أفراح الطحين.. ومصائده

استُشهد العشرات من منتظري المساعدات في المكان نفسه، قرب "دوار السودانيّة"، شمال غرب غزّة، بعد إعدامهم مباشرةً من جنود الاحتلال، حيث نُصبَ لهم كمينٌ، برمي كثيرٍ من أكياس الطحين في الشارع، والاختباء، ثم الخروج لقتلهم عند محاولتهم الحصول على الطحين. هذه مصيدة، مصيدة الطحين.
2025-06-16

المقداد جميل مقداد

كاتب وباحث من غزة


شارك

عند الرابعة فجراً، امتلأ الشارع بأصواتٍ كثيرة، اخترقت صوت الطائرات المسيَّرة، التي تُحلّق طوال الوقت منخفضةً لتُقلق نومنا. العشرات من الشبان والرجال يمشون في الشارع، سلسلةً كاملة، من بدايته حتى نهايته، يحملون أكياس الطحين البيضاء. الطحين يظهر واضحاً، يُزيّن الشارع، آثاره على الأرض، الأكياس على الأكتاف. ازدادت الضجّة مع الوقت في الشارع، عند توافد أشخاصٍ آخرين.

تدُل الضجة على وجود شيء مُهم بالنسبة إلى الناس، تَكرّر في الأيام الأخيرة، حيثُ نعيش في الجزء الشمالي من قطاع غزّة (مدينة غزّة ومحافظة الشمال)، وهو دخول شاحنات المُساعدات، التي في أساسها الطحين، إلى المكان. هؤلاء الناس في أغلبهم، ذهبوا في قلب الليل، مُخاطِرين بحياتهم، وسط الموت، كي يأتوا بلُقمة إلى عائلاتهم.

مقالات ذات صلة

الضجّة كبيرة. إحدى الأُمهات خرجت من باب بيتها، كانت تُهلل. قالت لابنها: "اليوم أحلى مناقيش". مشيرةً إلى فرحتها بكيس الطحين، الذي نجحَ ولدها في إحضاره، ولتكافئ العائلة بهذه الهديّة بطعامٍ مُميّز ولذيذ، وهو المناقيش الشعبيّة الفلسطينيّة، المكونة بشكلٍ أساسي من الزعتر والزيت. مُهم القول إن المناقيش أكلة شعبيّة مميّزة، سهلة التحضير عادةً، ومكوّناتها بسيطة، وهي من أبسط الأشياء، التي يُمكن إعدادها من أسرة فلسطينيّة. لكن وبعد انقطاع الطحين، صار أكل المناقيش مستحيلاً، فالطحين القليل المتوافر، وغالي الثمن، لا يكفي للخُبز اليومي للناس.

الشباب ينقلون أحاديثهم وهم يمشون، حاملين أكياس الطحين. تفاصيل كثيرة حدثت في مكان وصول المساعدات، في المنطقة الشمالية الغربية من قطاع غزّة، التي يعتبرها الاحتلال الآن "حمراء"، يمنع وصول الناس إليها، وتتعرّض لكثافةٍ ناريّة كبيرة، وجزءٌ كبير منها تحت التوغّل البرّي للقوات والآليات الإسرائيليّة، ما يعني أنّ الوصول إليها "موتٌ مُحتّم".. لكن، ما الفرق بين الموت جائعاً أو قتيلاً؟

أحدُهم يقول إنه صارعَ حتى أخذ كيسه، وآخرون تحدثّوا عن الأعداد الهائلة، التي كانت في المنطقة تُقاتِل للحصول على حُصتها من الطحين. البعض يشير إلى عدد الذين توجّهوا إلى المكان. عن الحارة وشبابها، الذين تجمّعوا كي يعودوا بقوت أهلهم.

تحوّل المشهد اليومي للحصول على الطحين، إلى دراما، أو رُبما مشاهد سينمائيّة فظيعة وصعبة، يجري تناقلها بينَ الناس. شيءٌ على الرغم من مأساويته، ينُم عن كوميديا سوداء بالنسبة إلى الناس، الذين ينقلون الحدث في جلساتهم، ويُقررون خوض التجربة في اليوم التالي. على الرغم من معرفتهم أنهم قد يموتون.

تدخُل منذُ أيام، إلى شمال قطاع غزّة، وسبقها إلى الجنوب، أعدادٌ قليلة من شاحنات الطحين، العنصر الأساسي للغذاء في غزّة، لصناعة الخُبز. تُقدر في كلّ يوم بحوالي 20 إلى 50 شاحنة، على الرغم من أنّ المطلوب يومياً كي تعيش غزّة أكثر من 600 شاحنة. نجحت إسرائيل في توجيه النظر عن أزمة المُساعدات وقرار إغلاق المعابر الطويل، الذي ضجّ به العالم، واستنكرهُ المسؤولون الغربيون، بالإعلان عن فتح المعابر وإعادة دخول المُساعدات بطريقتيْن: المساعدات الأمريكية التي تقوم بها الشركة المُهندَسَة إسرائيلياً، وتقطير المُساعدات بالطريقة الاعتيادية، أيّ دخول الشاحنات اليوميّة.

فعلياً، لا تدخُل سوى شاحنات الطحين، أي لا توجد مساعدات بالمعنى الفعلي. تدفع إسرائيل العالم ليُصدِّق أنها لا تُغلق المعابر، من خلال خبر إدخال المساعدات، بينما على الأرض "لا شيء!". أيضاً لا تدخُل هذه المساعدات إلى مكانها المُقرر، ولم تُسجّل حتى الآن أيّة حالة لوصول المُساعدات إلى المؤسسات أو الجهات المعنية بالتوزيع على المواطنين، بعد تكرار عمليات السرقة المنظَّمة التي بدأت في الأيام الأولى من دخولها، ثم تحوّلت السرقات إلى مهنة يوميّة تقوم بها كثيرٌ من العصابات.

السرقات، لا بُد دفعت المواطنين إلى أن يتجهوا نحو الأمر نفسه. فهناك خياران، الآن: إما أن نجوع وننتظر وصول المُساعدات، فتُسرق من العصابات، وإما أن نُحاول الحصول عليها نحنُ أيضاً بأيدينا وأجسادنا، وقتالنا اليوميّ. وهكذا تحوّل كثيرٌ من المواطنين المجوَّعين، الذين يمنع عنهم الاحتلال طعام أطفالهم، إلى لصوص في نظر البعض.

لا أقول إن من يذهبون لأخذ الطحين لصوص، ولا أقول إنهم ليسوا سوى شُرفاء مجوّعين. ففي هذه الحال هُناك الجهتان. أرى أبناء حارتي وأقاربي وكثيراً من الناس يحاولون كلّ يوم الوصول إلى مكان وصول المُساعدات، لأنهُ السبيل الوحيد للحصول على الطحين. على مدار شهر لم تدخل المُساعدات إلى المؤسسات، ولم تستطع أية جهة أممية، على كثرتها، إعادة تسليم الطحين للمواطنين بأيّة آلية، وكُل ما يدخُل يُسرَق، وعدم الذهاب للبحث عن الطحين، يعني أنهم سيجوعون، ويتركون الطحين للسارقين.

يبقى الأمر لمن مثلي، الذين لا ناقة لهم ولا جمل. لا قُدرة على المصارعة كي يحصلوا على كيس من بين عشرات الآلاف الذين يهجمون على الشاحنات، فيُداس البعض بأقدامهم، أو يختنق آخرون، أو يتعبون مسافاتٍ طويلة من دون أن يكون لهُم حُصة، فنقول رُبما يدخل، رُبما تبدأ المؤسسات بالتوزيع، أو نلجأ إلى الخيار الآخر: شراء الطحين من اللصوص الذين سرقوه لغرض بيعه، لا لإطعام عائلاتهم. وهنا يتم بيعه بسعر خيالي. كيس الطحين في سعره العادي 20 إلى 50 شيكلاً، ويُباع الآن بحوالي 1500 إلى 2000 شيكل، ويرتفع وينخفض الثمن قليلاً، بحسب زيادة السرقات.

كُل ذلك، لا يُلغي الخيار الآخر للموت، الموت الذي يُلاقيه الفلسطيني كلّ يوم، سواء ذهب للبحث عن الطحين، أو بقي جالساً في بيته. الموت برصاص الاحتلال. فصباحُ هذا اليوم (الذي يُكتب فيه النص، 15 حزيران/يونيو 2025)، استشُهد العشرات من منتظري المُساعدات في المكان نفسه، قُرب "دوار السودانيّة"، شمال غرب غزّة، بعد إعدامهم مباشرةً من جنود الاحتلال، حيث نُصبَ لهم كمينٌ، برمي كثيرٍ من أكياس الطحين في الشارع، والاختباء، ثم الخروج لقتلهم عند محاولتهم الحصول على الطحين. هذه مصيدة، مصيدة الطحين، بينما كان يعيشُ آخرون مثلَ المرأة صاحبة المناقيش، الفَرَح!

مقالات من فلسطين

لهيب غزّة الذي يلسع العالم..

2025-05-29

هنا يتوقف الكلام. كلّ إضافةٍ تبدو فائضة، وربما وقحة.. لا شيءَ يُضاف إلى الأهوال التي تقولها صورة الطفلة ورد وهي تعبر خلال ألسنة اللهب – تلكَ الكافية لإحراق عيون الكوكب.

للكاتب نفسه

رسالة من غزة: الوقت من دم!

المقداد جميل مقداد، الشاب المثقف، الصادق، والشفاف، الذي يكتب منذ عام تقريباً، وباستمرار، تقاريره وآراءه الى "السفير العربي"، وذلك من بين نشاطات أخرى مجتمعية مهمَّة يتولاها، أرسل لنا يوم 18...