لم تعد أزمة السكن في تونس مجرد مشكلة عقارية واقتصادية، بل صارت عاملاً رئيسياً في إعادة هيكلة الطبقة الوسطى، وإعادة تعريف حدودها الاجتماعية والاقتصادية. فبعد أن كانت هذه الطبقة تعرف تاريخياً بامتلاكها منزلاً خاصاً كرمز للاستقرار الاجتماعي، صارت اليوم تواجه واقعاً جديداً يهدد بتآكل مكانتها وبتحولات عميقة في أنماط حياتها. هذا التغيير لا يقتصر فقط على تقلص فرص التملك العقاري، بل يمتد إلى كيفية عيش هذه الفئة وتنظيمها لعلاقاتها الأسرية والاجتماعية، مما يؤدي إلى أنماط سكنية جديدة لم تكن مألوفة في العقود السابقة.
وفقاً لإحصاءات متقاطعة، شهدت تونس ارتفاعاً ملحوظاً في أسعار العقارات، حيث ارتفعت أسعار الشقق بنسبة 5 في المئة بين عامي 2023 و2024، في حين ارتفع متوسط سعر المتر المربع للشقق إلى ما بين 3000 و5000 دينار تونسي في بعض المناطق الحضرية، مما يجعل امتلاك مسكن شبه مستحيل لدى جزء كبير من الطبقة الوسطى.
نتيجة لهذه التحولات، صار نموذج الامتلاك يتراجع لصالح الاستئجار، إذ أظهرت الإحصائيات أن نسبة التونسيين الذين يعتمدون على الإيجار ارتفعت من 17 في المئة في سنة 2014 إلى 23 في المئة في سنة 2023. هذا التحول لا يعكس فقط صعوبة الوصول إلى التملك العقاري، بل يؤشر إلى تغير في السلوكيات الاستهلاكية للطبقة الوسطى التي صارت مضطرة إلى التخلي عن نموذج السكن الدائم واللجوء إلى حلول مؤقتة، وهو ما ينعكس بدوره على التخطيط العائلي والتصورات الاجتماعية حول الاستقرار، إذ بدأنا في هذا الصدد نلاحظ تغييرات جوهرية في أنماط استهلاك الطبقة الوسطى. فبعد أن كان السكن يمثل أولوية قصوى، صار هناك توجه نحو التخلي عن مشاريع التملك العقاري لصالح الإنفاق على مجالات أخرى، مثل التعليم والسفر والاستهلاك الرقمي. وهذه التغييرات ترتبط باقتصاد عولمي يعاد عبره تشكيل الطبقات الاجتماعية، إذ لم يعد امتلاك عقار هو المحدِّد الوحيد للمكانة الاجتماعية، بل ظهرت بدائل جديدة تعكس الانتماء إلى الطبقة الوسطى، مثل القدرة على السفر، امتلاك سيارة، أو الوصول إلى التكنولوجيا الحديثة.
من هي «الطبقة الوسطى»؟ تونس مثالاً...
18-12-2013
مع هيمنة القطاع البنكي على مجال الإسكان، وانسحاب الدولة من دورها كفاعل رئيسي في رسم سياسات السكن، أصبحنا أمام مشهد اجتماعي جديد، يتسم بتآكل الحدود التقليدية للطبقة الوسطى، وظهور أشكال جديدة من اللامساواة داخل المدن. فهل يمكن اعتبار هذا التحول مقدمة لإعادة تشكل اجتماعي أوسع؟ وإلى أي مدى يمكن مواجهة هيمنة السوق على قطاع حق السكن لضمان الحق في المدينة للجميع؟
السكن بين الدولة والسوق: من الحماية إلى المضاربة
من التسعينيات الفائتة، تخلت الدولة التونسية تدريجياً عن دورها المركزي في سياسات الإسكان، تاركة المجال مفتوحاً أمام المطوِّرين العقاريين والقطاع البنكي. وفي ظل إملاءات الإصلاحات النيوليبرالية وتوصيات المؤسسات الدولية، تم تفكيك العديد من البرامج الحكومية الداعمة للسكن الاجتماعي، وبدلاً منه، شجعت الدولة الاستثمار الخاص في العقارات، ما أدى إلى تزايد المضاربات العقارية وارتفاع أسعار الأراضي والشقق بشكل غير مسبوق. في هذا السياق، صارت البنوك هي الفاعل الرئيسي في تمويل عمليات السكن، عبر التوسع في القروض العقارية بفوائد مرتفعة، مما جعل شراء مسكن عملية تستغرق عقوداً من الديون. وقد شكل هذا الوضع تحالفاً غير رسمي بين المطوِّرين العقاريين والبنوك. حيث صار العقار أداة استثمار مالي أكثر منه اجتماعياً. ووفقا للمعهد الوطني للإحصاء، فإن أكثر من 60 في المئة من القروض الممنوحة للأفراد في تونس تتعلق بتمويل السكن، بينما تجاوزت نسبة الفائدة على القروض العقارية 8 في المئة سنة 2023، وهو ما أسس لنظام تراكم رأس المال عبر نزع الملكية. ذلك أن انسحاب الدولة من مجال الإسكان لا يعني غياب التدخل، بل يعني إعادة توجيه هذا التدخل لصالح رأس المال المالي والعقاري.
ضمن هذا الإطار، صارت الدولة تشتغل كوسيط في تمويل التفاوتات، إذ إن تخليها عن سياسات الإسكان لم يكن مجرد قرار إداري، بل كان جزءاً من تحولات أوسع فرضتها سياسات التكيف الهيكلي، حيث شجعت الدولة البنوك والمؤسسات المالية على تمويل مشاريع التطوير العقاري، بدلاً من الاستثمار المباشر في مشاريع سكنية ميسورة الكلفة. وفقاً لهذا النموذج، صارت الدولة لا تنسحب تماماً، بل تعيد توجيه سياساتها إلى خدمة القطاع الخاص، عبر توفير تسهيلات ضريبية للمطوِّرين العقاريين، وتحرير أسعار الأراضي، وتسهيل القروض العقارية. هذا التحول أدى إلى احتكار نخبة من المستثمرين والمضاربين لسوق العقارات، مما جعل الأٍسعار تحدد وفقاً لمصالح رأس المال، وليس وفقاً للطلب الاجتماعي الحقيقي. وبالتالي فالانتقال من نموذج الدولة الراعية إلى نموذج السوق المعولَم، كثيراً ما يؤدي إلى إعادة ترسيم الفضاءات الحضرية؛ وفقاً لمنطق الفرز الطبقي، حيث يتم تخصيص المواقع المركزية أو القريبة من الخدمات لأصحاب الدخل المرتفع، بينما يتم دفع الفئات الأقل قدرة مالياً نحو أطراف المدن والأحياء الفقيرة.
تونس: حين ترتفع "اليد اليمنى" للدولة
14-09-2016
القطاع العمومي في تونس: ثلاثون تهدم ثلاثين..
22-03-2018
أدى هذا النموذج إلى إعادة هيكلة النسيج العمراني وفقاً للقدرة على التمويل، فارتسمت حدود اجتماعية ومكانية داخل المدن التونسية، خاصة العاصمة والمدن الكبرى. يمكن رصد هذا النموذج من خلال التباين الحاد بين أحياء "النخب الجديدة"، مثل أحياء البحيرة وحدائق قرطاج والمرسى، التي صارت محمية بأسوار غير مرئية، و بين الضواحي الفقيرة أو الأقل حظاً، مثل أحياء التضامن ودوار هيشر ويسيدي حسين السيجومي... إلخ، حيث يضطر السكان إلى بناء مساكنهم بموارد ذاتية، والعيش في أماكن تنعدم فيها البنية التحتية والخدمات الأساسية. أما الطبقة المتوسطة نفسها فلم تعد مقسمة فقط وفقاً لمستوى الدخل، بل أيضاً وفقاً لموقعها الجغرافي داخل المدينة. فبينما تمكنت شرائح معينة من الاستفادة من القروض البنكية للسكن في أحياء شبه مركزية، اضطر جزء كبير من الطبقة المتوسطة إلى النزوح القسري نحو الأحياء الشعبية، مما أدى إلى تفاوتات داخل الطبقة المتوسطة نفسها.
السكن والهامشية المدينية والعنف الاجتماعي
من نتائج هذه التحولات ظهور أحياء غير مدْمجة بشكل كامل في الدورة الاقتصادية والاجتماعية للمدن التونسية، وذلك من حيث افتقارها إلى البنية التحتية والخدمات الأساسية، مما يخلق شعوراً بالضيم والإقصاء لدى متساكنيها. فغياب التخطيط المديني، وسيطرة رأس المال على سوق السكن، يؤديان إلى تزايد التوترات الاجتماعية، حيث يشعر السكان في المناطق الحضرية المهمشة بأنهم مستبعدون من "المدينة الرسمية"، مما يعزز من أشكال الاحتجاج والعنف. في تونس، يمكن ربط التوترات الاجتماعية والعنف المديني بواقع السكن، حيث تُظهِر كثير من التقارير أن المناطق التي شهدت في السنوات الأخيرة أعلى نسب من الاحتجاجات والاشتباكات بين الشباب وقوات الأمن، هي نفسها المناطق التي تعاني من نقص في السكن اللائق والخدمات، ويواجه سكانها "الحرمان المديني". وهكذا، فالأحياء الفقيرة ليست مجرد أماكن للسكن، بل هي فضاءات يتم فيها إنتاج العنف، والتهميش، وإعادة إنتاج اللامساواة عبر سياسات حضرية قمعية. إلا أن تلك الأحياء تصبح في المقابل فضاءات لإعادة التفاوض على الحق في المدينة. فبما أن الدولة لم تعد تضمن السكن كحق اجتماعي، صار على السكان ابتكار استراتيجيات بديلة، مثل الاستيلاء على الأراضي، أو تطوير اقتصاديات غير رسمية تتيح لهم البقاء في المدينة.
أكثر من 60 في المئة من القروض الممنوحة للأفراد في تونس تتعلق بتمويل السكن، بينما تجاوزت نسبة الفائدة على القروض العقارية 8 في المئة سنة 2023، وهو ما أسس لنظام تراكم رأس المال عبر نزع الملكية. ذلك أن انسحاب الدولة من مجال الإسكان لا يعني غياب التدخل، بل يعني إعادة توجيه هذا التدخل لصالح رأس المال المالي والعقاري.
صارت الدولة تشتغل كوسيط في تمويل التفاوتات، إذ إن تخليها عن سياسات الإسكان لم يكن مجرد قرار إداري، بل كان جزءاً من تحولات أوسع فرضتها سياسات التكيف الهيكلي، حيث شجعت الدولة البنوك والمؤسسات المالية على تمويل مشاريع التطوير العقاري، بدلًا من الاستثمار المباشر في مشاريع سكنية ميسورة الكلفة. وفقا لهذا النموذج، صارت الدولة لا تنسحب تماماً، بل تعيد توجيه سياساتها إلى خدمة القطاع الخاص، عبر توفير تسهيلات ضريبية للمطوِّرين العقاريين، وتحرير أسعار الأراضي، وتسهيل القروض العقارية.
ترتبط هذه الإشكالية الحضرية بتغير طرأ على المدن التونسية، التي تحولت من مدن مدمجة إلى "مدن مقطعة ومجزأة". فسياسات السكن تلك لم تخلق فقط فجوات اقتصادية فحسب، بل أنتجت أنماطاً جديدة من العزل الاجتماعي، حيث تعيش الطبقات الشعبية في أحياء مقطوعة عن المركز، بينما تحتمي الطبقات الميسورة داخل فضاءات شبه محصنة. فيشعر سكان الأحياء المهمَّشة أنهم "غرباء في مدينتهم".
تأخر الاستقلالية السكنية: نحو أنماط جديدة من العيش والهويات
في المجتمعات الحديثة، يمثل الاستقلال السكني لحظة محورية في مسار الفردنة، حيث ينتقل الشاب أو الشابة من فضاء العائلة إلى فضاء مستقل، يعيد من خلاله تشكيل هويته الفردية. غير أن أزمة السكن في تونس، وارتفاع أسعار العقارات، وضعف القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة، دفعت نسبة كبيرة من الشباب إلى تأجيل خروجهم من منزل العائلة. تشير إحصائيات إلى أن أكثر من 40 في المئة من الشباب التونسي من الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و35 سنة لا يزالون يعيشون مع عائلاتهم، بسبب عجزهم عن استئجار أو امتلاك منزل مستقل. لهذه الظاهرة انعكاسات اجتماعية عميقة، على تصورات الأفراد لأنفسهم، وعلى أنماط حياتهم اليومية، وحتى على العلاقات الجندرية داخل الأسرة. ففي ظل غياب الفضاء الخاص داخل المنزل، يلجأ كثير من الشبان إلى إعادة تشكيل علاقتهم مع المكان عبر استراتيجيات بديلة أبرزها "قتل الوقت"، أي قضاء أكثر وقت خارج المنزل، لتجنب الاحتكاك العائلي. يصبح الفضاء العام (المقاهي، الشوارع، الحانات... الخ) امتداداً للمنزل، لكنه أكثر مرونة، حيث يمكن للأفراد ممارسة استقلاليتهم في أطر غير رسمية.
يؤدي هذا الواقع إلى إعادة تشكيل القيم الاجتماعية، حيث يتم تفكيك النموذج التقليدي للأسرة الممتدة، حتى وإن كان العيش المشترك لا يزال مفروضاً على المستوى المادي. فمع الوقت، تتبلور قيم جديدة مضادة للمنظومة الأسرية التقليدية، مثل تراجع سلطة الأب داخل المنزل، ورفض الامتثال المطلق للقيم العائلية، وبروز أنماط حياة فردانية تؤكد حرية القرار والاستقلالية الذاتية، حتى وإن كانت هذه الاستقلالية غير متحققة مادياً.
بالمقابل، يرتبط تأخر الخروج من منزل العائلة بظاهرة العنف الجندري، حيث يصبح المنزل فضاء للصراعات بين الأجيال وبين الجنسين. في المجتمعات التقليدية، كانت الفتاة تغادر منزل العائلة عند الزواج ، مما جعل السلطة الذكورية تنتقل من الأب إلى الزوج. لكن مع تأخر سن الزواج وارتفاع نسب البطالة، صار بقاء الفتيات لفترة أطول يعزز التوترات داخل الأسرة، حيث يُنظر إلى المرأة على أنها عنصر تابع ويفرض عليها التفاوض المستمر حول حريتها وسلوكياتها.
يبدو أن الفردنة في سياق المجتمع التونسي تصطدم بعائق السكن، حيث يجد الشباب أنفسهم عالقين بين الرغبة في تحقيق الاستقلالية وعدم القدرة على تحقيقها. في ظل هذا الواقع، تتغير القيم الاجتماعية، وتتصاعد التوترات داخل العائلات، وتظهر أشكال جديدة من العنف المرتبط بالمسكن.
تشير دراسات سوسيولوجية في تونس إلى أن نسبة كبيرة من العنف الأسري، الذي يستهدف الفتيات مرتبط بمسألة الخروج من المنزل، واختيار الملابس، والتأخر في العودة مساء. في بعض الأحيان، يصبح العنف وسيلة لفرض الانضباط الأبوي، خاصة في العائلات التي لم تستطع التكيف مع التحولات الاجتماعية التي فرضتها الفردنة. من ناحية أخرى، يواجه الشباب الذكور أيضاً أشكالاً أخرى من العنف الرمزي، حيث يُنظَر إلى بقائهم في منزل العائلة كدليل على فشلهم الاقتصادي والاجتماعي، مما يعزز الشعور بالإحباط والعدوانية، والعزلة الاجتماعية. ضمن هذا السياق، ومع تزايد أزمة السكن، وتأخر الاستقلالية السكنية، يبدو أن الفردنة في سياق المجتمع التونسي تصطدم بعائق السكن، حيث يجد الشباب أنفسهم عالقين بين الرغبة في تحقيق الاستقلالية وعدم القدرة على تحقيقها. في ظل هذا الواقع، تتغير القيم الاجتماعية، وتتصاعد التوترات داخل العائلات وتظهر أشكال جديدة من العنف المرتبط بالمسكن.
الزمانية الاجتماعية للسكن
لم يعد عدم القدرة على امتلاك مسكن مرتبطاً فقط بالحيز المكاني، بل صار يمتد ليشمل إعادة هيكلة مسارات الحياة. فالطبقة المتوسطة في تونس، التي كانت تاريخياً ترى في امتلاك المنزل نقطة تحول إلى النضج والاستقرار العائلي، صارت تواجه تمدداً غير مسبوق لمرحلة الشباب، وتأجيلاً قسرياً للمشاريع الحياتية، مثل الزواج والإنجاب، وحتى الاستقلال المهني. بمعنى آخر، لم يعد الفرد في الطبقة المتوسطة يعيش تسلسلاً زمنيّاً تقليديّاً (الدراسة، العمل، امتلاك منزل، الزواج، تكوين أسرة)، بل صار يسير في مسارات دائرية متأخرة، حيث يمكن أن يكون مستقلاً مهنياً لكنه لا يزال يعيش مع والديه، أو أن يكون متزوجاً لكنه لا يستطيع امتلاك منزل.
وهذا التناقض يعيد تعريف العمر الاجتماعي داخل الطبقة المتوسطة، ويؤدي إلى إعادة تشكيل التصورات حول النجاح والفشل.
يرتبط تأخر الخروج من منزل العائلة بظاهرة العنف الجندري، حيث يصبح المنزل فضاء للصراعات بين الأجيال وبين الجنسين. في المجتمعات التقليدية، كانت الفتاة تغادر منزل العائلة عند الزواج، مما جعل السلطة الذكورية تنتقل من الأب إلى الزوج. لكن مع تأخر سن الزواج وارتفاع نسب البطالة، صار بقاء الفتيات فترة أطول يعزز التوترات داخل الأسرة، إذ يُنظر إلى المرأة على أنها عنصر تابع، ويفرض عليها التفاوض المستمر حول حريتها وسلوكياتها.
أخيراً..
السكن إذاً، ليس مجرد مأوى، بل هو محدِّد رئيسي للتحولات الاجتماعية، ورمز لإعادة إنتاج الطبقات، وخط تماس بين الفرد والدولة والسوق. وفي غياب سياسات إسكانية عادلة، فإن أزمة السكن ستظل عاملاً رئيسياً في تفكيك الطبقة المتوسطة، وتعميق الهامشية الحضرية داخل المدن، وإعادة إنتاج أنماط جديدة من العنف والصراع الاجتماعي واللامساواة داخل المدينة، حيث تُفرض الحدود الطبقية عبر الجدران والإيجارات والقروض العقارية.