استقبل اليمنيون يوم التاسع والعشرين من أيار/ مايو الفائت بحفاوة، إذ حَمل إليهم الترجمة الواقعية لتوافق طرفي الصراع (الحكومة المعترف بها دوليّاً / وسلطة "الأمر الواقع"، جماعة أنصار الله الحوثيين)، على إعادة فتح الطريق، الذي يربط بين مدينة الضالع ودمت، في مسار الخط الرابط بين صنعاء وعدن، بوصفه واحداً من أهم الطرق الحيوية، التي تربط جنوب الوطن بشماله، بعد قرابة سبع سنوات من إغلاقه، في سياق تداعيات الحرب في اليمن، التي اندلعت في 25 آذار /مارس 2015. وسبق أن أعلن الطرفان عن توافقهما على إعادة فتح بعض الطرقات، من مثل إعادة فتح الطريق بين تعز المدينة / وتعز الحوبان[1] في حزيران/ يونيو 2024، وفي الشهر نفسه أيضاً، إعادة فتح طريق مأرب ــ البيضاء ــ صنعاء.
أعلن محافظ محافظة الضالع المعيَّن من الحكومة المعترف بها دوليّاً عن فتح الطريق من جانب واحد لدواعٍ إنسانية. وبعد ذلك بأسبوع ، جاء الرد من محافظ محافظة الضالع المعين من جماعة أنصار الله (الحوثيين)، أكد فيه أن الطريق من جانبهم مفتوح منذ العام الماضي، بحسب ما أعلنوا عنه حينها، ولم يتغير موقفهم من ذلك. ثم بدأت السلطتان المحليَّتان بإزالة الشوائب والسواتر الترابية والحواجز الأمنية، كلٌّ من الجهة التي تخضع لنفوذها، ليأتي بعد ذلك اشتراك الجانبين في التدشين الفعلي لإعادة فتح الطريق، كلٌّ من المنطقة التي تقع تحت سيطرته.
مشاهد إنسانية مؤثرة
ضمن الفرحة والسعادة، التي تجلّت في وجوه المواطنين فور الإعلان عن تدشين إعادة فتح هذا الطريق، حدَثَ موقفٌ إنساني لم يكن في حسبان أحد، أقدَم عليه المجنَّدون الذين تقاتلوا طيلة السنوات الفائتة، في المعركة المحتدمة بين الأطراف التي ينتمون إليها، إذ تركوا متاريسهم المُطلّة على منطقة التماس، ونزلوا منها ــ وعلى أكتافهم أسلحتهم ــ إلى منطقة التماس نفسها، وفيها التقوا، تصافحوا، تعانقوا، ذرفوا الدموع. أخذهم المشهد إلى قلبه بشكل عفوي، من غير تنسيق، ولا تخطيط، ولا ترتيب لما حدث فيه من تفاصيل.
وصلت نسبة ارتفاع أجور نقل المواد الغذائية والأدوية من عدن إلى إب إلى 120 في المئة. كما ارتفعت أجور النقل عامة، وبرزت صعوبة سفر المواطنين وطلاب الجامعات، والحالات المرَضية مستعصية العلاج، لا سيما أن مدة السفر من دمت إلى عدن تضاعفت إلى 16 ساعة، بعد أن كانت لا تزيد على 4 ساعات، وإلى 20 ساعة من صنعاء إلى عدن، بدلاً من 5 ساعات.
انتشرت في السويشال ميديا عددٌ من الفيديوهات التي وثّقت هذا المشهد، منها ما تضمّن حديث هؤلاء عن الإخاء والتلاحم والتسامح، ومنها ما كان فيه كلُّ طرفٍ يدعو الآخر إلى قبول استضافته وإكرامه. كان واحدٌ من تلك الفيديوهات هو الأكثر حظوةً بالانتشار الواسع في وسائل التواصل الاجتماعي، تَضمّن توثيقَ لحظاتِ عناقٍ حار، اتّسق معناه مع معاني الأغنية الوطنية، التي كانت تتردد خلفيةً صوتية للفيديو، معزوفةً بصوت الفنان أيوب طارش العبسي:
املأوا الدنيا ابتساما ** وارفعوا في الشمس هاما
واجعلوا القوة والقدرة ** في الأذرع الصلبة خيراً وسلاما
وذروا الحق هو المعنى الذي ** فيه تمضون وتمضون الحساما
لقد تركت مشاهد تلك الفيديوهات أثراً بالغاً في النفوس، بما حملتْه من دلالة على عبثية الحرب وبشاعتها، وما تضمّنته من تأكيد متانة الروابط الاجتماعية والأسرية بين الخصوم، وبما ورد فيها من دعوة إلى تحكيم العقل والحاجة الماسة إلى وقف الحرب... وما أحالت عليه من أهمية هذه اللحظة التاريخية، التي يجب أن تُمثّل انطلاقة حقيقية نحو استعادة السلم الاجتماعي المفقود طيلة عشر سنوات من الاقتتال العبثي.

ضغطٌ شعبي مكثف
توافرت عددٌ من المرجعيات الفاعلة في الوصول إلى هذا اليوم، منها ما يعيده بعض المحلِّلين إلى توافق إقليمي متوائم مع ذاك الداخلي بشكل مباشر وغير مباشر. ومنها ما يندرج في سياق الضغط الشعبي، الذي تنوعت مساراته بين مبادرات ولجان مجتمعية، وحملات مكثّفة من الناشطين في مواقع السويشال ميديا، لا سيما تلك الحملة التي امتدت طيلة الأسبوعين السابقين لهذا الحدث، قادها ناشطون، كان من أبرزهم أعضاء ما عُرف بـ"وفد لجنة الرايات البيضاء"، الذي واكب تفاصيل التنسيق بين الجانبين، ونشر خطوات التقدم في المفاوضات أولاً بأول. وحينما وصل الطرفان إلى اتفاقٍ نهائي، اتجه أعضاؤه وغيرهم من الناشطين وهم يحملون الرايات البيضاء، إلى خطوط التماس، في منطقة الزيلة في مريس، مُعلنين عن إعادة فتح الطريق رسميّاً، تنفيذاً لتوافق الجانبين على ذلك.
أسباب وظروف موضوعية
يعود هذا الضغط الشعبي إلى مجموعةٍ من العوامل الفاعلة في إذكاء حيويته واستمراريته، جميعها تنتظم في ما يترتب على إغلاق الطريق من تداعيات وآثار قاسية، منها صعوبة وصول المواد الغذائية والسلعية من عدن إلى صنعاء، والمدن الواقعة تحت سيطرة أنصار الله الحوثيين، بما في ذلك ما يرتبط بالتكاليف الباهظة لنقل هذه المواد.
الأخطر من المشقات الكبيرة في الطرق الوعرة، الطويلة والجبلية، عمليات القنص، فيما لو حاول بعض المسافرين العبور من هذا الطريق الصخري خارج التوقيت المحدد، الذي كان يبدأ في الساعة السابعة صباحاً وينتهي عند الثالثة عصراً. وإلى ذلك كله، كان على المسافر أن يستعد للرد على الاستجوابات المكثَّفة، التي يوجهها إليه القائمون على نقاط التفتيش، التابعة لأطراف الصراع، كلٌّ في المساحة الجغرافية التي يسيطر عليها.
حدث شرْخٍ في النسيج الاجتماعي، بفعل انقسام الكتلة السكانية في محافظة الضالع، أسفر عنه انقطاع الاتصال والتواصل بين أفراد الأسرة الواحدة، الذين توزعت إقاماتهم على جغرافيا الصراع، المسيّجة بحواجز أمنية وعسكرية فاصلة بين القرى المتجاورة، في مناطق لا تفصل بينها سوى مسافاتٍ قصيرة. فمثلاً، بعد أن كانت مدة الوصول من مدينة الضالع إلى دمت لا تتجاوز 40 دقيقه، صارت 11 ساعة!
وتشير بعض المصادر إلى أن أجور نقل المواد الغذائية والأدوية من عدن إلى إب قد وصلت نسبة ارتفاعها إلى 120 في المئة[2]. كما انعكس هذا الوضع في ارتفاع أجور النقل عامة، وصعوبة سفر المواطنين وطلاب الجامعات، والحالات المرَضية مستعصية العلاج. لا سيما أن مدة السفر من دمت إلى عدن قد تضاعفت إلى 16 ساعة، بعد أن كانت لا تزيد على 4 ساعات، وإلى 20 ساعة من صنعاء إلى عدن بدلاً من 5 ساعات، قبل إغلاق الطريق.
شرخٌ في النسيج الاجتماعي
لعلّ أخطر الآثار المترتبة على إغلاق هذا الطريق الحيوي ــ والتي كانت فاعلة في تحشيد الضغط الشعبي من أجل إعادة فتحه ــ متمثّلٌ في ما حدث من شرْخٍ وتمزُّقٍ في النسيج الاجتماعي، بفعل انقسام الكتلة السكانية في محافظة الضالع، وما أسفر عنه هذا الانقسام من عزلة، وانقطاع الاتصال والتواصل بين أفراد الأسرة الواحدة، الذين توزعت إقاماتهم على جغرافيا الصراع... تلك الجغرافيا المسيّجة بحواجز أمنية وعسكرية فاصلة بين القرى المتجاورة، مما أسفر عن التباعد القسري، بين مناطق لا تفصل بينها سوى مسافاتٍ قصيرة. فمثلاً، بعد أن كانت مدة الوصول من مدينة الضالع إلى دمت ــ التابعة لمحافظة الضالع نفسها ــ لا تتجاوز 40 دقيقه، صارت 11 ساعة! إذ على المسافر أن يسلك أحد الطريقين البديلين: إمّا أن يلتفّ حول الحبيلين ــ يافع ــ البيضاء ــ رداع، أو الضالع ــ لحج ــ تعز ــ إب. وإن لم يكن في مستطاعه تحمّل تكاليف وأعباء هذا الالتفاف، فبإمكانه السفر على متن نوعٍ خاصّ من السيارات رباعية الدفع، التي تُمكّن المسافرين من تجاوز طُرقٍ جبلية وعرة وطويلة، محفوفة بالامتهان والابتزاز والجبايات الظالمة، ويغلب عليها أن تليها مسافاتٌ طويلة، تنعدم فيها وسائل المواصلات، فيضطر المسافر إلى قطعها مشياً على قدميه وسط أودية وتضاريس قاسية.
ما تحجبه الحرب من أثرها النفسي في اليمن
06-03-2020
وعلى ما في هذه الطُرق البديلة من مخاطر وأعباء وتكلفة مرتفعة، إلّا أن الأشد منها قسوةً هو ذاك الطريق الصخري البديل في جبل مريس، الذي يربط بين منطقة جبارة التابعة لمديرية قعطبة محافظة الضالع، ومدينة يريم التابعة لمحافظة إب. إذ يُلاحَظُ وجود المسافرين في هذا الطريق راجلين، منهم مَن يحمل أكياسَ أغراضه على ظهره، ومنهم مَن يستعين في ذلك بحملها على ظهور حمير ترافقهم.
ولم يكن السفر عبر هذا الطريق الجبلي يقتصر على فئة اجتماعية أو عمرية معينة، ولا على ذوي غايات محددة، إذ كان بإمكانك أن ترى فيه كهولاً، ومرضى، وأطفالاً، ونساءً. بل ستجد مَن اضطُّر إلى أن يتخذه طريقاً يمرُّ فيه موكب عرسه سيراً على الأقدام، طيلة ساعاتٍ أربع، بما في ذلك العروس نفسها، من مثل الحال التي مرت بها فاطمة ناجي إحدى بنات إب، التي قطعت المسافة راجلة بمعية موكب زفافها، فوصلت منهكة القوى، مغبّرة الشكل، كأنها بُعثت من مقبرة بحسب تعبيرها[3].
تنوعت مسارات الضغط الشعبي، بين مبادرات، ولجان مجتمعية، وحملات مكثّفة من الناشطين في مواقع السويشال ميديا. وطيلة أسبوعين سابقين على فتح الطريق، واكب الناشطون، وأبرزهم ما عرف ب"حملة الريات البيضاء"، تفاصيل التنسيق بين الجانبين، ونشروا خطوات التقدم في المفاوضات أولاً بأول. وحينما وصل الطرفان إلى اتفاقٍ نهائي، اتجهوا إلى خطوط التماس، وهم يحملون الرايات البيضاء، مُعلِنين عن إعادة فتح الطريق رسميّاً.
ومن صور وأشكال معاناة المسافرين في هذا الطريق، ما كان يتعرّض له بعضُهم من إصابة بنوبات إغماء، أو مَن تنهار منهم قواه، فيسقط، ويتزحلق بين الأحجار، فيصاب بكسور، أو جروح في مناطق مختلفة من جسده. والأخطر من ذلك، ما كان ينتظر بعضَهم من عمليات قنص، يمكن أن تصادر أرواحهم، فيما لو حاولوا العبور من هذا الطريق الصخري خارج التوقيت المحدد، الذي كان يبدأ في الساعة السابعة صباحاً وينتهي عند الثالثة عصراً. وإلى ذلك كله، كان على المسافر أن يستعد للرد على الاستجوابات المكثفة، التي يوجهها إليه القائمون على نقاط التفتيش، التي تتبع أطراف الصراع، كلٌّ في المساحة الجغرافية التي يسيطر عليها.
حرب أمريكا العالمية إذْ تتشابك في اليمن
24-04-2025
وبذلك، فلا شك في أن هذه العوامل والأسباب وغيرها، قد كان لها دورٌ محوريٌّ وفاعل في ما توالى من محاولات ومبادرات متعددة، سعت إلى إعادة فتح هذا الطريق، بما في ذلك الضغط الشعبي، الذي استند إلى هذه المحاولات والمبادرات، فاستمر في السعي إلى وضع حدٍّ لتلك المآسي والتبعات الثقيلة، حتى احتفى بإعادة افتتاح هذا الطريق الاستراتيجي المهم، بعد سنوات من المعاناة والأسفار القاسية.
- - لطف الصراري، "ماذا بعد فتح شرايين تعز؟". السفير العربي، 30 حزيران/ يونيو 2024:https://assafirarabi.com/ar/60203/2024/06/30/%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D9%81%D8%AA%D8%AD-%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%AA%D8%B9%D8%B2%D8%9F/ ↑
- - موقع الحرف28 الإخباري، "آمال بفتح طريق دمت الضالع". 5 تموز/ يوليو 2021https://alharf28.com/p-62595 ↑
- - سوسن عبد الله، "طريق قسري في الضالع محفوف بالمخاطر". المشاهد، كانون الثاني / يناير 2024،https://almushahid.net/120154
/ ↑