الحصول على الماء في غزة.. الرحلة الشاقة

سيارة المياه تأتي كلَّ يومٍ في الصباح إلى هذا المكان. تبدأُ بإطلاق موسيقاها المعهودة، تتبعها موسيقى شعبيّة محلية، هي صوت الأطفال وصراخهم: "مياا ميّاا. اجت الميّا". سُرعان ما يخرج الناس من منازلهم أفواجاً كبيرة وراءَ بعض. طوابير تنتشر حولَ السيارة، التي لا تكاد تكفي العدد الهائل حولها. يتزاحمون، فمن لا يُزاحِم على الدور، لن يعودَ بالمياه الحلوة إلى عائلته، ولن يشربَ أطفاله اليوم.
2025-05-01

المقداد جميل مقداد

كاتب وباحث من غزة


شارك
أيمن بعلبكي - لبنان

نادى صوتٌ صغير وضعيف عليّ قائلًا: "عمّو، احمل لي القِرْبة". نظرتُ إلى يميني باتجاه الصوت. كنتُ خارجاً من المنزل في أولى خطواتي؛ كي أستقل مواصلةً إلى العمل. طفلة صغيرة، ملامحها باهتة. كأغلب الأطفال في غزّة، بعض ملابسها مُتسخة، قديمة، يظهر عليها الاهتراء. الشارع كُله مليء بالأطفال والرجال والفتيات، يحملون جالونات المياه والقرَب البلاستيكيّة الصغيرة، بعض الماء ينتشر على الأرض، بعد أن غادرت المكان سيارةُ توزيع المياه.

الطفلة وإلى جانبها ثلاث قِرب لتعبئة المياه، لم تستطِع حملها لثقلها، فطلبت منّي ذلك، بعد تنبُّهها إلى أن طريقنا واحد. سيارة المياه تأتي كلَّ يومٍ في الصباح إلى هذا المكان. تبدأُ بإطلاق موسيقاها المعهودة، تتبعها موسيقى شعبيّة محلية، هي صوت الأطفال وصراخهم: "مياا ميّاا. اجت الميّا". سُرعان ما يخرج الناس من منازلهم أفواجاً كبيرة وراءَ بعض. طوابير تنتشر حولَ السيارة، التي لا تكاد تكفي العدد الهائل حولها. يتزاحمون، فمن لا يُزاحِم على الدور، لن يعودَ بالمياه الحلوة إلى عائلته، ولن يشربَ أطفاله اليوم. 

هذه هي المُعادلة، بسيطة وسهلة، لكن العالم لا يفهمها. الناس هُنا تعطش.

مشيتُ مع الطفلة في طريقي حاملاً قربتيْ مياه لها، بينما حملت هي الثالثة. مشيتُ وأنا أفكّر، لماذا تجري طفلة مثلَ هذه مع هذا الكمّ الهائل من المياه كي تُعبئه بنفسها. أين ذهب أهلها؟ أليس لها إخوة؟ أين أبوها؟ قبل وصولي إلى نقطة افتراقنا وتسليمها ماءها، فكّرت: رُبما استشهد بعضهم، ورُبما يذهب إخوتها للبحث عن لُقمة عيشهم. هذه طريقة تقسيم المهام، البعض يبحث عن العمل والآخر يبحث عن الاحتياجات اليوميّة. لكني سألت نفسي أيضاً: لماذا تتحوّل مُهمة طفلة مثل هذه إلى تعبئة المياه، بدلًا من البحث عن حلٍ لواجبها المدرسيّ؟

العديد من المناطق في مدينة غزّة، وفي كُل القطاع، بلا مياه. الحظ كتبَ لنا أن تداوم هذه السيارة على المرور يومياً إلى المنطقة. حدّثني أصدقاء عن مناطق أُخرى يعيشون فيها، لا تصل إليها سيارات المياه بهذا العدد، على الرغم من وجود أعداد كبيرة من النازحين. بعض المناطق في القطاع التي واجهت دماراً أكبر، وغيرها التي لا يسكنها كثيرٌ من الناس لسوء الخدمات فيها، كانت ملاذاً لمن لم يجد مكاناً للعيش فيه وسط هذا الرُكام.

تُعد الفترة الحالية في إغلاق المعابر، ومنع دخول المُساعدات بكلّ أشكالها إلى قطاع غزّة، الأطول منذ بدء الحرب، والأصعب. حصار شديد، مُحكم الإغلاق. أكثر من خمسين يوماً لم تدخُل زجاجة مياه واحدة إلى الناس. تبعها قطع الكهرباء عن محطات التحلية والصرف الصحي الوحيدة العاملة في وسط القطاع. تضييق كبير، محاولة أُخرى لانتهاج سياسات تكثِّف المُعاناة.

أحملُ بنفسي غالونيْ مياه، هُما الوحيدان اللذان يمُدان منزلي بالمياه الحلوة. أنقلهما إلى الطابق الخامس، تُرهَق يداي، تتعبان، لكن الأكثر من ذلك، تعبي من التفكير الطويل: ماذا سأفعل إذا توقّفت سيارة المياه هذه عن المجيء إلى الحارة؟

العديد من المناطق في مدينة غزّة وفي كُل القطاع، بلا مياه. الحظ كتبَ لنا أن تداوم هذه السيارة على المرور يومياً إلى المنطقة، باعتبارها واحدة من المناطق المكتظة بالسكان، والنازحين.. تأتي في موعدٍ يومي، تُعبِّئ المياه لمن يصِل أولًا وتُغادِر. حدّثني أصدقاءَ عن مناطق أُخرى يعيشون فيها، لا تصل إليهم سيارات المياه بهذا العدد، على الرغم من وجود أعداد كبيرة من النازحين. بعض المناطق في القطاع التي واجهت دماراً أكبر، وغيرها التي لا يسكنها كثيرٌ من الناس، لسوء الخدمات فيها، إلّا أنها كانت ملاذاً لمن لم يجد مكاناً للعيش فيه وسط هذا الرُكام.

في الأسبوع الأول من شهر نيسان/ أبريل الجاري، توقّف خط مياه "مكروت" الذي يُغذي حوالي 70 في المئة من مناطق مدينة غزة. عندَ ذلك زادت المُعاناة. أغلب الآبار وخطوط المياه في المدينة، وفي كُلّ القطاع، تمّ قصفها وتدميرها خلال العمليات العسكرية منذ بدء الحرب. عدا عن ذلك، توقّفت محطات التحلية نتيجةً لعدم توافر الوقود وانقطاع الكهرباء.

هذا طبعاً هو شيء بسيط وجزئي جداً من الاحتياج الحقيقي للمدينة والسُكان، فقد دمّر الاحتلال مُسبقاً خلال العمليات العسكرية، وأكثر من عامٍ ونصف من الحرب، حوالي 75 في المئة من إجمالي آبار المياه المركزية التابعة لبلدية غزّة، وأكثر من 100 ألف متر من شبكات المياه. هل هذا فقط؟

هذه نبذة بسيطة سريعة عن الواقع الذي خلّفته الحرب. لكن على الأرض هُناك أكثر. لم تكن تلك الشبكات تُوصل غزّة والناس بالمياه الكافية أصلاً. مثلًا كُنا ننتظر عدّة أيام قبل وصول مياه الاستخدام اليومي والشخصيّة إلى المنازل، فجدول توزيع المياه وقدرات البلديات لا تغطي احتياجات الجميع. هكذا كان الأمر بالنسبة إلى الحياة العادية قبل الحرب، فكيفَ إن تحدثنا عن الأثر الذي خلفتهُ الحرب؟ طيّب، وماذا لو تحدثنا عن تشديد وتصعيد هذا الإغلاق والحصار؟ كوارث مُتعددة ومركّبة.

المشهد اليومي للإنسان الفلسطيني في غزّة صار معروفًا. عائلات بأكملها، أطفالاً، نساءً، رجالاً، فتيات، أشخاصاً ذوي إعاقة، مُسنين، كُلهم يحملون القوارير والغالونات ويجرون وراءَ سيارات المياه، أو إلى أقرب بئر تُغذّي المناطق السكنية، وهي آبار دمّر الاحتلال نسباً كبيرة منها.

المهام اليوميّة للإنسان الغزاوي تتطلّب جهداً أكبر بكثير من الحياة الطبيعيّة للبشر. الماء هو أساس الحياة، لذلك فإنّ في جدول أنشطتك العائلية اليوميّة "الحصول على الماء". طريقة توفيره، الشخص المكلّف بالمهمة، الكمية المُحددة التي سيجلبها، إلى متى ستكفي كي يحاول أفراد العائلة التقنين والاقتصاد حتى المرّة القادمة.

هذا شيء بسيط وجزئي جداً من الاحتياج الحقيقي للمدينة والسُكان، فقد دمّر الاحتلال مُسبقاً خلال العمليات العسكرية، ولأكثر من عامٍ ونصف من الحرب، حوالي 75 في المئة من إجمالي آبار المياه المركزية التابعة لبلدية غزّة، وأكثر من 100 ألف متر من شبكات المياه. هل هذا فقط؟

المشهد اليومي في غزّة، مشهد بدائي جداً. أطفال بين الرُكام بغالونات المياه. أطفال يستحمون بالمياه في الشارع إلى جانب خيمة النزوح. أمراض وأوبئة متراكمة ومتزايدة، في قلب النزوح، مع غياب المياه.

مقالات ذات صلة

خلقتْ منّا الحرب أشخاصاً نبحث في اليوم الطبيعي العادي، عن أبسط الأشياء، عن طريقة لنعيش فقط. نبحث عن المياه، نجري خلفها، ندور يوماً طويلًا، بأحمالٍ ثقيلة كي نشرب أو كي نسُد عطش أطفالنا. هل شاهد العالم بؤساً أشد من ذلك؟

مقالات من فلسطين

يوم قال عمّال فلسطين "لا" للاستعمار

2025-05-01

الأكيد أن مطالب العمال العرب والفلسطينيين لم تكن يوماً بعيدة عن نضال التحرير التاريخي. لم يكن "إضراب الكرامة" أول تلك التحركات ولن يكون آخرها. ومن الواجب في "يوم العمال العالمي"...

فاطمة حسونة..

2025-04-17

هذه بعض الشهادات من غزة حول استشهاد الصحافية والمصورة فاطمة حسونة. هناك العشرات سواها على فيسبوك. اناس يعرفونها وآخرين لم يلتقوها ولكنهم على الرغم من ذلك "يعرفونها" بل ويكتبون فيها...

للكاتب نفسه

لكن، ماذا ينفع الكلام؟

في بعض الأيام، وصلت قرارات الإخلاء إلى أربعة. أي في القطاع، هناك أربع مناطق كان مطلوباً منها الهرب في اليوم نفسه. هرب إلى أين؟ هرب إلى المحْشر. يتمدد الجيش ويُطلق...

غزّة.. الأرض الخراب

قال كلمةً، سمعتها كثيراً: "رُدّت الروح والله". نظرَ إلى الشارع. الحارة عادت إلى حركتها، الأطفال يلعبون، أشخاص هنا وغيرهم هناك. محلات تَفتح، أناس يحاولون استعادة عملهم. حتى الناس، وإن كانت...