هؤلاء هم الذين قمنا باحتلالهم: أن يزورنا ابن جندي بريطاني حارب في العراق 2003

"ليس هناك قدر كافٍ من الأسف يمكن تقديمه، ولكن ما أراه مُدهشاً هو أن عراقيَيْن، وبريطاني، يمكنهم الجلوس هنا واحتساء القهوة، ذلك جميل!". وهو محق. أمر جميلٌ أن يجالس الناس بعضهم، ويحتسوا القهوة. أجَلَس أبوه مع عراقيين؟ أما كانوا يحسبون الأطفال إرهابيين، ويصفون المدافعين عن هويتهم ووطنهم ونسائهم ومجتمعهم بالقتلة والإرهابيين؟
2025-05-26

فؤاد الحسن

كاتب من العراق


شارك
جنود بريطانيون في العراق

"دخول أكثر بلدان العالم تقلباً" هو عنوان فيديو[1] لرحالة بريطاني اسمه مايكل، واسم قناته على منصة يوتيوب هو مايك أوكاي! يبدأ مايك في أول فيديو له قوله إن رئيس الوزراء البريطاني في 2003 اتّخذ واحداً من أكثر القرارات إثارة للجدل في التاريخ البريطاني الحديث: احتلال العراق! ويتحدث عن 40 ألف جندي أُرسلوا إلى تلك البلاد، وواحد منهم، والده.. والد مايكل! بعد عقدين من الزمن: "جئتُ إلى العراق، لفعل نوع آخر من "الشوتينك" (Shooting)، باستخدام كاميرا تصوير. كيف هو العراق بعد 20 سنة؟". ويلقي بنظرة سريعة بعدها على مهد الحضارات وأرض الكتابة... إلخ.

يسير مايكل إلى جانب نهر دجلة بناءً على نصيحة صديق عراقي. تدعوه عائلة تتنزه على العشب وتأكل طعامها مرفِّهةً عن نفسها. جلس إلى جانبهم وأطعموه من طعامهم وقدموا له الشيشة، وطفلاً صغيراً يبكي في حضنه. كانت عائلة بغدادية مليئة بالحياة. وتبادر إلى ذهني في الوقت نفسه: ربما جلس والده، الجندي البريطاني الذي أقنعوه - أو ربما لم يقنعوه - ببيع الحرية للعراقيين مقابل دمائهم، ربما جلس كذلك قرب عائلة بغدادية، أم وأب وأبناء وبنات وأطفال رضع، عائلة مثالية جُلْد أفرادها سمَّرَته شمسٌ تشتعل منذ القِدم، ربما جلس إلى جانب عائلة بغدادية من الموتى، عائلة مليئة بالموت.

"تعرف، أبي في الحقيقة قاتل هنا، قبل 20 سنة. أنتم هناك لمساعدة العراقيين، أنتم هناك لمساعدة العراقيين ضد صدام حسين...". والسؤال هنا: هل جاء والد مايك ومن معه لمساعدة العراقيين ضد صدام أم بسبب الشكوك في امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل؟

ويتحدث، مولياً ظهره لنهر من حبر الكتب التي أعدمها هولاكو، إلى شابين متفاجئاً من القدَر الذي جمعه بهما، ومن الصدفة الجميلة، وكأن شيئاً لم يكن!

يتحدث عن 40 ألف جندي بريطاني أُرسلوا إلى تلك البلاد، وواحد منهم، والده.. والد مايكل! بعد عقدين من الزمن: "جئتُ إلى العراق، لفعل نوع آخر من "الشوتينك" (Shooting)، باستخدام كاميرا تصوير. كيف هو العراق بعد 20 سنة؟". ويلقي بنظرة سريعة بعدها على مهد الحضارات وأرض الكتابة...

"ليس هناك قدر من الأسف يمكن تقديمه، ولكن ما أراه مُدهشاً، هو أن عراقيَيْن، وبريطاني، يمكنهم الجلوس هنا واحتساء القهوة، ذلك جميل!" وهو محق، أمر جميلٌ أن يجالس الناس بعضهم، ويحتسوا القهوة. أجَلس أبوه مع عراقيين؟ أما كانوا يحسبون الأطفال إرهابيين، ويصفون المدافعين عن هويتهم ووطنهم ونسائهم ومجتمعهم بالقتلة والإرهابيين؟ أما كانوا يمسحون السماء والأرض بحثاً عن تبريرات للاحتلال، وحين فشلوا في العثور على مبرر، اخترعوا واحداً؟.

"نحن نحب العراق، نحن نحب العراقيين، نحن نشعر بالأمان في العراق، "بفففففف" (يشير بسبابته كما لو أنها مسدس إلى رأسه)، أمزح". اطمئن مايكل، لن يقتلك أحد في العراق، نحن نتقن فن الموت، ولم نحصل على تعليمٍ عالٍ في القتل كما تقدمه بلدانكم المتطورة.

____________
من دفاتر السفير العربي
عشـرون عامـاً على الحرب على العـراق
____________

يسعى مايكل إلى "إظهار ما تحاول الدول الغربية إخفاءه عن الراغبين في زيارة العِراق"، وكرم العراقيين المفرط، فهُم يدفعون أجرة السيارة عوضاً عنه، وهم يرحبون به. ولا يقل لومه للولايات المتحدة على احتلالها للعراق. يجرِّب مايكل ركوب سيارات المواطنين وهو يقف على جانب الطريق رافعاً يده طالباً توصيلة، ويثني على الثياب الأنيقة وبدلات المواطنين، مواطني "هارفرد الإرهاب" كما وصف دونالد ترامب العراق. وهو ينوي الذهاب إلى بابل!

يأخذنا مايك أوكاي في رحلة إلى الحدائق المعلّقة في بابل، الحدائق التي لم يبق منها عشبة واحدة، كلها مدمرة! ويروي قصة بنائها، وكيف أن صدام حسين رأى في نفسه نبوخذ نصر، وبنى قصره أعلى من الحدائق، ونرجسية صدام!

"الدخول إلى أهوار العراق المنسية" هو عنوان الفيديو الثاني لمايك، يبدؤه من مقبرة وادي السلام، أكبر مقبرة في العالم، حيث 5 ملايين جثة مدفونة. ويعلّمنا مايك، مستشِهداً بالجو المأتمي للمقبرة العملاقة - وفيما الشعيرات على يده ارتفعت دهشةً - يعلّمنا ابن الجندي البريطاني الذي حارب العراقيين، ثمن الحرب.

في سياق حديثه، يقول إن "هذا الجزء من العراق، يتواجد فيه الشيعة. حين كان البريطانيون يحاربون صدام" (مرة أخرى، يشير إلى الاحتلال كأنه فعل دفاعي، نيابة عن العالم والعراقيين، ضد صدام حسين) "كانوا كلهم (الشيعة) يساندون وجود البريطانيين هنا لكرههم صدام".

سأله شابان عن جواز سفره، فلم يجب. وسألاه أسئلة تعطي طابع أسئلة الشرطة، فطلب منهما مايك هوياتهم المهنية، ثم ابتعد عنهم، وكان يبدو مُرْعَباً في غرفته في الفندق، وطبعاً لم يبخل بتمثيل دور الضحية، والكراهية التي لا تزال متجذرة في البعض ضد من "يشبهونه"، ومَن "يتحدثون" مثله، ومَن هم من "بلده".

في الأهوار، يلتقي مايكل بالأطفال، ولا يقضي الليلة هناك كما هو مخطط لها، لأن صاحب البيت طلب منه مئة ألف دينار عراقي (حوالي 60 دولاراً). ويحزن على هؤلاء الأطفال.

يسعى مايكل إلى "إظهار ما تحاول الدول الغربية إخفاءه عن الراغبين في زيارة العِراق"، وكرم العراقيين المفرط، فهُم يدفعون أجرة السيارة عوضاً عنه، وهم يرحبون به. ولا يقل لومه للولايات المتحدة على احتلالها للعراق.

في فيديو آخر في البصرة، عنوانه: "هؤلاء هم الذين قمنا باحتلالهم"[2]، يشير إلى استقبال المدينة لعشرات الآلاف من الجنود البريطانيين "الذين آمنوا تماماً بمهمتهم في (تحرير) البلد، غير أن الواقع كان معقداً أكثر! حيث كان التبرير الشائع للحرب هو أسلحة الدمار الشامل، ووعود الديمقراطية والحرية. وقد تبين لاحقاً أن "هذه الادعاءات خاطئة"، ويعرض فيديو يسأل فيه جندي بريطاني عراقياً عمّا إذا كان هذا الاحتلال أسوأ مما ارتكبه صدام حسين بحق العراقيين، فيجيب العراقي: "على الأقل صدام حسين عراقي". وكأن على العراقيين أن يُقتلوا في كل الأحوال، وليس ذلك فقط، بل أن يختاروا قاتلهم المفضّل. مَن يحمل الجنسية العراقية ويقتلهم، أحَق بدمنا من الغريب المُحتل!

بمساعدة طالب عراقي عرض على مايكل مساعدته، سأل رجلاً مسيحياً في كنيسة مُهدَّمة بالبصرة، عمّا كانت عليه الحال إبّان وجود البريطانيين، وكأنَّه يبحث عن جرائم أمثال أبيه، أو يحاول اكتشاف الحرية التي حفروا بحثاً عنها آبار العراقيين وأرواحهم.

في فيديو بعنوان " “Inside War-Torn Iraq 2025، يقدم لنا مايكل لمحة عن احتلال داعش للعراق، ووعود "التنظيم بتكوين يوتوبيا إيديولوجية. لكنّ التنظيم لم يقدّم شيئاً سوى الرعب، إراقة الدماء، والدمار". ألم يكن هذا ما وعد به الاحتلال قبل الدخول بالأسلحة الذكية والصواريخ؟

يلتقي مايكل وهو على الطريق، محاوِلاً الحصول على توصيلة إلى تكريت، برجل عراقي يسأله إذا كان بحاجة إلى طعام أو شراب، ثم يقول إن اسمه "صدام، ليس صدام حسين، هاهاهاها"، يقول العراقي.

ويسرد في الموصل قصة احتلال تنظيم داعش للمدينة. يتحول مايكل إلى كائن عاطفي، ويشعر بأطفال المدينة والدمار الذي ترضخ تحته، والخراب الذي تحولت إليه. يصير مايكل للحظة واحداً منّا، يشعر بالموت في الأرجاء، ويأسف على تاريخ البلد وحضاراته المهملة. ويقترب من البكاء، من إبداء أقصى ما يمكن من تعاطف وتضامن.

غير أنّه لن يكون منّا أبداً. سنكون في موتنا، وبلادنا المحتَلَةَ المُدَمَّرة، وسيكون هو في بلاده المحتلة المدمِّرة. لنا موتنا، ولا نشاركه مع الجنود، ولا أبنائهم السياح.

______________________

  1. فيديو مايك أوكاي بعنوان "دخول أكثر بلدان العالم تقلباً"

    By Mike Okay, tittle: “Entering the World’s Most Volatile Region”, 20-12-2025

    https://www.youtube.com/watch?v=Kuc1q9TNYBA&ab

  2. فيديو مايك أوكاي بعنوان "هؤلاء هم من قمنا باحتلالهم"

    By Mike Okay, title: “So, These are the People we Invaded”, 05-01-2025

    https://www.youtube.com/watch?v=h8umwVGkzNg&ab

مقالات من العراق

بلد الجدائل المقصوصة

فؤاد الحسن 2025-03-03

كتب الفلسطينيون على أيدي أطفالهم أسماءهم، لئلا تضيع جثثهم، ويتعرّفون إليها بعد قصفهم، وهو ما فاتنا. كان علينا كتابة أسمائنا على عظامنا، فشمس آب جفّفتْ دماء أهلي في الجبل، وتحلَّلت...

للكاتب نفسه

بلد الجدائل المقصوصة

فؤاد الحسن 2025-03-03

كتب الفلسطينيون على أيدي أطفالهم أسماءهم، لئلا تضيع جثثهم، ويتعرّفون إليها بعد قصفهم، وهو ما فاتنا. كان علينا كتابة أسمائنا على عظامنا، فشمس آب جفّفتْ دماء أهلي في الجبل، وتحلَّلت...

"شنكَال"؟

فؤاد الحسن 2024-12-23

لا يقبل الدين الإيزيدي الراغبين في الانتماء إليه، الذين لم يولدوا لأبوَين إيزيديين. وهو بذلك، كديانة، ليست تبشيرية، ولا نبي أو رسول للإيزيديين، وهذا ما يجعل علاقتهم مباشِرة مع خالقهم،...

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...