"هذا القانونُ تكبيليّ".
كثيراً ما يُردِّد مجتمع الموظفين والعمال، ونقابيوهم، هذه الجملة المتداوَلة على نطاق واسع حول مشروع قانون الإضراب المغربي الذي لم يتم تنزيله بعد، ولا يزال في مراحل شبه نهائية للمصادقة عليه، إذ عُرض مبدئياً على المجلس الوزاري منذ عام 2016، وتعرض لاحقاً لتعديلات وتغييرات كثيرة في مواده، آخرها خلال الشهور الماضية، بعد أخذ ورد بين الحكومة والجهات النقابية، ليبدو "جديداً"، كما يوصف إعلامياً.
وعلى الرغم من ذلك، أثار هذا المشروع التشريعي غضب المعترِضين عليه، بعد أن وصل بوتيرة سريعة إلى مرحلة المصادقة عليه من قبل مجلس النواب (الغرفة الأولى للبرلمان)، في جلسة سوريالية مساء يوم 5 شباط/ فبراير الفائت، حيث غاب عن جلسة التصويت 291 نائباً، ووافق عليه 84 نائباً، بينما عارضه 20 نائباً. ووصف معارضون الجلسة بأنها "تصب الزيت على النار" من قبل الحكومة، إذ تزامنت مع إقرار الإضراب العام ليومي 5 و6 شباط/ فبراير، من قبل النقابات العمالية والمهنية.
إضراب عام... هل هو فعلاً "محتشِم"؟
في الواقع، لا يوجد ما يؤشر إلى اشتعال نيران احتجاجٍ قوي، إذ يبدو أن الإضراب العام ضد قانون الإضراب لم يؤت أكله على النحو المطلوب. والإحصاءات والأرقام المتضاربة الصادرة عن الحكومة والنقابات، خير دليل. فالطرف الأول ينشر أرقاماً ضئيلة جداً: 1.4 في المئة في القطاع الخاص، و32 في المئة في القطاع العام، في حين تكذِّب النقابات هذه الأرقام، وتفيد بأن نسبة الإضراب تجاوزت 80 في المئة!
من نصدق إذاً؟ الحكومة أم النقابات؟
نصدِّق الشارع، إذ يؤشِّر إلى أن الإضراب قد تَمَّ فعلاً، لكنه ليس بالحدة والتأثير والقوة المنتظَرة، إذ لم تظهر في بعض المصالح والإدارات والمؤسسات الحكومية والشركات الخاصة، ملامح التوقف الكامل. مقابل ذلك حدث توقف شبه كامل للمؤسسات التعليمية. لم يصل هذا الإضراب إلى المستوى التاريخي، الذي حققته الإضرابات العامة خلال العقود الماضية، وعلى رأسها الإضراب العام لسنة 1981، الذي تسبب في شلل كامل لشريان الحياة في البلد. وهذا يدل على أن النقابات العمالية لم تعد، كما كانت قبل عقود خلت، قادرة على تحريك الشارع، وعلى التأثير على مجتمع الموظفين والعمال..
انفلات التضخم والغلاء في المغرب..
05-03-2023
يظهر الوضع المتردي لهذه المؤسسات "المتكلسة"، وفق استنتاجات معارضيها، كنتيجة لاحتوائها من قبل جهات حكومية و"تواطؤها" معها في اتفاقات مشبوهة، وغرقها في حال من البيروقراطية و"الفساد". لذا كانت التنسيقيات الفئوية والمهنية العمالية بديلاً احتجاجياً عن هذه الإطارات النقابية التقليدية، وهذا بحد ذاته كان سبباً كافياً لتسرِّع الحكومة في إقرار هذا التشريع، كسبيل لاحتواء وضبط ما تصفه بـ"الفوضى" والاحتجاجات المتواصلة، التي اعترت المشهد العمالي والفئوي، للأساتذة والممرضين والأطباء وكثيرٍ من الفئات العمالية والمهنية.
وبعيداً عن الإضراب العام وحيثياته، نتناول هنا مزايا هذا التشريع المقترح والمثير للجدل. فهل هو فعلاً "تكبيلي"، ويُجْهِز على مكتسبات العمال والموظفين كما يشدِّد معارضوه؟ أم أنه يقف في صفهم وفي صف الحكومة والمُشغِّل في آنٍ واحد؟
قانون لم يرَ النور بعد!
بعد زمن طويل من الفراغ التشريعي، الذي ترك حق الإضراب مفتوحاً لتأويلات متباينة، تم الإفراج عن مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 لممارسة حق الإضراب في إطارٍ ترى الحكومة أنه يسعى إلى "تحقيق التوازن، بين حقوق العمال ومصالح أصحاب المشاريع والمرافق العامة". وتم إقرار هذا التشريع منذ دستور عام 1962، وجرت إحالته إلى قانون تنظيمي، يحدد شروط وإجراءات وكيفيات ممارسة هذا الحق، بغية تعديله. لكن هذا الأمر طال أمده وظل مؤجلاً، إلى أن جرى إعداده في إطار مشروع قانون، وعُرض بشكل رسمي على المجلس الحكومي، بتاريخ 28 تموز/ يوليو 2016، من دون إقراره.
لا يوجد ما يؤشر إلى اشتعال نيران احتجاجٍ قوي، فالإضراب العام ضد قانون الإضراب لم يكن عارماً. والإحصاءات والأرقام المتضارِبة، الصادرة عن الحكومة والنقابات، خير دليل. فالطرف الأول ينشر أرقاماً ضئيلة جداً: 1.4 في المئة في القطاع الخاص، و32 في المئة في القطاع العام، في حين تكذِّب النقابات هذه الأرقام، وتفيد بأن نسبة الإضراب تجاوزت 80 في المئة!
لم يصل هذا الإضراب إلى المستوى التاريخي، الذي حققته الإضرابات العامة خلال العقود الماضية، وعلى رأسها الإضراب العام لسنة 1981، الذي تسبب في شلل كامل، لشريان الحياة في البلد. وهذا يدل على أن النقابات العمالية لم تعد، كما كانت قبل عقود خلت، قادرة على تحريك الشارع، وعلى التأثير على مجتمع الموظفين والعمال..
يُعرِّف هذا القانون الإضراب بأنه "توقف إرادي جماعي عن العمل للدفاع عن مطالب اقتصادية أو اجتماعية أو مهنية"، ويضع شروطاً وإجراءات دقيقة، يجب استيفاؤها قبل اللجوء إلى هذا الفعل. ويحمل بين طياته مواد عديدة، أبرزها: أن الدعوة إلى الإضراب، لم تعد حكراً على النقابات الكبرى الأكثر تمثيلاً للعمال والموظفين، إذ صار بإمكان النقابات ذات التمثيلية المحدودة على صعيد البلاد، أو تلك المُمَّثِلة لعمال مؤسسات القطاع الخاص أن تدعو الإضراب، بما في ذلك فئات كانت سابقاً مهمّشة ومرفوضة، مثل العمال المنزليين، والمهنيين في القطاعات الخاصة.
تصاعد البطالة في المغرب... الجفاف هو السبب؟
10-06-2024
كما يُلزِم هذا القانون الجهات الداعية إلى الإضراب بتقديم إخطار كتابي، إلى الجهات المعنية قبل بدء الإضراب بفترات زمنية محددة، تتراوح بين 7 إلى 45 يوماً، بحسب طبيعة القضية وحجم المؤسسة، مما يمنح فرصة ممكنة للمفاوضات، ومحاولة التوصل إلى تسوية، قبل اتخاذ خطوة الإضراب النهائية. ويشترط أيضاً وضع آليات لضمان عدم تعطّل الخدمات العامة الحيوية خلال فترات الإضراب، بحيث لا يؤثر ذلك سلباً على صحة وسلامة المواطنين، وهو ما يطرح تحدياً كبيراً أمام الجهات الداعية إلى الإضراب في القطاعات الحساسة، مثل الصحة والنقل.
بالموازاة، ينص هذا التشريع على غرامات مالية مشدَّدة على أرباب العمل والشركات، الذين يحاولون تنفيذ اجرءات انتقامية ضد العمال المضرِبين، إذ تصل قيمة هذه الجزاءات إلى ما بين 50 ألف درهم (حوالي 5 آلاف دولار) و100 ألف درهم (حوالي 10 آلاف دولار)، مع إمكانية مضاعفتها في حال استبدال العمال بعمال آخرين. كما ينص ويعاقِب بغرامة من 1.200 إلى 8.000 درهم (من حوالي 120 دولاراً إلى 800 دولار) بحق العامل الذي يتسبب في عرقلة حرية العمل، ورفضه القيام بالأنشطة الضرورية، وتوفير الحد الأدنى من الخدمة التي كُلِّفَ بها.
ما قَبِلَتْه وتَقْبَلُه الحكومة
تتشبث الحكومة المغربية بمشروع هذا القانون، وترفض سحبه أو تجميده، لأنه – بحسبها - "يستجيب لتطلعات مختلف الأطراف" (الحكومة، أرباب العمل، والعمال)، ويعمل على احتواء ما تصفه بـ"الفوضى" التي كانت تسم التجربة الاحتجاجية العمالية خلال السنين الماضية. كما أن قبولها بالعديد من اقتراحات التعديل التي تمت الموافقة عليها يبرِّر تمسكها بهذا التشريع.
ومن ضمن ما قبلته وتقبله الحكومة كتعديلات قانونية، استجابتها لمقترح النقابيين، فيما يتعلق بمواعيد الدعوة إلى الإضراب في القطاع الخاص، إذ تم تقليصها من 10 أيام إلى 7 أيام، وأيضاً تخفيض آجال الإخطار من 7 أيام إلى 5 أيام. كما وافقت على تضمين مواد تتيح للجهة الداعية إلى الإضراب، الاتفاق مع المشغل بشأن تحديد العمال المزاوِلين للحد الأدنى للخدمة، ويحق لهم اللجوء إلى القضاء، في حال عدم التوصل إلى هذا الاتفاق.
وعلاوة على فرضها لغرامات صارمة ضد المشغِّلين، الذين لا يحترمون حق العمال في الإضراب، والتي رُفعت قيمتها إلى 200 ألف درهم (حوالي 20 ألف دولار) بينما كانت 20 أو 30 ألف درهم، فإنها قبلت بإدراج مادة، تحظر تطبيق الإكراه المادي/ البدني[1] على العمال المخالِفين لبعض الإجراءات القانونية أثناء الإضراب، خاصة في حالات العسر المالي (العامل غير القادر على أداء الغرامة).
كانت التنسيقيات الفئوية والمهنية العمالية، بديلاً احتجاجياً عن هذه الأُطر النقابية التقليدية، وهذا بحد ذاته كان سبباً كفيلاً بأن تسرِّع الحكومة في إقرار هذا التشريع، كسبيل لاحتواء وضبط ما تصفه بـ"الفوضى" والاحتجاجات المتواصلة، التي اعترت المشهد العمالي والفئوي، للأساتذة والممرضين والأطباء وكثير من الفئات العمالية والمهنية.
خرجت جل الهيئات العمالية والنقابية، بمواقف وبيانات رسمية رافضة هذا التشريع، مؤكِّدةً أنه لا يمنح العامل حقوقاً كاملة في الإضراب، إذ يفرض عليه شروطاً، تجعل من هذا الحق مُقَنَّعاً بالغرامات ومُكَبَّلاً بالقيود.
بالموازاة، تم تحديد "المرافق الحيوية"، إذ عُرِّفَتْ بأنها تلك "الأنشطة التي تقدِّم خدمات أساسية قد تُعرِّض صحة أو حياة المواطنين للخطر في حال توقفها". أما المواد المتعلقة بـ"عرقلة حرية العمل" و"احتلال أماكن العمل"، فقد حُذِف جزء منها. وهنا أوضح وزير الشغل والإدماج الاقتصادي أن "عرقلة حرية العمل" تعني منع العمال غير المضربين من أداء أعمالهم، في حين يُقصد بـ"احتلال أماكن العمل"، منع سير العمل بشكل كامل، من خلال عرقلة وصول الأفراد أو السلع إلى أماكن العمل. ويبقى أن أهم مطلبين تمت الاستجابة لهما، هما التراجع عن منع أية "إضرابات لأهداف سياسية"، وحذف "العقوبات الجنائية والسجنية" في حق الداعين إلى الإضراب.
وعموماً، تبدو معظم هذه التعديلات الموافَق عليها من قبل الحكومة مُرْضية نسبياً، لمن يقرأ ويتابع هذه القضية على نحو جزئي. لكن هناك في الحقيقة عيوباً تعتري هذا التشريع - إذ في تفاصيلها يكمن الشيطان، كالعادة! - وهي مرفوضة من قبل العمال والموظفين ونقاباتهم.
ما ترفضه الأصوات النقابية
خرجت جل الهيئات العمالية والنقابية، بمواقف وبلاغات وبيانات رسمية رافضة لهذا التشريع، إذ تؤكد أنه لا يمنح للعامل حقوقاً كاملة في الإضراب، ويفرض عليه شروطاً، تجعل من هذا الحق مُقَنَّعاً بالغرامات ومُكَبَّلاً بالقيود.
اليسار بالمغرب: سؤال الفعالية
19-12-2018
اليسار المغربي: أزمة تنظيم وإيديولوجيا؟
09-01-2019
ومن ضمن ما تعترض عليه هذه الأصوات النقابية والعمالية تعريف الإضراب، الذي لم يشمل التنصيص على تنفيذه لأسباب معنوية، أو بشكل تضامني، أو رداً على سياسة حكومية تمس الحياة العامة للعمال. كما أنه لم تُعالَج إشكالية قواعد التفاوض والمصالحة، وشروط الحصول على النصاب القانوني، وعدم تدقيق شروط الإشعار/ الإخطار المسبق للإضراب، والتصويت بالأغلبية. وهذه إجراءات تعتبرها هذه الأطر العمالية "تعجيزية"، ترمي إلى تقويض قدرة النقابات على الدفاع عن حقوق الشغيلة. كما انتقدت هذه الأصوات أيضاً المواد المتعلقة بمنع الإضراب في "القطاعات الحيوية"، من دون تعريف واضح لهذا المصطلح، مما يترك مجالاً واسعاً لتقييد الإضراب بشكل غير موضوعي.
في المحصلة، تعتبر هذه الأصوات النقابية، أن هذا المشروع التشريعي لا يضمن حماية فعالة للعمال المضرِبين، إذ ترى أن النص القانوني يُفضِّل مصالح أرباب العمل على حساب حقوق العمال، مع غياب عقوبات رادعة على المشغِّلين الذين يعرقلون ممارسة الحق في الإضراب. وهذا ما يتعارض مع كلام الحكومة الذي يفيد بأن هذا التشريع يقف في صف كل الأطراف.
- إجراء قانوني، يتم بموجبه إجبار المَدين، أي المواطن غير الملتزم بأداء الغرامة المالية على الخضوع لعقوبة حبسية. ↑