فيما يجري تسريب معلومات عن خطة الابادة الجديدة لغزة التي أُقرَّت و"توشِك" على الانطلاق، ثم "تأجيلها" بانتظار انتهاء الرئيس الأمريكي ترامب من زيارته للمنطقة، وما بين الحرب الفعلية الدائرة كل يوم، مترافِقة مع سقوط الشهداء بالعشرات، وتلك التي يجري بتكرار التهديد والوعيد ب"فظاعتها"، تستمر مخططات الإذلال عبر التجويع وأوامر الاخلاء.
تقوم الخطة الإسرائيلية-الأمريكيّة الجديدة، التي يجري الحديث عنها في الإعلام، وفي أروقة السياسة الإسرائيلية مؤخراً، على توزيع المُساعدات على المواطنين الفلسطينيين، من قبل المؤسسات الإغاثيّة الدولية مباشرةً، لكن بآليةٍ مُختلفة وجديدة. هذه المرّة لن تصل البضائع والمُساعدات إلى التُجار والمؤسسات المحلية، ولن تُباع في الأسواق،وذلك بغاية المزيد من التحكم بمشاعرنا وبمعدتنا أيضاً. تقضي الخطة بدخول حوالي 60 شاحنة من المساعدات يومياً، يتم توزيعها على مراكز مُخصصة تُقام في جنوب قطاع غزّة، يحميها ويؤمنّها من الخارج الجيش الإسرائيلي. وتقوم على عملية التوزيع، شركاتٌ أمنية أمريكيّة، والمؤسسات الدولية والأمميّة المُختلفة. ستُمّول المساعدات من قبل دول أخرى، أو من المؤسسات التي ستشتريها وتُدخلها إلى غزّة، وفق الآلية المُحددة، وبعدَ التفتيش الإسرائيلي الدقيق، وفق ما نقلته صحيفة "واشنطن بوست"، وتحدثت عنها سابقاً مواقع مثل "أكسيوس".
سيأخذ الفلسطيني طعامه ومساعداته، أسبوعياً. أيّ سنتوجّه كمواطنين إلى نقاط التوزيع هذه، مرةً كل أسبوع، لنستلم المُساعدة، التي ستكفي للأيام السبعة فقط، قبلَ أن نعودَ لنتسلم غيرها في الأسبوع التالي، وبالطريقة نفسها، تحتَ أعينِ جيش الاحتلال والشركات الأمنية، ووفق آلية الاستلام نفسها، في طوابير إذلالٍ مُخصصة لذلك.
هندسة الإذلال
تُحاول إسرائيل منذ اليوم الأول للحرب، رسمَ خُطة إذلال الفلسطينيين في قطاع غزّة خاصة. يُشرف على أشكال الإذلال مهندسون متخصصون من جيش الاحتلال، ومنظومته الأمنية، وخلفها المنظومة السياسيّة، التي تُطلِق أبواقها يومياً لإقرار خُططٍ مختلفة، تتغيّر مع الوقت وتتطوّر، تهدف إلى تحويل الإذلال إلى ممارسة يوميّة نتعرض لها، ودمجها في وعينا الجماعي كفلسطينيين نعيش في هذا السجن الكبير.
يستحضر ذلك ما "هندسه" الخبراء النازيون بخصوص المعتقلين في معسكراتهم، من تعيين ما يحتاجه الانسان ليبقى على قيد الحياة، وذلك بالحدود الدنيا تماماً الضرورية لذلك. وكانت "الوجبة" تتغير بحسب "وظائف" الاشخاص، إذ كان بعض المعتقلين يكلَّفون بالقيام بأعمال شاقة، فيقرر لهم أحياناً، بناء على تلك الدراسات العميقة، اضافة بعض الطعام لهم...
بالنظر إلى الخُطة الجديدة، يظهر الإذلال كمسارٍ دقيق، مرسومٍ للمواطن، يقوم عليه يومه أو حتى أسبوعه. بدءاً من تخصيص كميّة مُحددة من الطعام تدخل إلى القطاع، نسبتها عُشر الكمية التي كانت تدخل سابقاً. وهي تُحدد بذلك الكم البسيط والدقيق للشخص الواحد لِما يأكله في أسبوع، وبالتالي في يومه، بتوزيع هذه الكمية على مدار الأسبوع، قبل قدومِ موعد الاستلام الأسبوعي اللاحق.
حتى تَوجّه ما يُسميه الاحتلال "ممثل العائلة" إلى مكانٍ مُخصص كمركز للتوزيع، في مناطق نائية وبعيدة في جنوب القطاع، المُدمّر، الذي انتهى من الوجود نتيجةً لأشهر الإبادة التي تخللها النسف والحرق والقصف، وتحتَ أعين الجنود الإسرائيليين، ومع خضوع القادمين للاستلام الى عملية فحصٍ دقيقة عبر البصمات أو الكاميرات، تَضْمن أنّ مُستلم المُساعدة ليس من تلك الفئة التي تعتبرها إسرائيل "إرهابية"، وصولاً الى الطوابير الطويلة التي ستُقسّم أكثر من مليونيْ مواطن على 5 أو 6 مراكز فقط، ما يعني تكدّس الآلاف في هذه الأماكن، بانتظار اللُقمة.
ليس ذلكَ فحسب، سيصطف الفلسطينيون في طوابير، ليس أمام فلسطينيين مثلهم، من أبناء شعبهم ممن عايشوا معاناتهم، إنما أمام أشخاص من شركاتٍ أمريكيّة أمنية، ومؤسساتٍ دولية مُستحدَثة لهذا الغرض، مهامها أمنية أكثر مما هي إنسانية، يعتقد عناصرها أنهم يقومون ب"حماية الطعام"، لا مُساعدة المُستلِمين، ما يعني الإمعان في الإذلال وامتهان الكرامة.
تاريخ الإذلال ومحطاته
على مدار أشهر الحرب الطويلة، رُسمت السياسات التي تجعل من إذلال الفلسطيني، واقعاً يومياً مقبولاً، يستيقظ عليه الأطفال كلّ يوم، بأشكالٍ عدّة، كالنزوح والتكديس داخل مُخيماتٍ نائية، والوقوف الطويل أمام طوابير الطعام في المخابز، وسيطرة شركاتٍ أمنيّة على هذه الطوابير لضبط الجائعين، والمحاولة المُستمرة للبحث عن المياه، والتكدّس أمام السيارات المُخصصة لذلك، وحتى الطوابير المُخصصة لاستلام المُساعدات بكل أنواعها.
منذ اليوم الأوّل للحرب، أعلنت إسرائيل عن قطعِ علاقتها مع قطاع غزّة، مؤكدةً أنّ القطاع لن يرَ ذرةً واحدة من الطحين أو أيّة شاحنةٍ من الطعام أو الأدوية من خلالها، كما قصفت معبر رفح وأغلقت المعابر النافذة إلى غزّة. لكنَ هذا الأمر لم يكُن عملياً أمام قوّة آلة الإبادة التي لم تُبقِ أيّة قدرةٍ للقطاع ليعيشَ بنفسه. وأمام الضغوط الدولية، اضطرت إلى فتح المعابر بعد فترةٍ قصيرة وتمرير المُساعدات ولو "بالقطّارة".
يستحضر ذلك ما "هندسه" الخبراء النازيون بخصوص المعتقلين في معسكراتهم، من تعيين ما يحتاجه الانسان ليبقى على قيد الحياة، وذلك بالحدود الدنيا تماماً الضرورية لذلك. وكانت "الوجبة" تتغير بحسب "وظائف" الاشخاص، إذ كان بعض المعتقلين يكلَّفون بالقيام بأعمال شاقة، فيقرر لهم أحياناً، بناء على تلك الدراسات العميقة، اضافة بعض الطعام لهم...
يتكدّس الفلسطينيون أيضاً إلكترونياً، على المواقع المُخصصة للتسجيل للحصول على المعونات الإغاثية. فقد انتشرت خلال هذه الأشهر روابط المؤسسات المُختلفة التي تسمح بالتسجيل فيها، وهو ما صارَ شائعاً بين الناس، يسألون بعضهم بعضاً عن تسجيلهم في الرابط "س" أو الرابط "ص"، من عدمه.
تُعوّل إسرائيل في هندسة سياستها الإذلالية، على عوامل عديدة، حاولت رسمها وفرضها على المُجتمع الفلسطيني في غزّة فترة الحرب، من خلال تشديد الحصار والتجويع، الذي يدفع المواطن إلى القبول بأيّ شيء في سبيل توفير اللقمة لأطفاله، وهو ما نتجَت عنه مشاهد مجازر الطحين الشهيرة في شمال غزّة العام الماضي، ومشاهد لحاق الناس بطائرات المساعدات، أو قبولهم بفكرة الرباط لساعاتٍ طويلة أمام المخابز.
إعادة تكوين العقل الغزّي
26-09-2024
دفعت إسرائيل السُكان في غزّة إلى مساحةٍ ضيّقة خلال فترة الحرب، تُقدّر بحوالي 3 في المئة فقط من مساحة القطاع، وهي منطقة المواصي. وقد انتهجت هذا الشكل من الخُطط العسكرية، لأوّل مرة في حروبها. ولا تزال تتّبع هذا الشكل الآن، من خلال دفع الناس إلى المناطق الغربية والساحلية من المُدن، وتقليص مساحة السكن، إذ بقي حوالي 20 في المئة من مساحة القطاع بلا أوامر إخلاء حتى الأسبوعيْن الأخيريْن، ما يزيد التكدّس في مناطق نائية ومدمّرة، بلا خدمات أو ظروفٍ معيشية مُناسبة، وهو ما يُسهم في الهندسة المُقرَّرة للذُل.
كما أنّ الواقع المرسوم من حصارٍ مُشدَّد، ومنع السُكان من الخروج من القطاع بعد إغلاق معبر رفح في أيار/ مايو 2024، وحتى قبله، من خلال إجبارهم على دفع مبالغ هائلة للسفر والهروب من الإبادة، وبقاء آخرين داخل القطاع يُعانون بلا مفرّ، يُمعِن في زرع صورة ذهنيّة مُذلّة لدى الغزّاوي، تجعلهُ يُقارن بين حياته الميؤوس منها وحياة أقرانه في الخارج، لتصلَ فيه إلى قناعة أنّ امتهان الكرامة هو الشكل الطبيعي لحياته.
لم أقف في طابور استلام طرود المُساعدات، منذ بداية الحرب، سوى مرتيْن، واحدة في رفح، واقفاً بدلاً من شقيقاتي النازحات، وأُخرى قبل أيامٍ قليلة في شمال غزّة، لقناعتي أنّ كلّ ما سأحصل عليه الآن سيُفيد العائلة، في ظلّ ظروفٍ مُعقّدة، لا ندري متى ستنتهي أو إلى أيّة نقطةٍ ستصل في صعوبتها.
أفواجُ العودة
03-02-2025
وجوه المدينة: عن الحياة في شمال غزّة
27-02-2025
في المرّةِ الأولى التي وقفتُ فيها بالطابور، داهمني شعورٌ سيء. أنا الذي كنت خلال سنواتٍ طويلة - منذ 2013 إلى اليوم - أعمل في توزيع المُساعدات والاحتياجات الإنسانيّة على الناس. وقد كُنتُ دائماً ذا رأيٍ بأن تكون عملية التوزيع، في الأمور التي أُشرف عليها، بسيطة، سهلة، خفيفةَ الأثر على الناس، دقيقة في تعامل المُشرفين والمُنسِّقين مع المُستفيدين، امتثالاً للضمير والصوت الأخلاقي الكامن في دواخلنا، وعملاً بمبادئ العمل الإنساني المعروفة في هذا المجال. لكنّني دائماً، وخلال أشهر الحرب الطويلة، كنتُ أتوجّس من كثيرٍ ممن أراهم دخيلين على هذا المجال، يتّخذونهُ مهنةً، أو مُهمّة، تُنجَز في سبيل رِضا المُموِّل، أكثر من حملها رسالةً إنسانيّة، ما يدفعهُم إلى التعامل مع الناس بطريقةٍ أُخرى، غير تلك التي يُمليها عليهم الضمير.
دفعت إسرائيل السُكان في غزّة إلى مساحةٍ ضيّقة خلال فترة الحرب، تُقدّر بحوالي 3 في المئة فقط من مساحة القطاع، وهي منطقة المواصي. وقد انتهجت هذا الشكل من الخُطط العسكرية، لأوّل مرة في حروبها. ولا تزال تتّبع هذا الشكل الآن، من خلال دفع الناس إلى المناطق الغربية والساحلية من المُدن، وتقليص مساحة السكن، إذ بقي حوالي 20في المئة من مساحة القطاع بلا أوامر إخلاء حتى الأسبوعيْن الأخيريْن، ما يزيد التكدّس في مناطق نائية ومدمّرة، بلا خدمات أو ظروفٍ معيشية مُناسبة، وهو ما يُسهم في الهندسة المُقرَّرة للذُل.
جرت خلال الأشهر الطويلة من الحرب، محاولات كثيرة لهندسة المُجتمع الفلسطيني في قطاع غزّة، كُمجتمعٍ يمتهن الذُل، أو يقبله. جرى ذلك بخطواتٍ عدّة، دُمِجَ الناس داخلها شيئاً فشيئاً، من دونَ أن يدري المواطن العادي، النازح والرازح تحتَ نار الحرب والموت، وقرارات الإخلاء، أنهُ يُسيّر بطريقةٍ ما، إلى رغبة إسرائيل، إذ لا تدفعهُ إلّا غريزته ورغبته في إطعام عائلته، وهي لا تدفعها إلّا رغبتها في قهرنا أكثر.
يختلفُ الأمر من مكانٍ إلى آخر، ومن شخصٍ إلى غيره، في آلية التعامل، وفي مدى الدقّة بالامتثال لهذه المبادئ المعروفة عالمياً. لكن ومن جانبٍ آخر، وفي إطارٍ أوسع، جرت خلال الأشهر الطويلة من الحرب، محاولات كثيرة لهندسة المُجتمع الفلسطيني في قطاع غزّة، كُمجتمعٍ يمتهن الذُل، أو يقبله. جرى ذلك بخطواتٍ عدّة، دُمِجَ الناس داخلها شيئاً فشيئاً، من دونَ أن يدري المواطن العادي، النازح والرازح تحتَ نار الحرب والموت، وقرارات الإخلاء، أنهُ يُسيّر بطريقةٍ ما، إلى رغبة إسرائيل، إذ لا تدفعهُ إلّا غريزته ورغبته في إطعام عائلته، وهي لا تدفعها إلّا رغبتها في قهرنا أكثر.
تَظهر هذه الهندسة السياسيّة عبر المحاولات الإسرائيلية الطويلة لإقرار آلية لإدخال المُساعدات إلى قطاع غزّة، تمنع ما تدّعيه إسرائيل من أن حركة "حماس" تُسيطر على المُساعدات، وتدعي أنها بذلك تُوقف هذه "القرصنة" التي تؤدي إلى تقوية حُكم الحركة. وهو ما حاولت إسرائيل خلال أكثر من سنةٍ ونصف من العمل العسكري والسياسي، إنهاءه.
أفكار بلا نتائج
منذ اليوم الأوّل للحرب، أعلنت إسرائيل عن قطعِ علاقتها مع قطاع غزّة، مؤكدةً أنّ القطاع لن يرَ ذرةً واحدة من الطحين أو أيّة شاحنةٍ من الطعام أو الأدوية من خلالها، كما قصفت معبر رفح وأغلقت المعابر النافذة إلى غزّة. لكنَ هذا الأمر لم يكُن عملياً أمام قوّة آلة الإبادة التي لم تُبقِ أيّة قدرةٍ للقطاع ليعيشَ بنفسه. وأمام الضغوط الدولية، اضطرت إلى فتح المعابر بعد فترةٍ قصيرة وتمرير المُساعدات ولو "بالقطّارة".
كانت المُساعدات محلّ خلافٍ إسرائيلي على مدار الأشهر الطويلة، بدءاً من التيار الذي يرفض إدخالها نهائياً، كنوعٍ من الضغط المدني والإنساني، ليصل الحال بـ"حماس" إلى الاستسلام مُقابل الحصول على الطعام، وصولاً إلى تيارٍ يرى ضرورة ابتكار آلية لتوزيع المُساعدات وإدخالها تضمن عدم سيطرة الحركة عليها.
ابتكرت إسرائيل، ومن خلفها الولايات المُتحدة العديد من الطُرق. بعضها بإلقاء المُساعدات من الجو، التي لم تتعدّى كونها "مسرحية"، كما يرى الناس في غزّة، فقتلت بعضهم، وأصابت آخرين، عدا عن وقوع بعضها في البحر، أو وصولها إلى أراضي الداخل المُحتل، أو إلى مناطق من غزة تخضع لسيطرة جيش الاحتلال. فكانت محطّ سخرية الناس، في غالب الأحيان، أو مشاهد سينمائيّة يخرج الفلسطينيون فور سماع صوت الطائرات، ليُشاهدوها مُصفِّقين مُهلِّلين.
كجزءٍ من الضغوط، انقلب الاحتلال في الثاني من آذار/ مارس 2025، على بنود اتفاق وقف اطلاق النار، بإغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات. ولا يزال القرار سارياً حتى الآن، لتزيدَ مُدة الإغلاق عن الشهريْن، خلاله مُنع دخول أيّ أشكالٍ من المعونات أو الإغاثة للقطاع، بما يتضمّن البضائع، والمُساعدات، والأدوية، والوقود، والغاز، والطعام، والمياه، والمُعدات... وهي تُعد الآن أطول مدة إغلاقٍ وحصار يتعرّض لها السُكان في غزّة منذ بداية الحرب، وفق وكالة (الأونروا) والمؤسسات الأُمميّة.
الميناء الأمريكي العائم، كان أيضاً أحد الابتكارات التي حاولت معالجة الأزمة، لكنها كانت مثلَ غيرها. سُرعان ما بقي لأشهرٍ قليلة، ثمَ غادرَ وانتهى. بدأ بناؤه في آذار/ مارس 2024، وأُزيل نهائياً في آب/ أغسطس من العامِ نفسه. تخلّلت هذه الفترة أوقاتٌ عصيبة على الميناء، منها توقّف أعمال بنائه في أيار/ مايو، وتفكّك بعضه في تموز/ يوليو، وعدم معرفة الناس جدواه، فكمّ المُساعدات التي كانت تدخل منه كان ضئيلاً وغيرَ عمليّ.
كان الميناء أيضاً وسيلةً للسُخرية، لتفككه وانهياره أحياناً كثيرة. وأمّا السُفن والبواخر التي كانت تحطُ قبالة غزّة، بسببه، فكانت هي الأُخرى مشهداً غريباً ومُميزاً، جعلَ الفلسطينيين يسترقون النظر من قلبِ الإبادة، إلى بحرهم، الذي صار محطّ الاهتمام العالمي، كما الجو من قبله.
أفكارٌ أخرى ناقشها الاحتلال مع الأمريكيين وأيضاً مع العرب، كُلها فشلت، من قبيل وجود لجانٍ عشائرية تقوم بتوزيع المُساعدات، أو لجانٍ أمنيّة عربية... وحتى الوصول إلى فكرة توزيع الجيش الإسرائيلي بنفسه لهذه المُساعدات، وهي فكرة مُتشدّدة، يُطالب بها اليمين الإسرائيلي، لكنها بقيت محطّ نقاشٍ وخلافٍ حتى اليوم.
من الهُدنة إلى أطول إغلاق
أقرّ اتفاق وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل، الذي وُقّع وبدأ تنفيذه في كانون الثاني/ يناير 2025، إدخال المُساعدات إلى قطاع غزّة، بواقع 600 شاحنة يومياً، يُضمَن دخولها بالتساوي لكُلّ مناطق القطاع، بلا مُعيقات، بلا قيودٍ للتجويع. وعلى الرغم من أنّ العدد المُحدد لم يُطبّق تماماً خلال أيام الاتفاق القليلة، إلّا أنها كانت أياماً لافتة، الأهم والأكثر من حيثُ أنواع وكميات المساعدات والبضائع التي تدخل إلى قطاع غزّة، منذ بداية الحرب.
كان الميناء أيضاً وسيلةً للسُخرية، لتفككه وانهياره أحياناً كثيرة. وأمّا السُفن والبواخر التي كانت تحطُ قبالة غزّة، بسببه، فكانت هي الأُخرى مشهداً غريباً، جعلَ الفلسطينيين يسترقون النظر من قلبِ الإبادة، إلى بحرهم، الذي صار محطّ الاهتمام العالمي. أفكارٌ أخرى ناقشها الاحتلال مع الأمريكيين، وأيضاً مع العرب، كُلها فشلت، من قبيل وجود لجانٍ عشائرية تقوم بتوزيع المُساعدات، أو لجانٍ أمنيّة عربية...
دخلت المساعدات إلى القطاع، خلال هذه المدة، على هيئتيْن: الأولى مُساعداتٍ إنسانية للمؤسسات، والثانية بضائع للتُجار، يستطيع المواطن شراءها بشكلٍ طبيعي، وكلا الشكليْن يُلبيان الاحتياج في قطاع غزّة، وهو ما أنعشَ السوق خلال مدّة وقف إطلاق النار.
كجزءٍ من الضغوط، انقلب الاحتلال على بنود الاتفاق في الثاني من آذار/ مارس 2025، بإغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات. ولا يزال القرار سارياً حتى الآن، لتزيدَ مُدة الإغلاق عن الشهريْن، خلاله مُنع دخول أيّ أشكالٍ من المعونات أو الإغاثة للقطاع، بما يتضمّن البضائع، والمُساعدات، والأدوية، والوقود، والغاز، والطعام، والمياه، والمُعدات... وهي تُعد الآن أطول مدة إغلاقٍ وحصار يتعرّض لها السُكان في غزّة منذ بداية الحرب، وفق وكالة (الأونروا) والمؤسسات الأُمميّة.
***
لا تَنفكّ سياسة الإذلال الإسرائيلية التي تُرسَم مع الوقت في قطاع غزّة، عن المسار الطبيعي لهذه السياسة المُطبّقة إسرائيلياً في كلّ المناطق الفلسطينيّة. لكن غزّة في واقعها، صارت بيئةً خصبة لتطبيقها وهندستها بطرقٍ أدقّ وأكبر منذُ "السابع من أكتوبر 2023"، وهي في نهاية المطاف، تهدف اسرائيلياً الى جعل ابن غزّة بين خياريْن: إمّا حياة الإذلال، وإمّا التهجير.