القاهرة الخديوية أهم من "داون تاون دبي".. تطوير وسط البلد لا يعني محو تاريخنا

بدلاً من تنفيذ مخطط التطوير اللي بيهدف لإعادة ربط جميع نواحي العاصمة وإقامة منشآت تجمع أوصال المدينة، زي مكتبة وطنية وجامعة وحديقة عامة كبيرة، تم تنفيذ التطوير كمشروع تجاري بحجة ضخ أرباح في الأسواق اللبنانية. بالتالي تم التركيز على المولات والمكاتب والشقق الفخمة. وفي السياق دا تم السطو على الأملاك العامة لصالح شركة خاصة، فتحول "وسط بيروت" لمشروع تجاري للأغنياء فقط، من لبنانيين وأجانب.
2025-02-27

شارك
صورة لوسط القاهرة

- خلال الأيام اللي فاتت، أثارت تصريحات رجل الأعمال الإماراتي محمد العبار، حول تطوير منطقة وسط البلد، وتحويلها لـ"داون تاون دبي"، جدلًا كبيرًا دفع الحكومة المصرية للرد على تصريحات العبار بأنه فيه تكليف لمكتب استشاري لوضع رؤية كاملة لتطوير وسط البلد وطرح المنشآت الموجودة فيها، داخل المنطقة التي تملكها الدولة، بعد إخلاء المباني الحكومية عقب الانتقال للعاصمة الإدارية.

- رجل الأعمال الإماراتي عبّر بصراحة عن تصوراته لوسط البلد، رغم تأكيده أن شركته "إعمار" لم تتسلم المباني من الحكومة حتى الآن، وإن كانت تصريحاته كشفت عن جولة جديدة لمفاوضات سبق وتوقفت قبل عامين.

- العبار اقترح إقامة مشروع على مقرات الوزارات بمساحة 40 إلى 50 فدانًا، مع تخطيط حديث للشوارع والمطاعم والفنادق، لكي "يعيد للمنطقة بريقها التاريخي"!

**

-المفاوضات بين شركة "إعمار" والحكومة المصرية حول منطقة وسط البلد بدأت عام 2015، بعدما أسند الرئيس مشروع العاصمة الإدارية لـ"العبار" مع وضع تصور لمنطقة وسط البلد، لكن بعد 10 أشهر تراجع الطرفان عن الاتفاق.

- بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية في مصر عام 2022 وضعت الحكومة خطة لبيع أصول الدولة، ووقتها رجع "العبار" وأعلن رغبته في الاستثمار في وسط البلد، وصارح الحكومة المصرية برغبته في تطوير مباني العاصمة القديمة.

- لكن المفاوضات توقفت 3 سنين. وفي 2025 أعاد "العبار" فتح المفاوضات مع الحكومة، ويبدو أن الأمور في طريقها لحصوله على حق تطوير وسط البلد، ودا ظهر بشكل ما مع تمهيد الإعلامي عمرو أديب في برنامجه، "الحكاية"، لطرح تطوير وسط البلد على المستثمرين الأجانب، وقوله: "أنا مش فاهم الحساسية اللي بقت موجودة عند الناس، يا رب تاخدها شركة كندية، يا رب تاخدها شركة مصرية أو لبنانية أو سعودية أو إماراتية"!

**

نموذج "سوليدير"

- الغريب أنه عمرو أديب، وهو بيسوّق مشروع تطوير وسط البلد، استشهد بنجاح نموذج "سوليدير" في تطوير وسط العاصمة اللبنانية بيروت، على الرغم من قصة "سوليدير" هي قصة فشل مؤكد، والشركة النهارده محط كراهية عميقة في أوساط اللبنانيين، وبتحقق خسائر بعد ما تحول وسط بيروت لمنطقة أشباح خالية من النشاط.

- سوليدير" مكروهة شعبيًا لأنها ببساطة حوّلت قلب العاصمة من شريان حيوي يربط جميع مناطق بيروت (زي وسط البلد القاهرية حاليًا كدا) لجزيرة معزولة لطبقة من الأثرياء ومحرمة عمليًا على بقية الشعب.

- الاقتصادي اللبناني شربل نحاس وهو أحد المخططين الأوائل لتطوير وسط بيروت اللي تمت إزاحة تصوره لتطوير وسط بيروت بما يتلائم مع طابعها الحضاري والتاريخي لصالح نموذج "سوليدير" التجاري، حكى قبل كدا قصة "سوليدير" كواحدة من معالم فشل لبنان الحديث في الحفاظ على ثرواته.

- شربل نحاس كان مسؤول عن مشروع تطوير وسط بيروت ضمن شركة "أوجيه لبنان" (مملوكة لرفيق الحريري)، وترك المنصب لاحقًا بعد خلاف مع الحريري، لأن نحاس وغيره من المهندسين الوطنيين كان عندهم تصور لتطوير وسط المدينة على يد المؤسسات العامة، على عكس الحريري اللي كان شايف أنه لازم تطورها شركة تجارية خاصة (شركته تحديداً).

**

- بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، قدمت السعودية "هبة" لرفع الأنقاض وتدعيم الأبنية المتصدعة، وعليه كُلّفت شركة "أوجيه لبنان" المملوكة للحريري القيام بالأعمال، لكن بدلًا من تنفيذ مخطط التطوير اللي بيهدف لإعادة ربط جميع نواحي العاصمة وإقامة منشآت تجمع أوصال المدينة زي مكتبة وطنية وجامعة وحديقة عامة كبيرة، تم تنفيذ التطوير كمشروع تجاري بحجة ضخ أرباح في الأسواق اللبنانية.

- بالتالي تم التركيز على المولات والمكاتب والشقق الفخمة، وفي السياق دا تم السطو على الأملاك العامة لصالح شركة خاصة، فتحول وسط بيروت لمشروع تجاري للأغنياء فقط من لبنانيين وأجانب.

- ورغم أن "سوليدير" بتضم ثروة عقارية هائلة، لكن حجم مديونيتها بيزيد يومًا بعد التاني، بعد ما حوّلت الشركة وسط العاصمة لمدينة أشباح بعد إقفال العديد من المحلات التجارية.

- خلاصة مشروع سوليدير أنه دمّر أقدم مناطق عمرانية تختصر التاريخ الثقافي والاجتماعي والسياسي لعاصمة لبنان، وجرّف آثارها، وفوت فرصة تاريخية في ربط جميع مناطق العاصمة وتوحيدها حول وسطها، ودا تعريف النجاح بالنسبة لإعلامي مخضرم زي عمرو أديب!

**

نموذج دبي

- من بداية حكم الرئيس السيسي والخيال المُحرِّك للاقتصاد السياسي في مصر أنه القطاع العقاري هو اللي هيقود النمو في البلد، على غرار الصناعات الثقيلة في الستينيات، وكان الخيال المحرك للاستثمار العقاري هو استنساخ تجربة دبي.

- وبالفعل تم إنشاء "العاصمة الجديدة" أو "العلمين الجديدة" وفق هذا التصور، ولأنه الاتنين مدن صحراوية بلا تقاليد عمرانية، فكان كل النقد السياسي والمجتمعي الموجه ليهم بيركز على جدواهم أكتر من طابعهم العمراني، خصوصًا أننا عندنا تاريخ طويل من فشل المدن الصحراوية، غير المأهولة بعد عقدين أو أكثر من إنشائها. فكان النقد كله منصب على تجميد رؤوس الأموال في أصول عقيمة بدلًا من ضخها في قطاعات اقتصادية منتجة.

- دبي زي "العاصمة الإدارية" و"العلمين الجديدة"، وزي بقية المدن الخليجية على الساحل، مدينة بلا تقاليد حضرية (ودا لا نقصد بيه الإساءة، بل وصف الواقع الحضري للمدينة اللي البعض عاوز يصوغ قلب القاهرة على مقاسه). يعني لغاية 1950، كان عدد سكان كل من دبي وأبو ظبي والدوحة والمنامة يزيد قليلًا على 10 آلاف نسمة بالكاد، في وقت كانت فيه القاهرة إحدى حواضر العالم، وبطُرز عمرانية متداخلة ومتجاورة: أوروبية قديمة وحديثة ومملوكية وفاطمية وعثمانية وخلافه.

- ولأن 90% من سكان دبي أجانب، معظمهم هنود وباكستانيين وبنجلاديشيين، فالمدينة اتخذت طابع المدن متعددة الثقافات، ودا انعكس على طابعها العمراني اللي ممكن اعتباره مزيج من التقاليد المعمارية من جميع أنحاء العالم، وإن كانت الهندسة المعمارية الأكثر بروزًا مستوردة من أمريكا الشمالية.

- لذلك في نموذج دبي بتمثل ناطحات السحاب معلم رئيسي، لأنها بتحاكي ثقافة ناطحات السحاب الأمريكية، وفي نفس الوقت بتعوض غياب التقاليد العمرانية العريقة.

- ولأن الإمارات بتعتمد خطط اقتصادية مُركّبة للتعامل مع عصر ما بعد النفط، فالقطاع العقاري بيمثل جانب شديد الحيوية في السياق دا، إلى جانب القطاعات المالية والإدارية والسياحية، أو اللي ممكن نسميه اقتصاد معولم. فصناعة الفنادق ومراكز التسوق بتمثل أهمية قصوى ودا اللي أنتج "داون تاون دبي". لكن إيه علاقة القاهرة بهذا السياق؟

**

حاضرة الدنيا

- دبي تم بناؤها بالكامل من عوائد النفط، وهي عوائد خيالية، وكان ليها ظروف تاريخية صاغت تشكيلها على ما هي عليه، بدايةً من كونها زي بقية المدن الخليجية اللي تم إنشاؤها حول موانئ صغيرة أو قرى صيد، ونهاية بأنه 90% من سكانها أجانب، بشكل انعكس على عمرانها فائق التطور والحياد الثقافي في الوقت نفسه.

- أما القاهرة فتعتبر مركز اقتصاد متنوع صناعي وزراعي وسياحي وخدمي، والأهم أنها ذات تاريخ شديد الثراء والعمق، ووسط البلد الخديوية بتمثل مركز الإبهار التاريخي والجذب السياحي فيها. لذلك إذا كانت الحكومة عندها مباني عايزة تستثمرها تقدر تتبنى مشروع للتطوير بما يتلائم مع الطابع العمراني والتاريخي للقاهرة الخديوية، ودا أول شرط في تحققه ألا يكون وفق نموذج "داون تاون دبي".

- ونقدر نستدل على تجربة ميدان التحرير على ذلك، خصوصًا أنه تحويل المبنى لفندق تطلب إنفاق مبلغ طائل (مليار دولار) ، مع بحث مضني عن كراج ملائم، وكذلك كل مبنى من مباني الوزارات اللي هيتعمل فيه فندق أو مول عملاق، هيتعرض لنفس المعضلة، ومعضلات أكبر حول طبيعة المحلات القائمة ومدى اتساقها مع خدمة الفنادق، بشكل قد يتطلب الجور على المباني التاريخية وهدمها.

- تطوير وسط البلد يصلح وفق نموذج "المتحف المفتوح"، وإذا العبّار أو غيره مصرين على تنفيذ "داون تاون دبي" في مصر، يقدروا ينفذوه في مدينة جديدة، على الأقل من باب التنوع يبقى عندنا "داون تاون" حديثة وعندنا عمران تاريخي عريق في وسط البلد، أقل مبنى من مبانيه بتحلم دولة العبار في حيازة شبيه ليه، مع احترامنا البالغ للجميع.

مقالات من العالم العربي

السوريون: لن نسكت عن الفجور الإسرائيلي

2025-02-27

ردّ أهالي المناطق السورية على الكلام الإسرائيلي جاء سريعاً، على شكل تجمعات غاضبة، ومظاهرات مندِّدة في عدة مناطق. تجمّع المئات في "ساحة الكرامة" في "السويداء" ذات الغالبية الدرزية، للتعبير عن...

العنف المدرسي في تونس: الظلم والعدالة وتهاوي السلطات الرمزية

تشهد المؤسسات التقليدية للمجتمع التونسي، تهاوياً متسارعاً منذ ثمانينيات القرن الماضي، أي منذ تشابك الاقتصاد المحلي مع اقتصاد السوق المعولَم، الذي فرض مطالبات تتعلق بتغيير دور المدرسة، من مؤسسة توكَل...