لكن، ماذا ينفع الكلام؟

في بعض الأيام، وصلت قرارات الإخلاء إلى أربعة. أي في القطاع، هناك أربع مناطق كان مطلوباً منها الهرب في اليوم نفسه. هرب إلى أين؟ هرب إلى المحْشر. يتمدد الجيش ويُطلق قرارات الإخلاء، يتمدد من شرق المدينة باتجاه الغرب. من جنوبها باتجاه الشمال. يدفع بالناس إلى الغرب. يضغطهم أكثر. إما أن تُقتَلوا جوعاً وقهراً، وإمّا أن تموتوا بصواريخنا.
2025-04-14

المقداد جميل مقداد

كاتب وباحث من غزة


شارك
بعد قصف مستشفى المعمداني في غزة

أحاول منذ مدةٍ طويلة، ومنذ عودة حرب الإبادة على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزّة، أن أكتُب. تبدو المحاولة مُستعصية، ولم أعرف حالةً لا أتشجّع فيها على الكتابة مثل هذه، على الرغم من أن هذا الوقت في رأيي، هو الأكثر حاجةً إلى أن يكتُب الناس، خاصة مِن مِثلي داخل قطاع غزّة، يوثّقون المشاهد اليوميّة للإبادة والقصف المكثّف.

المهمة صعبة للغاية. أتحوّل قليلاً إلى نشر وتوثيق أخبار الإبادة عبر حسابي في "إكس". أحوّل حسابي في "انستغرام" إلى مساحةٍ لمشاركة رأيي الضيّق والبسيط والغاضب من الآراء المختلفة، وكُل ما يشوِّش صفاء توثيق الإبادة، بآراءَ شاذّة عن فلسطينيّتنا. 

أتمدّدُ في يومي على السرير طويلاً، لا أستيقظ إلا لأشرب القهوة وأداء بعض المهام الضرورية في إطار عملي. كُلما سنحت فرصة، أعود لأتمدّد قليلاً. ما السر؟ أسأل نفسي. هل هي رغبة الهروب من الواقع؟ هل هو الألم الغائر الذي غرسته عودة الحرب المؤلمة في قلوبنا؟ كانت عودة الحرب أسوأ وأصعب نفسياً على الناس هُنا من المرحلة السابقة، أي طوال السنة من الحرب التي سبقت اتفاق وقف إطلاق النار.

عشنا أكثر من اثنين وأربعين يوماً في هدوء وسلام، على الرغم من أن كثيرين كانوا يموتون. أهل "رفح" لا يستطيعون العودة إلى منازلهم، الناس في الخيم على جوانب الطرقات، البحث عن المياه، طوابير الخُبز، العيش تحتَ الرُّكام، مشكلة المواصلات. كُلها أزمات متواصلة خلال التهدئة، التي كانت وقتاً مستقطعاً للبحث عن الحياة، ولمحاولة ترميم جدار العيش المتهالك الذي تسبّبت فيه الحرب. 

في كلّ الأحوال تصير المهمة سهلة: من بقي في الشرق، على الرغم من أوامر الإخلاء فهو مستهدَف، لأنه "إرهابي" مكتوبٌ عليه الموت، كما يراهُ جيش الاحتلال. أمّا المتكدِس فوق الآخرين في الغرب، فمكتوبٌ عليه النزوح، والموت بسهولة. فأيّ صاروخٍ بسيط يعني أنه أخذ دستةً من الناس معاً، من ضيق المكان.

عاد الناس خلاله إلى أماكنهم، أنشأوا خيماً، عاشوا في غرفة شبه متهالكة في منزلٍ مقصوف، تعايشوا مع الغبار الدائم الذي يملأ الجو، من أثر القصف والحرب وأضرار الصواريخ. لكنهم حاولوا. حاولنا أن نعيش، أن نتعايش مع المُحيط المؤلم، مع جبال القمامة والرُّكام، في سبيل ألّا نموت. تذوّقنا قليلاً طعم الحياة. 

هل هي حياة؟ لا! لكنها حياة بمقياس فترة العام ونصف العام الماضية، حياة تصحو فيها بدون صوت الصواريخ، وبلا وداعات الأم لأبنائها قبل ذهابهم إلى عملهم. حياة تطمئن فيها إلى أنك تحتضن طفلكَ قبل مغادرة البيت، وأنك ستعود لتحضنهُ مرةً أخرى.

فجأة، عادت الحرب. استيقظنا في منتصف الليل، وقبل منبه السحور الرمضاني، على أصوات الانفجارات الجنونيّة التي لم نشهد لها مثيلاً من قبل. الموت من حولنا، تَشاهدنا، انكمشنا على أنفسنا، تجمّعنا معاً. عرفنا أن النهاية قريبة. أدركتُ في داخلي من دون أن أحكي لأحد، أن هناك ألماً بدأ يتسرّب بهدوءٍ إلى شراييني، يُشبه سريان الدم، ألم أن الحرب عادت، وأن هذه العودة بهذا الشكل، ستجعل نهايتها صعبة، وأننا عُدنا إلى تلك الدوامة: القصف والموت المتلاحق، الأسئلة والاتصالات فور سماع  انفجار. تتصل بأخيك، تُكلم أمك، تطمئن على صديقك. تسمع الأخبار، تبحث عن خبر حول التهدئة، تدور بحثاً عن وفد مفاوض، عن تصريحات الوسطاء، عن مواعيد نُعلّق عليها الأمل الكاذب.

آآه! أي ألمٍ هذا يا هذا الكوكب؟ إنها اللحظات التي شعرنا بها جميعاً فور عودة الحرب. ثم عاد الناس إلى مآسيهم الكثيرة. البحث عن الطعام، والغلاء الفاحش، ونقص البضائع، واستبدال الطعام الطازج بالمُعلبات المؤذية وذات الطعم السيء. ثم التكدس وراء المحلات لإفراغ ما فيها للتخزين. وأي تخزين؟ هل التخزين شهراً أو اثنين؟ ثم نعود إلى المجاعة.

كانت عودة الحرب أصعب نفسياً على الناس هُنا من المرحلة السابقة، أي طوال السنة من الحرب التي سبقت اتفاق وقف إطلاق النار. عُدنا إلى تلك الدوامة: القصف والموت المتلاحق، الأسئلة والاتصالات فور سماع  انفجار. تتصل بأخيك، تُكلم أمك، تطمئن على صديقك. تسمع الأخبار، تبحث عن خبر حول التهدئة، تدور بحثاً عن وفد مفاوض، عن تصريحات الوسطاء، عن مواعيد نُعلّق عليها الأمل الكاذب. 

أتمددُ على سريري كُلما رغبت، كلما حانت فرصة، أعود لأسأل: ما السر؟ رُبما هي أيضاً رغبةٌ أخرى غير الهرب، رغبة داخلية عميقة. رغبة في أن أتمسّك بسريري كثيراً، لأنني أُدرك في داخلي أنني قد أفقده في أيّة لحظة. أنه يُمكن أن أنزح مثل أكثر من أربعمئة ألف شخص آخرين نزحوا خلال نحو شهر، تركوا منازلهم أو خيمهم وهربوا في زحمة قرارات الإخلاء المتراكِمة والمُتجدِدة. في بعض الأيام، وصلت قرارات الإخلاء الى أربعة. أي في القطاع، هناك أربع مناطق كان مطلوباً منها الهرب في اليوم نفسه.

هرب إلى أين؟ هرب إلى المحشر. يتمدد الجيش ويُطلق قرارات الإخلاء، يتمدد من شرق المدينة تجاه الغرب. من جنوبها تجاه الشمال. يدفع بالناس نحو الغرب. يضغطهم أكثر. إما أن تُقْتَلوا جوعاً وقهراً، وإمّا أن تموتوا بصواريخنا. في كلّ الأحوال تصير المهمة سهلة، من بقي في الشرق على الرغم من أوامر الإخلاء فهو مستهدف، إنه "إرهابي" مكتوبٌ عليه الموت، كما يراهُ جيش الاحتلال. أمّا المتكدس فوق الآخرين في الغرب، فمكتوبٌ عليه النزوح، والموت بسهولة، فأيّ صاروخٍ بسيط يعني أنه أخذ دستةً من الناس معاً، من ضيق المكان.

عن ماذا أكتب وكيف أكتب؟ وهذه شذرات بسيطة من جبل المُعاناة المُتمدد المتكوِّم فوق بعضه البعض كلّ صباح. عن طفلتي الصغيرة، التي أتأملُ وجهها كلّ صباح، أحتضنها، أُقبّلها، أقول لها: "أعطيني حُضن. أعطيني بوسة". لعلي أشبعُ قليلًا منها، فأنا أعرفُ - ويا لسوء تفكيري الوحشي- أننا يُمكن أن نموت في أيّة لحظة، فماذا يختلفُ عني الشخص الذي مرّ في الشارع حاملًا زجاجة ماء، في طريقه إلى تعبئتها كي يشرب، قبل أن يُصيبه الصاروخ الذي سقط بجانبه؟

إنهُ الموت الذي يُلاحقنا في كلّ مكان، إنه الكابوس الذي لا يرحمنا. الكابوس الذي غابَ قليلاً، وعادَ بسرعة، كي يُكْمل على ما تبقى من المدينة وأهلها!

مقالات من فلسطين

مسؤوليت(نا)!

2025-04-10

"عارٌ عليك"، صرخت ابتهال، متّهِمة سليمان وشركة "مايكروسوفت" بالمشاركة بشكل مباشر في صنع الإبادة الجماعية في قطاع غزة. طالبت المدير التنفيذي للقسم: "توقف عن دعم الإبادة يا مصطفى"، ووجهت الاتهام...

التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية: استراتيجيات عسكرية موسعة وتهديدات بالضم

في إطار المتابعة الحثيثة التي يقوم بها "معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني- (ماس)" لمتابعة التطورات، ورصد تأثيراتها، أعد المعهد ورقة خلفية لأولى جلسات "سلسلة الطاولة المستديرة" لهذا العام، صدرتْ في...

سلام "ترامب" الاقتصادي الجديد: من إدارة الصراع إلى تصفية القضية الفلسطينية

ليس الأمريكان الوحيدين الذين لديهم خطط استثمارية وعقارية لقطاع غزة، بعد إعادة احتلاله وتطهيره من حماس، والاستيلاء عليه، حيث بادرت مجموعة عقارية استثمارية إماراتية إلى طرح رؤية أكثر تفصيلية للفكرة...

للكاتب نفسه

غزّة.. الأرض الخراب

قال كلمةً، سمعتها كثيراً: "رُدّت الروح والله". نظرَ إلى الشارع. الحارة عادت إلى حركتها، الأطفال يلعبون، أشخاص هنا وغيرهم هناك. محلات تَفتح، أناس يحاولون استعادة عملهم. حتى الناس، وإن كانت...

أفواجُ العودة

حانت لحظةُ العودة. طوفانٌ هائل من الناس مضى في طريقه، فور الإعلان عن انسحاب القوات الإسرائيلية. وبعد حوالي نصف ساعة، كان أوّلُ العائدين يدخل إلى مدينة غزّة. نام عشرات الآلاف...