عادةً ما أُحبّ المشي، خاصة إذا كان بلا وجهة ولا هدف، فأمشي وأمضي فقط في طريقي، من دون انتظارٍ لشيء. لكنّ الطريق الذي مشيناهُ خلال الأشهر الستة عشر الماضية، كان أطولَ من أيّ شيء. أولاً كان إلى ما لا نهاية، في ظل حرب طاحنة، طويلة، وقاتلة. رحلة نزوحٍ صعبة، ثم سرعان ما صارت مؤلمة. فطريقُ البيت... على انتظار العودة.
حانت لحظةُ العودة، لحظةُ الحُلم التي لم يُصدّقها أحد، حتى نام عشرات الآلاف على "تبة النويري"، وهي تلة صغيرة فاصلة بين "مُخيم النصيرات" و"المحافظة الوسطى" من جهة، و"وادي غزّة" من جهة أخرى، حيث قرّر الجيش الإسرائيلي أن هُناك ينفصلُ الزمان والمكان. ينفصلُ الزمان، إلى اثنين، زمانُ الراحة والخير والهدوء، وزمانُ الموت والدمار والنزوح والقهر. ينفصلُ إلى مكانيْن، مكانُ الخيم والتيه الطويل، ومكانُ الاستقرار والراحة.
عودتان.. رغماً عن الاحتلال والعالَم
30-01-2025
كان الناس تائهين في المكان، الآلاف مسطّرين على الطُرقات لا يعرفون وجهة. بعضُهم أحرق خيمته ومضى، الآخرون فكّكوا الخيم، غيرهُم باع خيمته كي يوفّر تكلفة المواصلات حتى "التبة"، التي منها يبدأُ طريق المشي، فقد قسّم "اتفاق وقف إطلاق النار" العودة على طريقيْن: المشاة، عبر شارع البحر "الرشيد"، بأريحية وبلا تفتيش، والرُكّاب بسياراتهم وعرباتهم، عبر شارع صلاح الدين "الشرقي"، ويخضعون لتفتيشٍ بأجهزة وضمن رقابة مصرية، قطرية، وأمريكيّة.
حانت لحظةُ العودة، طوفانٌ هائل من الناس مضى في طريقه، فور الإعلان عن انسحاب القوات الإسرائيلية. وبعد حوالي نصف ساعة، كان أوّلُ العائدين يدخل إلى مدينة غزّة. لم تكُن الساعة قد تجاوزت السابعة والرُبع حين جرى الإعلان عن ذلك، فيما مضت خلفهُ أفواج العائدين إلى المدينة، لتُعلن عن انتهاء أكثر من ستة عشر شهراً من النزوح والانتظار الطويل.
أجّلتُ عودتي حتى اليوم الثاني. حقيقةً كان تأجيلُها لأيامٍ أكثر، إذ توقّعنا أن يكون المكان مزدحماً لأيامٍ طويلة، ما يُصعّبُ مهمة المشي في هذا الطريق الضيّق، لكن رسالةً واحدة من شقيقي "مؤمن"، تقول في صباح العودة: "قوم ارجعععع.. كلّ الشعب رجع"، حمّستني، وحتى اتصالي بشقيقاتي النازحات، اللواتي عرفت أنّهن مَضين في الطريق بسرعة مع بدء لحظة العودة، جعلني أتشجّعُ أكثر، فالاشتياق إلى الأهل والبيت فاقَ الحدود، وألمُ النزوح، والتفكير في أنّكَ عبءٌ ثقيل على العالم، يقتُلان.
المشهد مُهيب، ولا أعتقد أن شعبنا عايش مشهداً أعظم من هذا في تاريخه. رُبما عشنا مشاهد عظيمة وتاريخيّة، مثلَ لحظة الانسحاب الإسرائيلي من غزّة عام 2005، ودخول الناس أفواجاً إلى المستوطنات والمناطق المُحررة. عاش الناس أيضاً عودة المُبعَدين إلى الوطن بعد "اتفاق أوسلو"، عشنا كذلك كثيراً من المشاهد التي سترسخُ في أذهاننا، لكن هل لهذه اللحظة مثيل؟ مُستحيل.
وقت طويل للبكاء.. وقت أطول للرثاء
16-01-2025
لم أحتمل الانتظار أيّاماً أُخرى. توقّعتُ أن تبقى الأفواج بمئات الآلاف كُلّ يوم، لكن ومع ساعات النهار، حينما كانت بلدة "الزوايدة" حيث أعيشُ نزوحي، ومدينة "دير البلح" التي أقضي نصفَ يومي فيها للعمل وقضاء الاحتياجات اليوميّة، تفرغان من الناس. اختفت من جوانب شوارع المدينتين خيم النازحين وبسطات الباعة، ووسائل النقل، فكُل المواصلات - من مركبات ثقيلة أو خفيفة، أو توكتوك، أو عربات - تحملُ العائدين بأمتعتهم وعائلاتهم، من كبيرهم المُسنّ المريض حتى صغيرهم الرضيع، متجهين إلى الشمال.
هذا "موسم الهجرة إلى الشمال"، كما سمّاها "الطيّب صالح"، وهُنا ليست هجرة، إنها عودة، وإن كانت هجرة، فهي هجرة إلى الألم والنزوح والاغتراب الداخلي والتفرّق. هجرة إلى البيت والأحبة، هجرة إلى الأُم وحضنِ الحبيبة والوطن المقصيّ بفعل الحرب والاحتلال.
حجزتُ سيارةً تقلني منذ فجر اليوم الثاني من العودة، حتّى "تبة النويري"، حيثُ نقطة الانطلاق في المشي. كان السائق "أبو الوليد" أنشطَ مني. لم ينل مني الليل، فاستيقظتُ مُبكراً منذ منتصفه، قلبي قلِق، مُرهف، متحمّس، خائف. مشاعر مختلطة، لا فِكاك منها. لا أعرف، هل أنام لأرتاح وأهيئَ نفسي لرحلة العودة والمشي الطويل، أم أبقى مستيقظاً لأفكّر بحماسي للساعات القادمة؟ نمتُ فقط قبلَ موعد العودة بساعة، حتى استيقظتُ وقد اتصلَ بي السائق سبعَ مرات، ليقول إنه ينتظرُني.
المشهد مُهيب، ولا أعتقد أن شعبنا عايش مشهداً أعظم من هذا في تاريخه. رُبما عشنا مشاهد عظيمة وتاريخيّة، مثلَ لحظة الانسحاب الإسرائيلي من غزّة عام 2005، ودخول الناس أفواجاً إلى المستوطنات والمناطق المُحررة. عاش الناس أيضاً عودة المُبعَدين إلى الوطن بعد "اتفاق أوسلو"، عشنا كذلك كثيراً من المشاهد، التي سترسخُ في أذهاننا، لكن هل لهذه اللحظة مثيل؟
وصلتُ إلى نقطة الانطلاق، وهناك كانت البداية. أفواجُ كثيرة تنطلق إلى "الشمال"، وإن كانت أقل من الأمس، أوّل أيام العودة، إلّا أنها أعدادٌ كبيرة مقارنةً بهذا الوقت من اليوم. إنها السادسة والنصف صباحاً، وهؤلاء الناس مثلي، لم ينتظروا كثيراً ليُشبعوا لهفهم للعودة.
رأيتُ ما رأيت، في نفسي وفي غيري. نحنُ نعود. نحنُ نجري بقلوبنا قبلَ أقدامنا. نهرولُ بالحُب والأمل، نمضي بلهفة المُشتاق إلى الأهل، وإلى المدينة. لذلك، رأينا ذاك الذي سرعان ما دخلَ إلى غزّة حتى سجدَ على أرضها، وغيرهُ الذي ظهرَ بمقطعٍ مصوّر وهو يقول لصديقه: "احنا دخلنا غزة. يا الله، هينا رجعنا". هكذا كُنا. نمضي بلهفة، نمشي بسرعة، على الرغم من حملنا الثقيل.
كنتُ قلقاً من المشي في هذه الرحلة الطويلة التي تصلُ إلى تسعة كيلو مترات، فقرّرنا تخفيف الأحمال. حقيبتيْ ظهر، واحدة لي وأخرى لزوجتي، وحقيبتيْن صغيرتيْن فيهما أهم الاحتياجات. لا طعام ولا مواد تنظيف، كما قالت أُمي التي أكّدت: أن "الخير كله موجود عنّا. بس تعالوا". وهنا تذكّرتُ صوت الفنان العراقي "كريم منصور"، الشجي وهو يقول: "بس تعالوا وفرحوا روحي عذبتني تريدكم".
تقاسمنا الحمل معاً. حملتُ "سلوان" - طفلتي الصغيرة - بعض الوقت مع حقيبتي، وبعضاً آخر حملت كلّ الحقائب، حينما تمشي "سلوان". أحياناً أحملُ الحقائب و"سلوان" معاً. لم أشعُر بالتعب، لا أعرفه ولا يعرفني.
إنها الرحلة الأسهل. الرحلة الأخف على قدميّ اللتين لم تتعبا.
رحلةُ التناقضات.. أُحب المشي، أتعبُ منه، لكني هنا لا أتعب. لا أُريدُ الراحة، فقط وقفتُ قليلًا خمس دقائق قُرب شاطئ البحر لتأكلَ الطفلة الصغيرة بعضَ البسكويت الذي حملتهُ لها، ولا أخفي أن جزءًا من ذلك لأستعيدَ ذكريات النزهات المسائية على شاطئ البحر في هذا المكان. شاطئ بحر مدينة "الزهراء"، المدينة التي تحوّلت لاحقًا إلى "نيتساريم". منطقة هادئة جداً، خفيفة، قد تمشي إليها من مدينة غزّة في دقائق قليلة، تجلسُ على شاطئها، تُراقب الغروب والبحر الوديع، بلا ضجّة. إنها ذكرياتٌ تحوّلت إلى رماد، مثلَ رماد المنازل وبقايا المدينة، التي خلّفها القصف الإسرائيلي على مدار سنة وأكثر.
ساعتان أو أكثر قليلاً، حتى دخلنا إلى مدينة غزّة. لم أعرف ملامحها، لم أعرف أين أنا وأيُّ مفترقٍ هذا الذي أقفُ عنده، إلا من خلال مئذنة جامعٍ شهير، ظلّت بقاياها أمامي. بدت غزّة مدينة أشباح. كانت أحياؤها محروقة ومدمّرة بكلّ ما فيها. لكنني منّيتُ نفسي وهدأتُها بلقاء الأهل. بكيتُ قليلاً على كتفِ والدي، وفي حضن أُمي. لم أحبس دمعي، ولم أُصدّق نفسي.
تزيدُ التناقضات. لا أعرفُ لها حلاً. لا أتعب بتاتاً. أحملُ "سلوان" على كتفيْ كأنني في مظاهرة أو حفلة شبابٍ غزّاوية، وأمضي. الناس من حولي أعداد كبيرة. هذا الذي يمشي مع طفلهِ وزوجته، وهذا الذي يمضي مع عائلةٍ كبيرة. هذه عائلة خفّفت من حملها، ففضّلت أن تمضي بأقل القليل، وغيرها تمشي بأحمالٍ كبيرة. الأب يحملُ الفراش والأغطية، الأطفال يحملون حقائب صغيرة، والأُم تحملُ معها بعضَ الطعام.
مشاهدُ عديدة رأيتها. أشخاصٌ لا أعرف كيفَ تمكنوا من كلّ هذا الحمل. ناسٌ يجرّون من خلفهم عرباتٍ صغيرة، أو بقايا بلاستيك أو أشياء ربطوها بحبلٍ كبير طوال الطريق، وحطّوا عليها كثيراً من الأحمال وجرّوها. كل هؤلاء أفهمهم. هؤلاء فقدوا بيوتهم، فقدوا كلّ شيء، لم يبقَ لهم إلا بقايا الخيمة التي عاشوا داخلها في الجنوب، يحملونها معهم إلى الشمال، كي يعيشوا فوق الرُكام.
مشهدُ العودة، رغم فرحه وجماله، وكونه المشهد الأعظم بالنسبة إلى الناس، إلّا أنهُ يحملُ كثيراً من الألم. كُلنا نمضي بأقدامنا وبإرادتنا الكاملة، كي ننصهر في آلامنا. نغرقَ فيها، كمن يقولُ للبحر خُذني، وإن كنتُ لا أعرف السباحة.
بعض الناس رموا أمتعتهم، ألماً من عدم القدرة على حملها. البعض الآخر قرَر افتراشَ الطريق بفراشه الذي يحمله، كي يُطعم أطفاله. طفلة أُخرى كانت تبكي بجانبنا، لا يتجاوز عمرها السنة والنصف، ومع البرد الشديد في صباح يومٍ كهذا، على شاطئ البحر، قرّرنا أن نُعطيها جوارب صغيرة كنا نحملها، قُلنا لأمها أن تأخذها لتدفئ قدمي الطفلة.
رأيتُ ما رأيت، في نفسي وفي غيري. نحنُ نعود. نحنُ نجري بقلوبنا قبلَ أقدامنا. نهرولُ بالحُب والأمل، نمضي بلهفة المُشتاق إلى الأهل، وإلى المدينة. رأينا ذاك الذي ما أن دخلَ إلى غزّة حتى سجدَ على أرضها، وغيرهُ الذي ظهرَ بمقطعٍ مصوّر وهو يقول لصديقه: "احنا دخلنا غزة. يا الله، هيّنا رجعنا". هكذا كُنا. نمضي بلهفة، نمشي بسرعة على الرغم من حملنا الثقيل.
ساعتان وأكثر قليلًا، حتى دخلنا إلى مدينة غزّة. لم أعرف ملامحها، لم أعرف أين أنا وأيُّ مفترقٍ هذا الذي أقفُ عنده، إلا من خلال مئذنة جامعٍ شهير، ظلّت بقاياها أمامي بعد تدمير الجامع.
كنتُ أخبئ المفاجئة لأهلي، يعرفون أنني سآتي اليوم، من دون معرفة الموعد. وصلت السيارة على المفترق الذي تواجدتُ عليه فورَ وصولي، وفيها شقيقي الأكبر "مُحمّد". أخذنا نتجوّل قليلًا بالسيارة في شوارع المدينة، التي رأيتُها من خلف الأطلال قبل دخولي أوّل شوارعها، ركاماً ورماداً.
الزيتون يا أبي
03-11-2024
لم أعرف شيئاً في غزّة، إذ بدت مدينة أشباح. كانت أحياؤها محروقة ومدمّرة بكلّ ما فيها. لكنني منّيتُ نفسي وهدّأتُها بلقاء الأهل، الذي كان مؤلماً، بقدر ما يحملُ من الفرح. بكيتُ قليلاً على كتفِ والدي، وفي حضن أُمي. لم أحبس دمعي، ولم أُصدّق نفسي.
تجوّلتُ قليلًا في المبنى الكبير الذي عشنا فيه، في بيتي وبيوت إخوتي وبيت أهلي، أو "بيت العيلة" الكبير، كما يعرفهُ الناس. رأيتُ الشقق المدمّرة فيه. المطبعة الكبيرة التي أسسها والدي واحترقت، وصارت بقايا صغيرة سوداء. رأيتُ سطح المبنى الذي تم تدميره بالكامل. دخلتُ إلى بيتي الصغير المحترِق، تجولتُ قليلاً لأحاول تذكّر أغراضي التي نسيتُها في رحلة النزوحٍ. لم أعرف شيئًا، لم أشعر بشيء.
وأنا في الأعلى بعد جولةٍ طويلة، أحاول التصديق، أحاول الاستيقاظ. فجأة أقولُ لنفسي: أين أنا؟ هل أنا أحلُم؟ متى أستيقظ. يبدو أنني لن أستيقظ من هذا الحُلم، فأنا في غزّة.