عائدون إلى غزة

"أستعيد في هذا النص لحظاتٍ زمنية متقطعة عاش خلالها والداي في أماكن مختلفة، إلى أن وصلا إلى غزّة؛ وجهتهما الأخيرة. في تلك اللحظة، لم تكن غزّة ذات المدينة التي تظهر حاليًا على شاشات الأخبار، مدمّرة و«غير صالحة للعيش»، كانت بالنسبة لهما وعدًا بمستقبلٍ سيأتي."
2025-04-17

شارك
شاطئ خانيونس جنوب غزة. قبل الحرب. تصوير: مجدي فتحي. أ ف ب.

بطريقةٍ شبه مستقيمة يقطع شارعُ صلاح الدين قطاع غزّة عموديًا، ويصل بين أقصى نقطتين في شمال القطاع وجنوبه؛ معبري إيرز ورفح. يوازيه من الجهة الغربية شارع الرشيد، ويصل بين ذات النقطتين مع التصاقه شبه التام بالبحر. عبرتُ أنا وأهلي هذين الشارعين مراتٍ لا تحصى لنصل بيوتًا سكناها. وقطعناهما مراتٍ قليلة لنصل منفذي غزة الشماليّ والجنوبي رائحين وقادمين إلى المدينة التي أصبحت مستقرّنا خلال الثلاثين عامًا الماضية.

في آخر مرةٍ غادرتُ فيها غزّة قبل عامين، اختارت أمي أن تقطع شارع الرشيد لإيصالي إلى معبر رفح، لأحظى بدقائقي الأخيرة متنعمة بنسيم البحر الصيفيّ المالح. حينها لم نكن نفكر بأن شيئًا أكبر من المعابر الحدودية سيفصلنا عن بعضنا. شيءٌ جلل؛ نسميه إبادةً جماعية.

قبل عام 1994، لم يخطر على بال والديّ؛ أحلام وعلاء الدين، أن حياتهما ستتقاطع في جزءٍ من مكانٍ يعرفان أنهما ينتميان إليه عن طريق وثائق سفرهما، بينما كانت حياتهما تسيرُ في طرقٍ بعيدة من مشرق المنطقة حتى مغربها. ثم حدث أن التقيا في غزّة وأسسا أسرةً صغيرة عشتُ فيها مع أختيّ، قبل أن تتفتت الأسرة، وتعود جغرافيا أكثر تعقيدًا تفصل بين أبي، أمي وأختيّ، وأنا.

أستعيد في هذا النص لحظاتٍ زمنية متقطعة عاش خلالها والداي في أماكن مختلفة، إلى أن وصلا إلى غزّة؛ وجهتهما الأخيرة. في تلك اللحظة، لم تكن غزّة ذات المدينة التي تظهر حاليًا على شاشات الأخبار، مدمّرة و«غير صالحة للعيش»، كانت بالنسبة لهما وعدًا بمستقبلٍ سيأتي.

في البدء كانت غزّة

خلال تفكيري بكتابة هذا النص أجريتُ حواراتٍ مع والديّ. يمكنني تأمين اتصالٍ دولي مع أهلي في معظم الأوقات ما لم يكونا في مكانٍ مقطوعٍ من الإرسال. أراجع معهما ما أتذكره من الحكايا عن لحظة قدومهما إلى غزّة، ولأجيب عن سؤالٍ فكرتُ فيه وأنا صغيرة طوال الوقت: لماذا أمتلك ذاكرةً مقطوعة عن غزّة؟ لماذا لا أعرف عنها ما أقرؤه حين كانت مُحتلة وقبل قدوم السلطة الفلسطينية؟

حينما كبرتُ فهمتُ أنّي ورثت هذه الذاكرة عن أهلي، فهما أيضًا لا يمتلكان معرفةً بما كانته غزّة خلال الانتفاضة الأولى مثلًا، إذ لم يكونا قادرين على دخولها قبل عام 1993. عرفتُ حينها أن والدي يمتلكان تصنيفًا إضافيًا لكونهما فلسطينيين وهو أنهما لاجئان في غزّة، و«عائدان» إليها. أي عائدان مع كوادر منظمة التحرير التي رجعت إلى أراضٍ محددة من قطاع غزّة والضفة الغربية بعد توقيع اتفاق أوسلو نهاية عام 1993.

قبل أوسلو، عاشت ماما في بغداد طوال حياتها، وعاش بابا سنواتٍ متفرقة في الكويت، ووهران، ودمشق، وحَجَة. لجأ أجدادي إلى غزّة مع عائلاتهم خلال النكبة؛ كونهم سكنوا نقاطًا قريبةً منها؛ لجأ أهل والدي من يافا، وأهل أمي من قرية هربيا في قضاء غزّة، وسرعان ما رحلت العائلتان عن غزّة في أواخر الخمسينيات. ولد والداي خارج فلسطين، وعرفا عن مدنهما وقراهما الأصلية ما يعرفه اللاجئون عن بلدانهم الأصلية؛ حكايات الفردوس الضائع، ولمحاتٌ عن التهجير.

لم تزر أحلام غزّة أبدًا، وبالنسبة لها لم يميزها شيء عن باقي فلسطين. هناك فلسطين البعيدة، تعرف علمها، يأتي أعمامها من مخيم النصيرات للدراسة في العراق في نهاية السبعينيات، فتعرف أن هناك مكانًا آخر يعيش فيه أهلٌ لها.

خلال السنوات ذاتها، قررّ أهل والدي الذهاب إلى غزّة، يزورها علاء الدين مرتيّن خلال أعوام 1974-1979، ولا يذكُرُ سوى زيارته الثانية، حين كان عمره عشر سنوات. توقفت حينها فلسطين عن كونها فكرةً بعيدة، وصارت جغرافيا مرئية وذاكرة لأهلٍ وليالٍ صيفية. تَعبُر جدتي ازدهار بأبنائها الثلاثة جسر الملك حسين وتدخل غزّة.

على الطرف الآخر من المكالمة، حين قال لي بابا إنه زار غزّة في نهاية السبعينيات، دُهِشتُ: «كيف ما قلتلّي إنك إجيت على غزّة قبل؟».

ضَحِك قائلًا: «ما بتتذكري كم قصة حكيتلك إياها عن محلاّت عمّي أبو خالد في سوق الزاوية، وبيتهم في شارع الثلاثيني؟ وأن مكان بيتكم الآن كان ضمن منطقة كبيرة ما كانت معمّرة اسمها برج الحمام، زرتها بوقتها وعلمتها من دبابة كانت متروكة في المكان؟».

كانت أوضاع الفلسطينيين في العراق مستقرة بشكلٍ نسبيّ قبل غزو الكويت، خدمات صحية وتعليمية مؤمنّة، وثائق رسميّة تتيح لهم السفر بشكلٍ محدود. لذلك عاشت أحلام حياةً عاديّة؛ لديها صديقاتٌ عراقيات نحكي معهن حتى اللحظة، ذكرياتٌ دافئة عن بغداد، وعن بيتها الذي سكنته وحدها خلال الجامعة، وبحيرة الحبانيّة وصورتها هناك طفلةً صغيرة يظهر نصفها العلوي فقط، بينما يغطي الماء الصافي نصفها الآخر.

في الجهة الأخرى، حَمَل علاء الدين وثيقة سفرٍ مصرية خلال معيشته في الكويت، مكتوبٌ عليها ملاحظة صغيرة: «لا تُخوّل هذه الوثيقة حاملها دخول أراضي جمهورية مصر العربية». بعد أن أنهى دراسته الثانوية اضطُرّ إلى مغادرة الكويت للالتحاق بالجامعة، كانت الجزائر -وحتى هذه اللحظة- تُعطي منحًا لمنظمة التحرير الفلسطينية، حصل علاء الدين عليها، وغادر إلى وهران ليدرس في جامعتها سنة 1987. لم يبدُ وقتها أن تلك خطة مصيرية، سيحصل على ليسانس اللغة العربية خلال ثلاث سنوات، وبإمكانه أن يعود بعدها إلى الكويت ويعمل مدرسًا مثلًا. كان يمكن تخيّل حياة عادية يحظى بها والدي مع عائلته التي تعيش في الكويت حتى اللحظة.

لا يسير القدر بطريقٍ مُتوقع، فكانت زيارة عام 1990 آخر مرةٍ يزور فيها علاء الدين الكويت. بعد حرب الخليج مُنِع الفلسطينيون من إصدار أي نوع من التأشيرات لدخول الكويت. أخبرني بابا أنه كان يشعر بأن تلك ستكون الزيارة الأخيرة، كان العالم/ عالمنا يغلي، ودّع أهله في ذلك الصيف وعاد لإكمال سنته الأخيرة من الدراسة.

أتخيّل بابا يكمل عامه الواحد والعشرين، تحصل حرب مثل حرب الخليج، تمنعه من العودة إلى المكان الذي وُلِد وكبر فيه. لديه عائلة هناك، ولديه وثيقةُ سفرٍ أشبه بشهادة الميلاد منها إلى جوازات السفر. عندما بدأت الحرب على غزّة كنتُ أفكر بدوران الزمان، حصلت الحرب وأنا في الدوحة لأغراض الدراسة، تبدو غزّة بعيدةً الآن، أنا وحدي وأهلي هناك. ورأيت زماننا وهو يدور، كان جدي قد غادر غزّة وحدثت النكسة ولم يعد إليها، غادر والدي الكويت وحدثت حرب الخليج ولم يعد إليها، والآن تحدث الحرب على غزّة.

خلال المكالمة، صمتنا قليلًا، وعدني كما مرات كُثُر خلال الستة عشر شهرًا الماضية أن لقاءنا قريب.

استطاع علاء الدين تأمين موافقة أمنيّةٍ لدخول سوريا بعد انتهاء دراسته، كانت له خالة تعيش في مخيم اليرموك، وكان بحاجةِ مكانٍ يبحث خلاله عما هو ممكنٌ فعله في هذه الدنيا. بعد أقل من عام حصل على ابتعاثٍ من الجمهورية اليمنية، وعمِل مُدرِسًا خلال الأعوام 1992-1996، في محافظة حَجَة شماليّ صنعاء. أحبّ اليمن كثيرًا، وصارت له بلدًا وصار أهلها أهلًا له.

حتى هذه اللحظة لم تحضر غزّة في حياة والديّ، لم تفكر أحلام ولا أهلها بترك العراق خلال الحرب أو الحصار، كانت تلك البلاد المألوفة لهم، ويحبونها حتى اللحظة. كان والدي يقضي سنواته في التدريس ويصيّف في دمشق، يلتقي أهله مرّة هناك سنة 1995 تحديدًا. وخلال تلك الزيارة تخبره خالته أنها رتبت أوراقها، برفقةِ عائلة أختها التي تعيش في مصر، ليعودوا إلى غزّة.

إعادة وصل الأزمنة المنقطعة

خلال مكالماتي مع أهلي كنت أوارب السؤال، أدور حوله، أريد أن أفهم كيف -فجأةً- حين كانت الحياة تمشي برتابة، أصبحت غزّة هي خيار الاستقرار والعيش. لم يستطع والدايّ التفاعل مع السؤال، بدا لي الأمر وكأن الخيار المنطقي الوحيد هو أن يعود المرء إلى بلده، حتى وإن لم يرَها قبل ذلك، حتى وإن كانت مُحتلة، ومستقبلها ضبابيًا. يمشي المرء في طرقٍ لكي يعود، فعلٌ بديهي. بدأت تترتب الظروف ليصل أهلي إلى غزّة.

لم تشمل العودة بعد أوسلو ملايين الفلسطينيين في الشتات. عادت بالدرجة الأولى كوادر المنظمة والمُسجلين في أجهزتها، وقوات جيش التحرير الفلسطيني التابع لها. عاد جدّي لأمي مع كوادر المنظمة. كانت أحلام في سنتها الجامعيّة الأولى حين طلب والدها أن تتحرك من بغداد إلى الأردن، وتقطع جسر الملك حسين إلى غزّة؛ هذه المرة الأولى التي تزورها فيه. في صيف 1995 وصلت لغزّة عن طريق أريحا، كانت زيارة مؤقتة لتستلم خلالها رقمها الوطني، وتحمل رسميًا الهوية الوطنية الفلسطينية خضراء اللون.

أطلب من ماما أن تصف لي طريق العودة، تشاهد غزّة للمرة الأولى في العشرين من عمرها: «كان الجو حرّ وقت وصلنا أريحا، كان غريب إني أشوف لأول مرة الجنود الإسرائيليين، مختلف عن مشاهد التلفزيون».

«خفتِ؟» أسألها. «لا ما كان في خوف، كان غريب وقاسي أن هذه بلادك، وأنها محتلة، شوفة الجنود خلتني أحس بهذه الحقيقة بطريقة مختلفة. (..) وصلت بعدها إلى معبر إيرز، أول شي شفته من غزّة كان بيت حانون، كانت بسيطة ومختلفة كتير عن بغداد. استقبلني عمّي وطول الطريق يخبرني عن أماكن بيوت أهالي أصدقائنا الذين عاشوا معنا في بغداد. قطعنا طريق صلاح الدين لعند ما وصلنا إلى بيت تيتا (جدتي) بالنصيرات. أكثر شي حبيته بغزّة هو الجلوس مع تيتا، حبيت هذا الشعور».

مرّت ثلاث سنوات قبل أن تعود إلى غزّة مرةً أخرى، عن طريق مطار غزّة الدولي الذي كان قد افتُتِح حديثًا، وهناك خطٌ للطيران من الأردن إلى غزّة مباشرةً. ودّعَت بغداد مرّةً أخيرة.

استأجر جدي بيتًا في شارع يافا في مدينة غزّة، هذا البيت الذي سكنته أحلام مع أهلها. عملِت موظفةً في وزارة العمل، في مقرها في أبو خضرة، كان هذا مجمع الوزارات الحكومية حين وصلت السلطة الوطنية، وظلّ حتى ما قبل الحرب يضم مقراتٍ حكومية.

امتلكت أحلام حياةً جديدةً تمامًا، بلدٌ جديد ووظيفة ومشروعُ زواج. أشهرٌ قليلة بعد أن استقرّت مع أهلها حتى خُطبت لعلاء الدين الذي كان قد امتلك بيتًا بالفعل، وبدأت حياته بالاستقرار منذ عامين في غزّة. لأول مرّة منذ أن غادر الكويت يكون لوالدي بيت، هو البيت الذي سنسكن فيه لاحقًا 12 سنة في الجهة الغربية من مدينة غزّة في حيّ الشيخ رضوان.

اشترك والداي في حبهما للشوارع، عمر المختار والثلاثيني تحديدًا، وهي الشوارع التي يتوسطها مجمع أبو خضرة حيث عملا في الفترة الأولى لوصولهما. أدهشهما البحر في غزّة لحظة وصولهما. يوازي المدينة المكتظة برحابته. ومع ذلك اقتصرت علاقة أهلي بالبحر على زيارته القليلة مع عائلاتهما الأوسع. لكن رغم هذا يوجد البحر في الخلفية دائمًا، يطُل عليه مطعمهما المفضل خلال الخطبة وسنوات الزواج الأولى: اللاميراج، ونمتلك صورًا فيه: ماما وبابا وأنا لم أكمل العام الأول بعد.

لم يعد علاء الدين بظروفٍ مشابهة لتلك التي عادت ضمنها أحلام. سنة 1996 أصدرَت خالاته تصريحًا يخوّله دخول قطاع غزّة. سُميت هذه تصاريح زيارة، وكانت تُعطى لمدة ثلاثين يومًا مع إمكانية التجديد لثلاثة أشهر. رجع بعد 17 عامًا إلى غزّة، هذه المرة عن طريق معبر رفح البري، لا يمتلك من حياته المتنقلة سوى وثيقته المصرية، وعزمه بأنه لن يغادر «بلده» بعد هذه اللحظة.

ظلّ علاء الدين في بيته في شارع النصر غربيّ مدينة غزّة خلال الحرب الحالية، لم يقنعه رجائي بالنزوح جنوبًا بعد الأسبوع الأول من الحرب. كان قلبي يغلي، لم أفهم معنى أن يكون على كل الغزيّين الساكنين فيما أسمته «إسرائيل» لاحقًا شمال غزّة، أن يغادروا إلى جنوبها، ومع ذلك لم أفكر إلا في رغبتي بأن يكون بابا سالِمًا، ورجوته مرارًا أن ينزح جنوبًا. في إحدى المكالمات، وبصوتٍ هادئ، أخبرني: «بابا، أنا لن أغادر مدينة غزّة». لم أكتب هذه الجملة بالفصحى لأجل المقال، هكذا قالها، وبهدوء. ولم أفتح معه الموضوع مرّةً أخرى، حتى وهو يظلّ في مكانه بالرغم من أوامر الإخلاء التي يتداولها الناس لمنطقته على الإنترنت.

في مكالماتٍ أخرى، قال لي: «ما رح أكرر الخروج مرّة ثانية تبع سيدي ووالدي. الموضوع ما كان بده تفكير طويل، ما كان بينفع كلنا نترك غزّة. ببساطة كان هذا تفكيري، وكان عليّ تحمل مسؤوليته». أبتَسمُ على الهاتف، أعرف هذا العِناد. لم يقبل بابا بأي فكرةٍ لمغادرة غزّة طوال سنوات حياتنا. بعد إقناعٍ طويل من العائلة سنة 2012 زرنا الأردن زيارةً سريعة ليرَى والده؛ جدي الذي كان في الثمانينيات من عمره، ولم يرَ ابنه منذ ما يقارب العشرين عامًا.

أعرف أن لبابا موقفًا متشددًا من فكرة ترك غزّة، «هذه بلدنا، بدون فلسفة»، كان هذا رده البديهي حين ترك غزّة الكثير من موظفي السلطة بعد الانقسام، أو خلال سنوات الهجرة إلى أوروبا بعد 2014. كانت غزة هي الجزء المتاح لنا من الوطن في هذه اللحظة، يخبرني بابا. كما كانت المكان الذي «ودّع فيه الحقائب والسفر» الطويل والمضني بحثًا عن مكانٍ في هذا العالم. فهمتُ موقفه عندما غادرتُ.

خلال سنواتي الأولى في المدرسة، تسألني المعلمة في اليوم الأول: أين والدكِ؟، أجيبُ ببلاهة في العمل! تعيد صياغة السؤال: يعيش معكم في البيت؟ وأجيب نعم. تسألني عن سبب إدراجي على هويّة أمي فقط، ولا أعرف كيف أجيب على هذا السؤال، وأنقله لوالدي.

وصل علاء الدين غزة في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل في أحد أيام صيف 1996، وانتظر الصباح، ليتأكد من أن ذكرياته ما زالت حيّة عن الشوارع والسوق والكنافة الغزاوية. أخبرني وهو يضحك أنه كان يحب تلك الفترة أن يتحرّك دون أن يحمل وثيقته التعريفية لأنه لن يضطر أن يبرر وجوده لأحدٍ هنا. لن تطول هذه الفترة، فبعد الأشهر الثلاثة التي أعقبت تجديد تصريح الزيارة، كان قد سُجِل اسم والدي مع كشوفاتٍ كثيرة لأشخاص يطلبون إصدار أرقامهم الوطنية. تُقَدمُ الأوراق لمقر الشؤون المدنية الواقع في منطقة حيدر عبد الشافي في غزّة، كُنّا قد زرنا هذا المكان مراتٍ عديدة نسأل عن حالة الطلب ونعود بدون جواب في كل مرّة.

أصبح وجوده في غزّة غير قانوني، وهو ما كان يعني أنه غير قادرٍ على عبور الحاجزين الإسرائيليين في قطاع غزّة، أبو هولي في محافظة الوسطى، وحاجز المطاحن أو محفوظة في خانيونس. تقلّصت المساحة التي يمكن له أن يصلها لتكون في حدود غزّة المدينة ومحافظة القطاع الشمالية فقط. كان يمتلك وثيقةً تعريفية زرقاء اللون، أصدرتها السلطة الفلسطينية وهي أيضًا تنويعةٌ على شهادات الميلاد التي يهدف منها إثبات اسم الشخص وميلاده فقط.

سنة 2001 خرج من مدينة غزّة إلى مناطق في المحافظة الوسطى وخانيونس، ضمن وفدٍ دبلوماسي زار وزارة الإعلام حيث يعمل. لم يخرج من السيارة التي تُعفى من التفتيش. جالسًا في أحد مقاعد السيارات مرّ علاء الدين على الأراضي التي تقع ضمن قطاع غزّة ويحرم من زيارتها.

تغيّر هذا مع خروج المستوطنين من قطاع غزّة عام 2005. أمتلك ذاكرةً ضبابية عن ذلك اليوم، كنتُ أسأل بابا إن كنا فعلًا شاهدنا تغطية خروج الدبابات من غزّة على التلفزيون، وأخبرني أن ذلك ما حصل فعلًا. تأخرنا يومها عن الوصول؛ هو وماما إلى أعمالهما، وأنا وأختي إلى المدرسة. طلب من ماما تأمين وصولنا. وفي الساعة التاسعة صباحًا يغادر علاء الدين برفقة زميلٍ عزيزٍ له في العمل، يمتلك سيارة فولكس فاجن ليعبر كامل جغرافية قطاع غزّة، «من السلك للسلك، شفت غزّة كلها مرة ثانية» يقول لي.

العودة إلى غزة

في بيتنا الحالي في شارع القدس غربي غزّة، نمتلك ألبوم صورٍ لرحلةٍ زرنا فيها المناطق التي أخلتها «إسرائيل» في غزّة، كنا نسميها مُحَرَرات. في رأسي دائمًا صورةٌ لنا في حضن جدتي، أنا وأختي، على رمل البحر، تبتسم هي من بعيد، وأكمل شريطًا مصورًا في عقلي لباقي أسرتنا الصغيرة وهي تزور هذه الشواطئ للمرة الأولى.

لم تفكر ماما حقًا في فكرة النزوح من غزّة إلى الجنوب، طلب منها خالي أن تأتيَ إلى بيته بعد يوم الحرب الأول، وفي التاسع من أكتوبر سُويت المنطقة التي نسكنها بالأرض. ظلّت ماما في مخيم النصيرات تسكن مع أختيّ في منزلٍ مستأجرٍ بسيط بجانب بيت أعمامها. خلال الهدنة الأولى في تشرين الثاني 2023، لم تطق حقيقة أن هذه الهدنة لا تضمن لها أن تعود إلى بيتها حتى وهو خراب. ظلت تعد مع أختيّ الأيام لتعودا إليها.

لم تكن رحلة والديّ سهلة في غزّة، مرّت علينا أوقات عصيبة خلال الحصار والحروب، قضى أهلي وقتًا أطول لاستيعاب مجتمعاتهما الجديدة، وكيف يمكنهم التعامل مع توتر الداخل والخارج، وما الذي يعنيه حملهما لصفة «عائدين». يتذكران بحنين ماضيهما الذي أورثانا إياه لأزمنةٍ ماضية في بلادٍ اختلفت كثيرًا الآن عمّا كانت عليه.

بدأتُ الكتابة ساعيةً لأن أجيب على أسئلتي عن العودة ومعناها، عودة ماما وأختيّ إلى بيتنا في مدينة غزّة بعد نزوحٍ طويل، معالجتهنّ كيفما اتفق للأضرار التي خلفتها الاقتحامات الإسرائيلية ثلاث مراتٍ للمنطقة. وانتظاري أنا للعودة، بينما تبعدُ غزّة عني، وتؤجل عودتي إليها إلى موعد لا أعرفه، تمامًا مثل والديّ. خلال أيامي، أعود دائمًا إلى الذكرى؛ أدرّب عقلي على استعادة ملامح المدينة، أمشي في شوارعها، أقابل من يفترض أن أقابلهم فيها، أحارب جعل غزّة خرافة قديمة آمنت بها أنا وأسرتي الصغيرة. غزّة المكان الوحيد الذي نملك حوله ذاكرة مشتركة، وأمِلنا دومًا أن نعود إليه.

مقالات من فلسطين

فاطمة حسونة..

2025-04-17

هذه بعض الشهادات من غزة حول استشهاد الصحافية والمصورة فاطمة حسونة. هناك العشرات سواها على فيسبوك. اناس يعرفونها وآخرين لم يلتقوها ولكنهم على الرغم من ذلك "يعرفونها" بل ويكتبون فيها...

لكن، ماذا ينفع الكلام؟

في بعض الأيام، وصلت قرارات الإخلاء إلى أربعة. أي في القطاع، هناك أربع مناطق كان مطلوباً منها الهرب في اليوم نفسه. هرب إلى أين؟ هرب إلى المحْشر. يتمدد الجيش ويُطلق...

مسؤوليت(نا)!

2025-04-10

"عارٌ عليك"، صرخت ابتهال، متّهِمة سليمان وشركة "مايكروسوفت" بالمشاركة بشكل مباشر في صنع الإبادة الجماعية في قطاع غزة. طالبت المدير التنفيذي للقسم: "توقف عن دعم الإبادة يا مصطفى"، ووجهت الاتهام...