انتهت، بدأت تبوح بمكنونات وجدانها، متحسرة على حال السوق وما آل إليه. ولم أكد أطرح عليها السؤال الأول حتى انطلقت في وصف الواقع المر: "هذا لا يليق بالمواطنين. كيف يُرمى بنا في هذه المنطقة المتّسخة من دون أية عناية؟ نحن نعاني كثيراً، والجهة الوصية تُفضِّل الأجانب، والسوق لم يعد كما كان". وكانت هنا تصف وتعلق على مكان نصْبتها المحاصر بالمياه الآسنة، مضيفة بنبرة حادة: "اليوم كنت أتشاجر مع رجال الأمن لأنهم يسمحون للأجانب بالحصول على أماكن بيع جيدة، ويمنعوننا نحن، والسمك لم يعد متوافراً كما كان في السابق، وصارت أسعاره مرتفعة، مما جعل الربح صعباً جداً. ونحن نعيش في معاناة. ونشعر اليوم كأننا أجانب في وطننا". تركتها، محاولاً تتبع تفاصيل المكان وناسه، وخاصةً ما يعني النساء، زميلات فاطمة.

السوق لوحة تشكل تفاصيل الوطن
تأسس سوق السمك في نواكشوط عام 1997 بالتعاون بين موريتانيا واليابان، وكانت مهمته الأولى توفير الأسماك بكميات وأنواع مختلفة للسوق المحلي والخارج. وفي عام 2014، تحول وضعه القانوني من شركة ذات اقتصاد مختلَط إلى مؤسسة عمومية ذات طابع صناعي وتجاري، مما وسّع من نطاق عملها. ويُعد السوق مركزاً اقتصادياً محورياً، ويلعب دوراً حاسماً في توفير الأسماك الطازجة والمجمدة للسكان المحليين، ويسهم في توفير فرص عمل للشباب والفئات الفقيرة. ويمتد السوق على مساحة 200 هكتار، ويستقبل يومياً ما بين 10آلاف إلى 30 ألف شخص، يزاولون أعمالاً وأنشطة متنوعة، ما بين الباعة والمشترين وأصحاب المحلات التجارية، وكذلك العمالة اليدوية التي تجهِّز السمك للبيع، من تنظيف وسواه..
يضم السوق عدداً كبيراً من المنشآت والمصانع المدرجة في إطار اختصاصه، بما في ذلك 40 مصنعاً للتبريد ومعالجة الأسماك، و15 مصنعاً للثلج، و15 محطة خدمة، وآلاف الحوانيت والمحلات، بالإضافة إلى مناطق لإصلاح الزوارق والشباك.
يضم السوق عدداً كبيراً من المنشآت والمصانع المدرجة في إطار اختصاصه، بما في ذلك 40 مصنعاً للتبريد ومعالجة الأسماك، و15 مصنعاً للثلج، و15 محطة خدمة، وآلاف الحوانيت والمحلات، بالإضافة إلى مناطق لإصلاح الزوارق والشباك. والسوق ليس مجرد مكان للبيع والشراء، بل هو قلب نابض يعكس الحياة الاجتماعية والاقتصادية لنواكشوط، حيث تتشابك القصص، من صيادين صمدوا أمام عواصف البحر، إلى تجار صغار يحاولون تأمين قوت يومهم، إلى يد عاملة ماهرة تنظّف السمك وتجهَزه للبيع، إلى ربات بيوت يبحثن عن أفضل وجبة لأسرتهن... ليقدم لوحة تبرز ملامح الشعب متعدد الأعراق. ويعكس المكان أيضاً واقع قطاع الصيد وتحديات استدامة الثروة السمكية.
ثروة سمكية هائلة
الساحل الموريتاني شاسع جداً، بحيث تملك الدولة مساحة على المحيط الأطلسي (المنطقة الاقتصادية الخالصة)، يصل إلى أكثر من 234.000 كلم مربعاً، مع جرف قاري غني بالموارد السمكية بمساحة 39.000 كلم مربعاً. وتتميز هذه السواحل أيضاً بوجود ثلاث محميات بحرية: الرأس الأبيض، و حوض آرغين، ومحمية جاولينغ. وتزخر سواحل موريتانيا بأكثر من 600 نوع من الأسماك، 200 منها مطلوبة بشدة في الأسواق العالمية، والأنواع الثلاثة الأكثر تداولاً، هي: رأسيات الأرجل، والقشريات، وأسماك السطح.
أسماك موريتانيا تصل إلى الصين!
30-10-2013
تبلغ الطاقة السنوية للصيد أكثر من 1.8 مليون طن، إلا أن أحدث الإحصاءات سجلت أقل من 1.2 مليون طن، مما يشير إلى وجود مجال لمزيد من الاستثمار. في عام 2022، سجلت الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك حوالي 274 مليار أوقية (ما يعادل 759 مليون دولار أمريكي) من صادرات الأسماك، وهو رقم قياسي لم يتحقق منذ 38 عاماً. ويُصدَّر أكثر من 90 في المئة من إنتاج موريتانيا من الصيد، بينما ينشغل سوق السمك في نواكشوط بتلبية الاحتياجات المحلية، من خلال توفير الأسماك الطازجة والمجمدة.
المتأمل في السوق لا يمكن أن يُخطئ انتباهه حضور النساء، وفعاليتهن كبائعات وعاملات في مراحل ما بعد الصيد والبيع والتجهيز. حيث يزاحمن الرجال في السوق، ويفرضن حضورهن، ويكدحن من أجل إعالة أسرهن، وذلك ما أخبرتني به فاطمة أثناء حديثي معها وزميلاتها. وتشكل النساء حوالي 30 في المئة، من القوى العاملة في قطاع الصيد في موريتانيا.
يواجه قطاع الصيد في موريتانيا، بل الثروة السمكية بشكل عام، تهديداً بسبب ضعف الرقابة البحرية وجشع المستثمرين، ووجود أساطيل صيد أجنبية، تستغل المياه الموريتانية بشكل مفرِط من دون قيود. وهذا يشير إلى مخاطر الاستدامة، وتحديات السيادة الوطنية على الموارد. ويشكو آلاف الصيادين المحليين من نقص في البنى التحتية الخاصة بالتفريغ، ومضايقات الأجانب، وغياب دور السلطات في حماية الصيادين الموريتانيين.
وكانت المنظمة العالمية للأغذية والزراعة ("الفاو") صنفت موريتانيا كثاني أكبر بلد أفريقي في إنتاج الأسماك، كما عدتها في المرتبة الـ 20 عالمياً من حيث الثروة السمكية.
وأما نسبة المساهمة الاقتصادية لقطاع الصيد بشكل عام، فتبلغ 25 في المئة من إجمالي صادرات البلاد، ويوفر أكثر من 220 ألف فرصة عمل مباشِرة وغير مباشِرة. لكن، وعلى الرغم من ذلك، توصف موريتانيا بأنها دولة فقيرة، يعيش نصف سكانها تحت خط الفقر، وتتجاوز معدلات البطالة فيها ثلث السكان.

خير المحيط لا يصل إلى أهله
إن التركيز على التصدير والاتفاقيات مع الصين والأوروبيين والروس والأتراك وغيرهم، يحرم المواطن البسيط من حقه في السمك، إذ يلاحَظ منذ سنوات ندرة في السمك وارتفاع في أسعارها. وقد حدثني عالي ولد إبراهيم، وهو أحد التجار الصغار في سوق السمك، بقلب مفعم بالأسى، قائلاً: "للأسف جلّ السمك يصدر للخارج، وصار هناك فقر في السوق بسبب ذلك، فسمكنا يذهب إلى الخارج، ونحرم نحن منه، وليس من المقبول أن تكون المائدة المحلية محرومة من أصناف من السمك الأساسي عندنا، لأن هذا يخرج من بحرنا، فحين لا يصطاد الصيادون مثل هذه الأنواع لمدة يوم واحد، تختفي من السوق، بحيث لا يتم تخزينها ولا تبريدها من قبل الشركات". مؤكداً أنهم، كعمال وتجار في السوق، ليسوا منظّمين بشكل جيد ليحصلوا على حقوقهم، مضيفاً: "الاستفادة هنا قليلة جداً، وأنا رجل خمسيني وعندي مصروفات كثيرة تقع على كاهلي، ولدي التزامات أسرية، وعملي هو شراء السمك وبيعه، بحيث صارت لدي زبائني الخاصين، فأنا أشتري السمك من وسيط يشتريه من الصيادين، وأبيعه، وسمكي الذي أبيعه، بعضه تمّ صيده من شاطئ نواكشوط، وبعضه قادم من مدينة نواذيبو. وما أحصل عليه لا يكفيني، لكنني صابر لله حتى يفتح الله، إما أن نجد الدعم وإما عمل مغاير".
صنفت المنظمة العالمية للأغذية والزراعة ("الفاو") موريتانيا كثاني أكبر بلد أفريقي في إنتاج الأسماك، كما عدّتها في المرتبة الـ 20 عالمياً من حيث الثروة السمكية.
بالإضافة إلى الشكوى من نقص السمك الموجه إلى المواطنين الموريتانيين، يواجه قطاع الصيد في موريتانيا، بل الثروة السمكية بشكل عام، تهديداً بسبب ضعف الرقابة البحرية وجشع المستثمرين، ووجود أساطيل صيد أجنبية، تستغل المياه الموريتانية بشكل مفرِط من دون قيود. وهذا يشير إلى مخاطر الاستدامة وتحديات السيادة الوطنية على الموارد. ويشكو آلاف الصيادين المحليين من نقص في البنى التحتية الخاصة بالتفريغ، ومضايقات الأجانب، وغياب دور السلطات في حماية الصيادين الموريتانيين.

نساء سوق السمك.. قوة عاملة صامدة
المتأمل في السوق لا يمكن أن يُخطئ انتباهه حضور النساء، وفعاليتهن كبائعات وعاملات في مراحل ما بعد الصيد والبيع والتجهيز. حيث يزاحمن الرجال في السوق، ويفرضن حضورهن، ويكدحن من أجل إعالة أسرهن، وذلك ما أخبرتني به فاطمة أثناء حديثي معها وزميلاتها. وتشكل النساء حوالي 30 في المئة، من القوى العاملة في قطاع الصيد في موريتانيا.
____________
من دفاتر السفير العربي
تأنيث العمل الهش
____________
عمل النساء في هذا السوق ليس مجرد خيار، فالمرأة في موريتانيا تكافح من أجل أسرتها، وبحسب المعطيات فكثير من الأسر الموريتانية تعيلهن نساء. وتعمل النساء في ظل منافسة شرسة لا تسمح للضعيف بالتطور والطموح. كما تعاني النساء من صعوبات كبيرة، في الوصول إلى الأسواق والحصول على الائتمان. وهذا يمثل حاجزاً أساسياً أمام نموهن الاقتصادي. ولأنهن لا يمارسن الصيد، فنادراً ما يتمتعن بوصول مباشر إلى المادة الخام (الأسماك)، مما يضعهن في وضع غير مواتٍ في تأمين الإمدادات. كما أنهن مستبعَدات إلى حد كبير من قطاع التصدير الأكثر ربحية، ويعملن بشكل أساسي في السوق المحلية. لذلك، تكافح بائعات الأسماك للتنافس على الأسعار مع تجار الجملة، الذين يوردون الأسماك إلى مصانع التجهيز المتزايدة، مما يسلط الضوء على اختلالات القوة السوقية. فلا يستطعن التفاوض بفعالية على الأسعار مع الوسطاء، بسبب عدم قدرتهن على تحمل تكلفة توفير الثلج أو التخزين، مما يؤدي إلى انخفاض أرباحهن. وكذلك يعملن في بيئة قاسية، في أماكن غير مجهزة وعلى هامش السوق، وسط العراء، متعرّضات للشمس والمياه الآسنة.