الديار النابلسية بعيون سلافية (2)
فرانتيشيك كليمنت: أهل نابلس شديدو الغضب والتمرد

يرى "كليمنت" أن "الناس لا يقصدون فلسطين للترفيه عن أنفسهم، ولكن بهدف الاستكشاف والمعرفة، ونستثني من ذلك الحجاج المتدينين... وهو يرفض التوجه الصهيوني الرامي إلى استعمار فلسطين، يقول: "إن فكرة استعمار فلسطين باليهود فكرة خاطئة تماماً. إن تحويل هذه الأرض إلى إمبراطورية يهودية جديدة هو محض هراء".
2025-03-13

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
غلاف كتاب "فلسطين" الصادر في براغ سنة 1895

في كتابه "فلسطين"، المنشور في مدينة براغ سنة 1895، رغب الكاتب التشيكي فرانتيشيك كليمنت (1851-1933)، في مخالفة الطريقة التقليدية في الكتابة عن الأراضي المقدسة، أو على حد تعبيره: "بكلمات بسيطة وغير معقدة، ومن دون الحجاب التقليدي المثالي الذي ألقى به الكتّاب على هذه البلاد. ووراء المناظر الطبيعية، أريد أن أصوّر فلسطين، غير آبه بالحساسية المفرطة لبعض الدوائر التي تقلل من شأن البحث الحديث". كتب ذلك في أيار/ مايو 1893، بعد عدد من الرحلات إلى بلادنا في ثمانينيات القرن التاسع عشر.

ولد "كليمنت" قرب مدينة براغ. كان والده عامل بناء، إلا أنه حرص على أن ينهي ابنه المدرسة الثانوية كي يشق طريقه في الحياة. التحق الفتى بخدمة الأرشيدوق والرحالة "لويس سلفاتور توسكانا"، الذي كان عالِماً إثنوغرافياً وكاتباً مشهوراً، وأحد أكثر الأشخاص سفراً في عصره. رافقه في سفره إلى عدة دول أوروبية قبل أن يزور السلطنة العثمانية وشمال أفريقيا. لم يكتب "كليمنت" عن رحلاته إلا بعد عودته إلى براغ سنة 1876، فوصف بشكل أساسي البلدان الشرقية التي زارها. وأظهر في نصوصه موهبته في الرصد، ولم يتأثر محتوى كتبه بالغرابة الأدبية السائدة في ذلك الوقت، وكان يستخدم الاسم الأدبي "كويدو مانسفيت". أعمال "كليمنت" التي لم تترجم إلى أي لغة أخرى، ومنها "من يافا إلى القدس" (1894)، و"فلسطين" (1895)، و"من ريح الحريم والصحاري" (1909)، والقصص التي نشرها في مجلة "كفيتي"، لا تزال ذات قيمة معرفية لدى الباحثين التشيكيين حتى اليوم.

يميز "كليمنت" في كتابه "فلسطين" بين شخصيات السيّاح والرحالة في فلسطين، يقول: "خلال الإقامة الطويلة في الشرق، يتعرف المسافر إلى شخصيات مختلفة للعديد من السيّاح. إلا أن معظمهم يعمل وفقاً للوصفات المدْرجة في الكتيبات الإرشادية، ونادراً ما ينحرفون عن المسارات المألوفة للسياح الذين سبقوهم. جزء ضئيل جداً من السياح يسافر وفق مزاج خاص، وبشكل مستقل، غير آبه بالكتيبات المطبوعة. النوع الأول من السياح أكثر هدوءاً وراحة، ويلتزم بالتعليمات، أما الثاني فأكثر جرأة ويبحث عن المغامرة في دروب غير معروفة. يتسم تعامل الأول مع العرب بالخجل وعدم الراحة، بل ويتجنبهم في كثير من الأحيان، بينما الثاني يشعر بالأمان في صحبتهم، ويستمتع بالضيافة في جوار خيامهم، وبالبندقية على كتفه، وقد يلعب أحياناً دور البدوي فيلتفع العباءة العربية ويعتمر طربوشاً ملفوفاً بوشاح حريري".

وعن الهدف من السفر إلى فلسطين، يرى "كليمنت" أن "الناس لا يقصدون فلسطين للترفيه عن أنفسهم، ولكن بهدف الاستكشاف والمعرفة، ونستثني من ذلك الحجاج المتدينين. ومن المؤكد أن الشخص الذي يستعد بجد لهذه الرحلة، عليه إتقان اللغة العربية إلى درجة تجعل التواصل مع السكان العرب ميسراً، فعليه أن يحفظ عن ظهر قلب مئتي جملة قصيرة وعدداً من الكلمات للاستخدام اليومي، وستكون كافية بناء على تجربتنا الخاصة. وإذا ما انغمس المسافر جزئياً في عادات العرب وأعرافهم، فستكون حصيلة رحلته مهمة جداً ومضمونة مسبقاً". ويقدم للقراء جملة من النصائح المهمة وعرضاً للأغراض واللوازم المطلوبة لإتمام الرحلة.

فرانتيشيك كليمنت (1851-1933)

يرفض "كليمنت" التوجه الصهيوني الرامي إلى استعمار فلسطين، يقول: "إن فكرة استعمار فلسطين باليهود فكرة خاطئة تماماً. إن تحويل هذه الأرض إلى إمبراطورية يهودية جديدة هو محض هراء". يضيف في وصف ما آلت إليه البلاد: "فلسطين في أيامنا هذه ليست سوى أرض للدعاية الدينية لجميع الطوائف المسيحية. لا يوجد أي جزء آخر من العالم يقدم مثل هذا المزيج المتنوع من المعتقدات المتعارِضة بشدة، وعدائية، مثل هذا البلد بشكل عام، والقدس، باعتبارها المركز الرئيسي لهم جميعاً، بشكل خاص. هنا يُتاجَر بالدين، هنا تجري عملية صيد حقيقية للأرواح البشرية، هنا يتسابق أتباع الطوائف إلى شراء أتباع جدد، وبعض الطوائف لا تتردد في استخدام أي وسيلة لزيادة عدد أتباعها".

عن الرحلة في الديار النابلسية، انطلاقاً من القدس وصولاً إلى مرج بني عامر، بعد مروره بنابلس وجنين، ننتقي مقتطفات من نص "فرانتيشيك كليمنت"، كما هي، كونها تعكس وجهة نظر الكاتب وحساسيات المرحلة التي زار فيها بلادنا.

الانطلاق من القدس

يقول: من حسن الحظ، أننا بينما كنا نبحث عن دليل، التقينا بالسيد توتري من الناصرة، وهو أفضل مرشد لهذه الرحلة. يعرف هذا الدليل البشوش كل البدو تقريباً، ويحافظ على علاقات ودية مع الفلاحين، ويشكل ذلك أثناء الرحلة ضمانة السلامة لكل غريب. وبدون اتفاق قنصلي، وعبر المصافحة فقط، رتبنا كل التفاصيل مع السيد توتري، وحصلنا على المؤن اللازمة، وفي اليوم التالي انطلقنا في الساعة السادسة صباحاً عبر البوابة المؤدية إلى دمشق... ألقينا نظرة طويلة أخيرة على مدينة القدس المجيدة، ثم عدونا بخيولنا بسرعة عبر المرتفعات المسطّحة نحو قرية شعفاط، ومن هناك إلى الشمال...

وصلنا إلى قرية جفنا، وهي قرية صغيرة للمسيحيين اليونانيين [الروم الأرثوذكس] والكاثوليك، تقع في وادٍ لطيف بين العديد من حدائق أشجار التين والزيتون، ويبلغ عدد سكانها حوالي 440 نسمة، ولديهم كنيستان جيدتا الصيانة ولائقتان. كانت الساعة الحادية عشرة والنصف، وبما أنه كان من الضروري إعطاء الحصان قسطاً من الراحة المستحَقة، ومنح معداتنا غداءً مناسباً، فقد كان الإفطار أثناء الرحلة بارداً. استغرق توقفنا ساعة ونصف الساعة، وفي الواحدة انطلقنا، تاركين خيامنا في هذا المكان، إلى تبنة... وعلى الرغم من الحرارة الشديدة، ركضت بنا الأحصنة بسرعة نحو قرية بيرزيت القريبة، عبر الوادي الذي يقع فوقه إلى الشمال مزار مقبَّب للعرب، وأخيراً اتجهنا إلى مرتفعات تبنة، حيث توقفنا عند الأطلال، أقرب إلى شجرة البلوط الضخمة، بعد مسيرة سريعة استمرت ثلاث ساعات... إن منظر هذه المنطقة الواسعة جميل جداً من هذا المكان، وفي البعيد يتراءى سطح البحر المتوسط. وبعد ساعة عدنا إلى جفنا، فوصلنا في ظلام دامس بعد الساعة الثامنة مساء، حيث استقبلنا حشد كبير من السكان بكل سرور، وزودونا بالدجاج اللازم للعشاء. سعت النساء الفضوليات، على وجه الخصوص، إلى جعل إقامتنا ممتعة قدر الإمكان، وأمطرن توتري بأسئلة محددة، لكنه لم يفشل أبداً في الإجابة عليها. وبشكل عام، كان هذا الناصري البسيط والمرح بمثابة نبع لا ينضب من كل أنواع القصص من حياته الملونة بين البدو في لواء نابلس والجليل.

يقول: "هنا يُتاجَر بالدين، هنا تجري عملية صيد حقيقية للأرواح البشرية، هنا يتسابق أتباع الطوائف إلى شراء أتباع جدد، وبعض الطوائف لا تتردد في استخدام أي وسيلة لزيادة عدد أتباعها".

في وادي اللبن، وهو واسع جداً، ومغطى بشكل جميل بالشجيرات والأشجار بسبب ينابيعه الممتازة، وجدنا عشرة من البدو يتجمعون عند البئر الرئيسة. نظروا إلينا بغرابة، وحتى بقسوة، وبدون الإجابة على أسئلة دليلنا، ثم هرولوا بعد بضع دقائق في اتجاه رحلتنا التالية نفسه. من النظرة الأولى، كان من الممكن أن نقول إن هذا اللقاء لم يكن لطيفاً بالنسبة إلى توتري، وعندما وضع بندقيته على السرج أمامه بعد انطلاقنا، فعلنا الشيء نفسه من دون أوامر. وبقدر ما أمكننا من الحرص والانتباه الشديد، انحدرنا نحو الوادي من أعلى التلال، ثم صعدنا إلى قمة شديدة الانحدار لسلسلة جبال وعرة، فتمكنا من رؤية جبلي عيبال والطور، وفي البعيد جبل حرمون العظيم. تحتنا سهل واسع للغاية، وهو مغطى بالقرى هنا وهناك، تتدفق إليها المياه من وديان عديدة من جميع الجهات. بعد الرحلة المرهقة، نزلنا عبر واد شديد الانحدار يشبه الحوض إلى "سهل يعقوب"، وبما أن السادة البدو ربما لم يكن لديهم أي نية في "تحيتنا" بأي شكل من الأشكال، فقد قررنا أن نريح أنفسنا من عناء السلاح، فعلقنا بنادقنا على ظهورنا من جديد... ابتداءً من منتصف شهر حزيران/ يونيو، يصبح ركوب الخيل أكثر راحة عبر السهل، ولكن حتى ذلك الحين، من الضروري الخوض في المستنقعات هنا وهناك، وهو أمر غير صحي ومرهق. في الطرف الشمالي الغربي من السهل، ينحني الطريق إلى اليسار بين جبلي الطور وعيبال الشهيرين، اللذين يشكلان ممراً واسعاً.

في نابلس وجنين

إلى الشمال، يقودنا المسار إلى نابلس، عبر الثكنات التركية والمباني الأخرى على طول طريق جميل وسط أشجار الزيتون الضخمة، والتي ربما تكون الأقوى في كل فلسطين. تقع المدينة على سفح تلال عيبال في موقع متميز للغاية، في منطقة خصبة، وترويها ينابيع عديدة. ووفقاً للمصادر التركية، يبلغ عدد سكانها الآن 18 ألف نسمة... أهل نابلس اليوم شعب شديد الانفعال والغضب والتمرد، فهم على الرغم من فوج المشاة التركي بأكمله المتواجد هنا، يتمردون ويثورون في كل فرصة. لا يفاجأ الفلاحون المحليون بهذا القدر من الاضطرابات بينهم، لأن هناك مجموعة حقيرة من كبار الشخصيات التركية، مثل العلق الذي لا يشبع، تمتص دماء السكان على شكل أتاوات، وبالتالي تدمر رفاهة البلاد التي تزداد فقراً وتدمراً. ونتيجة لإزالة الغابات، أصبح هطول الأمطار في المنطقة المحيطة بنابلس أقل فأقل، وتجف الينابيع، وتصبح المناظر الطبيعية غير المزروعة غير صحية على أيدي الفلاحين، ويزداد الجفاف أكثر فأكثر، بحيث أصبح الفقر والجوع متفشيين في منطقة مباركة. لولا ذلك، ولو كانت الزراعة مثالية، من شأن هذه الأراضي أن تفيض بالخيرات ويمكن أن تكون موطناً مباركاً لمئات الآلاف من العمال.

"من حسن الحظ، أننا التقينا بالسيد توتري من الناصرة، وهو أفضل مرشد لهذه الرحلة. يعرف هذا الدليل البشوش كل البدو تقريباً، ويحافظ على علاقات ودية مع الفلاحين، ويشكِّل ذلك أثناء الرحلة ضمانة السلامة لكل غريب. وبدون اتفاق قنصلي، وعبر المصافحة فقط، رتبنا كل التفاصيل معه، وحصلنا على المؤن اللازمة، وفي اليوم التالي انطلقنا في الساعة السادسة صباحاً عبر البوابة المؤدية إلى دمشق".

"عدنا إلى جفنا، حيث استقبلنا حشد كبير من السكان بكل سرور، وزودونا بالدجاج اللازم للعشاء. سعت النساء الفضوليات، على وجه الخصوص، إلى جعل إقامتنا ممتعة قدر الإمكان، وأمطرن توتري بأسئلة محددة، لكنه لم يفشل أبداً في الإجابة عليها. وبشكل عام، كان هذا الناصري البسيط والمرح بمثابة نبع لا ينضب من كل أنواع القصص من حياته الملونة بين البدو في لواء نابلس والجليل".

المدينة نفسها ومحيطها المباشر محمية بشكل جيد ضد كوارث السنوات القاحلة بفضل الينابيع العديدة، على الرغم من أن سنوات الجفاف ليست ممتعة هنا أبداً، لأن المدينة تعتمد أيضاً على العطايا الطبيعية للمنطقة المحيطة بها، والتي لا توفر الكمية اللازمة من المحاصيل بعد صيف جاف. شوارع نابلس وأسواقها الطويلة المستقيمة، صاخبة للغاية، وتشهد تجارة نشطة في الصوف والجلود والقطن والصابون والمنتجات المنسوجة والسروج والأسلحة، مما يجذب العديد من البدو القريبين والرحل من وراء نهر الأردن. الشخصيات الأكثر لفتاً للانتباه في سوق نابلس هم السامريون، الذين يمكن العثور هنا على عدد منهم يصل إلى نحو مئتي شخص. إنهم يرتدون عمائم حمر على رؤوسهم ويحرصون على أن تكون معظم أثوابهم المصنوعة من القماش الأبيض الفاتح نظيفة قدر الإمكان... بحسب رئيس الدير اللاتيني (حيث يمكن للأجانب الإقامة)، هناك 750 مسيحياً من ديانات مختلفة، وهم ضائعون تقريباً في العدد الكبير من السكان المسلمين.

نابلس بين جبلي عيبال والطور

لقد شعرنا بعدم الارتياح وعدم التسامح من جانب العرب المحليين، فور دخولنا المدينة من بوابتها نصف المدمرة، فقد تعرضنا للشتائم عندما كنا نقود عبر الشوارع إلى منزل الباشا المحلي. أجبرنا ذلك على التصرف وكأن كل هذا لا يعنينا، ولكن في داخلنا كان الدم يغلي، وشعرنا بوجوهنا تتحول إلى اللون الأحمر. طلبنا اثنين من الجنود من المقر العسكري لحراسة خيامنا، وبدونهما كان من المستحيل أن نقضي الليل خارج المدينة. بعدما صارا برفقتنا، انطلقنا إلى مخيمنا على الطرف الغربي من المدينة.

يَظهر "كليمنت"، كغيره من الرحالة والحجاج، مثقَلاً بالأفكار النمطية المسبقة حول أهل لواء نابلس، وعلاقتهم بالأجانب. إلا أنه في الكتاب نفسه، حين زار غزة، "وادي الفلسطينيين المبارك"، يؤكد "لم نتعرض لأي إساءة هنا في غزة أو في فلسطين كلها".

أثقل "كليمنت" النصّ، كسواه من الرحالة السلافيين، بربط كل مكان يمرّ فيه بآيات محددة من أسفار العهد القديم، بالإضافة إلى إدراجه كل ما وصله من حكايات ترتبط بالأماكن التي زارها. وهي أقاويل سمعها من آخرين ولا يعول عليها. فبدا بعيداً كل البعد عن القاعدة التي ألزم نفسه بها، حين وعَدنا بوصف فلسطين "من دون الحجاب التقليدي المثالي الذي ألقى به الكتّاب على هذه البلاد". 

في الصباح الباكر، بعد أول صلاة للمسلمين، انطلقنا، تحت حراسة أمنية من أحد الحارسين، لاستكشاف المساجد. هناك خمسة منها كانت في السابق كنائس مسيحية، وأبرزها المسجد الجامع الذي عانى أكثر من غيره من عمليات إعادة البناء المختلفة لطرازه البازيليكي الأصلي منذ عهد "جستنيان"، وهناك "المسجد الأخضر"، الذي يتميز بمئذنة برجية ضخمة تشبه في شكلها بعض أبراج الأجراس لدى المسيحيين السوريين...

بعد الظهر، الساعة الرابعة، سافرنا من المخيم إلى الجانب الجنوبي من جبل الطور، حيث النبع الرئيس الذي يزود المدينة بأكبر قدر ممكن من مياه الشفة وأنقاها أيضاً. وكان هناك عدد من الأطفال العراة مع أمهاتهم البدويات يتسكعون حول النبع. جلس بعضهم ورؤوسهم مدفونة في أحضان أمهاتهم بجانب النهر، فيما كانت الأمهات يبحثن عن شيء ما بعناية في رؤوس الأطفال. ما الذي كن يبحثن عنه في تلك الرؤوس؟

... بعد عودتنا من الجبل، دفعنا لجنديي الحراسة مجيدياً (زلوتي واحد و90 كرونة) كإكرامية، واتجهنا على الفور نحو الشمال الغربي على الطريق المؤدي إلى قرية سبسطية التي تقع على بعد ساعتين. يستمر الطريق جزئياً حول سفوح الجبال وفوق التلال العالية، ثم عبر الوديان مع عدد كبير من أشجار الزيتون، ويمر عبر محطات المياه القديمة، وبالقرب من العديد من القرى الفقيرة، ويوصلنا إلى أطلال سبسطية. هناك تقع على قمة إحدى التلال أكواخ بائسة يبلغ عدد سكانها نحو مائتين وخمسين نسمة. أهل القرية هنا لا يحبون الأجانب، وعندما تجولنا في تلك الفوضى هربت جميع النساء والأطفال نحو الأكواخ، ولم يمر بنا سوى الرجال العابسين. اشترى دليلنا منهم كمية كبيرة من العملات المعدنية المختلفة من العصر الروماني، والأشياء البرونزية والعظمية، وجميع أنواع التحف الأخرى بسعر ضئيل نسبياً...

بقلب خفيف، ومن دون وداع ثقيل مع سبسطية، انطلقنا نحو جنين عند الساعة الثانية. على هذا الطريق، يهتم الأجانب في المقام الأول بالتلال المرتفعة من السهل... أسعدتنا رؤية جنين، المحاطة بالعديد من بساتين النخيل الجميلة النحيلة، لكن لا يمكننا قول الأمر نفسه عن سكانها، فأنا على يقين من أنه من بين مئة رجل، سيتمكن تسعة وتسعون، بمناسبة أو بدونها، من إطفاء جذوة حياتنا، بطريقة أو بأخرى. ولذلك، بناء على أمر القائمقام، حرستنا دورية مكونة من ثلاثة جنود أتراك في الليل، وفي الساعة الرابعة صباحاً أدرنا ظهورنا لـ"أهل جنين الأعزاء"، وبدأنا المسير عبر مرج بني عامر نحو الناصرة. يمتد السهل، وهو مخزن القمح في الجليل ونابلس، من الغرب إلى الجنوب الشرقي بطول 9 ساعات من جبل الكرمل حتى وادي الأردن تقريباً، وعرض 5 ساعات من الناصرة إلى مرتفعات جلبوع. خصوبته مشهورة، وفي الربيع، يتحول إلى سجادة خضراء واسعة لا نهاية لها، وتختفي المياه التي غمرت التربة السوداء قبل شهرين من جميع الجوانب تقريباً.

مرج بني عامر، المشهد من جنين.

حول نص كليمنت

يتضمن كتاب "كليمنت"، "فلسطين"، كمّاً من الملحوظات المهمة عن الطريق من القدس إلى مرج بني عامر، مروراً بنابلس وجنين، سواء من ناحية وصفه لجغرافية المنطقة ومشاهدها العامة، أو لطبائع أهلها وتنوّعهم. ونراه قد استعان بدليل عربي محلي، من أسرة توتري الناصرية. ف"كليمنت"، على الرغم من تسلحه بمعرفة كافية باللغة العربية، على حد تعبيره، إلا أنه لم يجازف بالشروع في الرحلة بدون دليل، لعدم ورود الطريق على الكتيبات المطبوعة التي توزَّع على الحجاج، والتي كانت تقتصر على الرحلة إلى مدينة القدس وجوارها.

في المقابل، يظهر "كليمنت"، كغيره من الرحالة والحجاج، مثقَلاً بالأفكار النمطية المسبقة حول أهل لواء نابلس، وعلاقتهم بالأجانب. إلا أنه في الكتاب نفسه، حين زار غزة، "وادي الفلسطينيين المبارك"، يؤكد "لم نتعرض لأي إساءة هنا في غزة أو في فلسطين كلها". يقول: "أكثر ما جذب اهتمامنا، من بين مباني المدينة، المسجد الكبير الذي بني على أنقاض كنيسة صليبية، والتي كانت بُنيت بدورها فوق معبد قديم. "لا يوجد أي تعصب تجاهنا، ولم نتعرض لأي إساءة هنا في غزة أو في فلسطين كلها، ولم يحدث أن كنا في خطر من جانب المسلمين. دخلنا المسجد من دون سابق إنذار بجواربنا. داخله، أضيف صحن إلى صحون الكنيسة القديمة الثلاثة، مع المحافظة على الأروقة والنوافذ والمداخل بأسلوبها الأصلي. يوجد حول المسجد فناء مرصوف بصورة جميلة، يمكنك من خلاله المشي إلى المدارس ذات الطراز العربي. في إحدى الغرف تحلّق نحو 30 ولداً فلسطينياً حول معلمهم، وهم يرتلون بانسجام تام السورة الـ109 من القرآن، وهي تقول: وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ. وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين. إنها سورة معقولة بشكل رائع".

في الواقع، أثقل "كليمنت" النصّ، كسواه من الرحالة السلافيين، بربط كل مكان يمرّ فيه بآيات محددة من أسفار العهد القديم. وفي بعض الأماكن، أراد تطويع الجغرافيا لما ورد في تلك الأسفار، بالإضافة إلى إدراجه كل ما وصله من حكايات تاريخية، قديمة وحديثة، ترتبط بالأماكن التي زارها في الرحلة بين القدس والناصرة. وهي أقاويل سمعها من آخرين أو قرأها في كتبهم، ولا يعول عليها. فبدا، في ما فعل، بعيداً كل البعد عن القاعدة التي ألزم نفسه بها، حين وعَدنا بوصف فلسطين "من دون الحجاب التقليدي المثالي الذي ألقى به الكتّاب على هذه البلاد".

مقالات من فلسطين

"الإبادة من المسافة صفر" .. الآن!

صفاء عاشور 2025-03-06

هناك ما يمكن تنفيذه في الحال: إنشاء متحف إلكتروني لتخليد الإبادة ضد غزة، حيث يسهل جمع كافة الصور والفيديوهات والشهادات حول الجرائم الإسرائيلية، والحصول على حقوق عرضها، سواء تلك المملوكة...

رفض أمريكي وإسرائيلي للخطة العربية لإعادة إعمار غزة.. و«حماس» ترحب رغم عدم الاتفاق حول «السلاح الشرعي الواحد»

2025-03-06

وصف المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، "برايان هيوز"، الخطة بأنها "لا تعالج حقيقة أن غزة غير صالحة للسكن حالياً، وأن السكان لا يستطيعون العيش بشكل إنساني في منطقة مغطاة...

للكاتب نفسه

الديار النابلسية بعيون سلافية (1)
ألكسي سوفورين في ضيافة أبناء جنين ونابلس

في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين، ترك عدد كبير من الرحالة والحجاج السْلاف نصوصاً عن "الديار النابلسية"، مليئة بالملحوظات الاجتماعية والمشاهدات، وكتباً ومذكرات، إلى...