إعداد وتحرير: صباح جلّول
يفخر أهل مدينة "كورك" الإيرلندية بأنفسهم لسبب واحدٍ بالتحديد. ليس سبب فخرهم طعامهم أو شرابهم أو مميزات مدينتهم ومعالمها وطبيعتها، إنما هو "تضامنهم". يقولون إن "التضامن الإيرلندي كبير. لكنّ التضامن الكوركي هائل"، بحسب أحد منشوراتهم على صفحة "تضامن كورك مع فلسطين" على انستغرام. تخرج جموع الناس من سكان المدينة كلّ أسبوع بلا تأخير أو كلل أو ملل، في مظاهرة واحدة على الأقل لدعم غزّة، ورفع الصوت ضد الإبادة الإسرائيلية – أمرٌ لم نرَ مثله، للأسف، في جلّ مدننا العربية. تفتخر "كورك" بالوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ، يقوم ناشطوها بالضغط السياسي على ممثليهم، يدعون لقطع العلاقات التجارية، ولدعم حركة المقاطعة بكل أشكالها، وتتداعى إلى شوارعها عائلات بأكملها، بصغارها وكبارها، بل يولون تثقيف الأطفال سياسياً أهمية كبرى.
انتشر مقطع فيديو في الأيام الماضية من إحدى المظاهرات التي نُظّمت في المدينة نهاية العام 2024، لطفلة تلقي قصيدة بسيطة الكلمات، لكن ثاقبة المضمون وصائبة في وصفها أصفى معاني التضامن، دون أدنى تكلّف، وبلا أي شعار رنّان، تقول فيها:
"أحب وشاحكم
شعبي يلبس مثله أيضاً
أنتم ليس باستطاعتكم ارتداءه
لأنكم تُعاقَبون على ذلك
سأرتديه أنا عنكم..
أحب علَمكم
شعبي يرفعه أيضاً
أنتم ليس باستطاعتكم رفعه
لأنكم تُعاقَبون على ذلك
سأرفعه أنا عنكم..
أحبّ صمودكم
شعبي صامدٌ أيضاً.
عبئكم ثقيل
إذاً سأحمله معكم
شعبكم شعبي، وشاحكم وشاحي
علَمكم علَمي، نضالكم نضالي
حملكم ثقيل..
سأحمله معكم..."
***
الآن، وفيما نترقّب جميعاً خبر وقف إطلاق النار في غزة على أحرّ من جمر، ينبغي أن نفكّر جماعياً بمعاني "التضامن"، أوجهه وجدواه بأشكاله المتعددة، وما حققه (ولم يحققه) خلال نحو 15 شهراً من الإبادة الصارخة بعلنيتها. لقد قالت لنا تلك الطفلة في قصيدتها أنه يعني، بوضوح شديد، المشاركة في حمل العبء.. أن لا يبقى العبء على أكتاف أهل غزة وحدهم، أن نعتبر أنفسنا شركاء، أن يعتبر الجميع أنفسهم شركاء في النضال حتى نتقاسم العبء الثقيل، فلا يعود ثقيلاً..
بمعنى آخر، أن نقول "لن نتخلّى عن فلسطين" في وجه الهمجية المرعبة، كما قال الناس في لبنان فيما يرثون بيوتهم المدمَّرة وأبناءهم المقتولين.. ألّا يكون ردّنا الانسحاب من المشهد، بل تقاسم الهموم.
من مظاهرة يوم السبت في 11 كانون الثاني/يناير 2025 في مدينة "كورك". رفع المشاركون يافظات تدعو إلى تحرير الطبيب المعتقل لدى جيش الاحتلال حسام أبو صفية، وإلى إدخال المساعدات والطعام الذي يمنع الاحتلال دخوله. (الصور عن صفحة (StreetsCork) على انستغرام).
ستنتهي الحرب، ولن تنتهي مفاعيلها في غزة، وفي كل واحد فينا كان شاهداً عليها.. هذه هي إحدى تلك الواقعات التي تغيّر المرء إلى الأبد (أو هكذا يجب أن تكون على الأقل!). ولعلّ العالَم تغيّر بالفعل، وإن لم يكن ذلك بالقدر الكافي، وثمة أدلة عليه في كل مكان في العالَم.
في أيرلندا، احتفلت مدينة "كورك" في كانون الأول/ديسمبر 2024 بخبر إغلاق السفارة الإسرائيلية في مدينة "دبلن". اعتبرته "كاثي جلافانيس"، إحدى قادة حملة "تضامن كورك مع فلسطين" انتصاراً للناشطين لفلسطين في كل مكان، فيما قالت "كريستينا كولينز"، رئيسة حملة الاحتجاج، إن الدعوة المؤيدة للقانون الدولي والمؤيدة لفلسطين من قبل الجمهور الأيرلندي كانت "قوية لدرجة أنها اخترقت جدران الفصل العنصري للسفارة الإسرائيلية في دبلن وهزتها في الصميم"، حسب صفحة "مقاطعة" على منصّة "إكس" التي ترصد نشاطات الاحتجاج وميادين المقاطعة ومحاولات التصدي للتطبيع.
في السويد، أعلن اتحاد عمال الموانئ السويدي عن حظر حركة المواد العسكرية من وإلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، ابتداءً من 27 كانون الثاني/ يناير 2025. وقال الاتحاد إنّه يقوم بذلك تضامناً مع حركة المقاطعة ورفضاً للإبادة.
في سنغافورة، أقام طلّاب الجامعات وخريجوها وقفة احتجاجية في 14 كانون الثاني/يناير 2025، حداداً على الطلاب الفلسطينيين الذين قُتلوا خلال الإبادة في غزة. وطالب الطلاب المحتجون بإنهاء جميع أشكال التعاون وقطع كلّ العلاقات بين الجامعات في سنغافورة والمؤسسات الأكاديمية وغيرها في دولة الاحتلال الإباديّة.
في إيطاليا، حاصر أربعون ناشطاً شركة "ليوناردو" الإيطالية التي تزوّد طائرات "الأباتشي" والمقاتلات الإسرائيلية "إف-35" بقطع مختلفة، وكانت مقرات الشركة في لندن تعرضت لاحتجاجات مماثلة.
في بريطانيا، اقتحم ناشطون مكتب "هيئة الإذاعة البريطانية" (BBC) في "برمينغهام" احتجاجاً على تغطية الهيئة المنحازة للإبادة في غزة. وقد كان أكثر من 100 موظف في الشبكة وقّعوا على بيان يتهمها بالتحيز لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي في تغطيتها..
في بلجيكا، نُشرت رسالة مفتوحة يوم 15 كانون الثاني/يناير 2025 موقعة من أكثر من 7000 عامل في مؤسسات أكاديمية وطلاب وأكاديميين، يطالبون بقطع كل العلاقات مع الجامعات الإسرائيلية.
... الأمثلة كثيرة جداً ومتنوعة، من كلّ أنحاء العالم، من احتلال ساحات الجامعات في الولايات المتحدة إلى إدانة دولة الإبادة على منصات لم نكن لنتخيل أن تُستحضَر فيها فلسطين.
خرّيجون من أجل فلسطين: افتتاح يوم جديد
16-05-2024
في غمرة عجزنا الكبير، والقاهر، عن إيقاف الإبادة، لنتذكر ما تختزنه قدرتنا الجماعية على التضامن الحقّ، أينما كنا في العالم، لإقصاء وعزل دولة الاحتلال الإسرائيلي - الإباديّة بجوهرها وتعريفها وممارستها. ليس التضامن لحظياً ولا مؤقتاً. هو مبدأ يُنْجينا جميعاً، يرفعنا جميعاً، والطريق طويل..