إعداد وتحرير: صباح جلّول
على جدرانٍ متقابلة في بهو "المتحف الفلسطيني" في رام الله، عُلّقت أربع جداريات ضخمة لفنانين تشكيليين فلسطينيين من روّاد التجريب والإبداع. أزيح الستار عن هذه الجداريات يوم الاثنين في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر 2024، في الذكرى السابعة والثلاثين لاندلاع الانتفاضة الأولى التي كانت حافزاً لتأسيس حركة "نحو التجريب والإبداع" الفنية عام 1989. في ظلال الانتفاضة تأسست الجماعة الفنية في لحظة ثورة شعبٍ على محتليه ومضطهِديه، حينما شعر فنانون فلسطينيون بأن عليهم تأكيد كون فنهم غير منفصلٍ عن مسار نضال شعبهم في الشكل والمضمون والغايات، إنما هو مسار واحد: انتفاضة تعمّ مجالات الحياة كلها. يبرز ما قاله الفنان الفلسطيني "سليمان منصور" عن تلك المرحلة كوصفٍ لفلسفة الجماعة الفنية في سياق اللحظة التاريخية: "منذ عدّة سنوات وأنا أبحث، كغيري من الفنّانين في الأرض المحتلّة، عن أسلوب فنّي محلّي مميّز، وقد تنقّلت في بحثي هذا من مدرسة فنيّة إلى أخرى، مُستعمِلاً المواد الخام المعروفة المتواجدة في الأسواق، لكنّي لم أستطع أن أصل إلى شيء. وجاءت الانتفاضة وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت حينها بضرورة التعامل مع اللّوحة من نفس المنطلق وبالفلسفة ذاتها".
"سليمان منصور" هو أحد الفنانين الأربعة الذين أسسوا جماعة "نحو التجريب والإبداع"، إلى جانب "نبيل عناني" و"فيرا تماري" و"تيسير بركات". قرر الأربعة أن مادة فنّهم ستكون أرض فلسطين نفسها، يستخرجون منها ما يدل عنها حسياً ورمزياً، فتكون أعمالهم التشكيلية والتجهيزية منها وعنها، مقاطعين المواد الغريبة عنها عضوياً وجمالياً.
رحيل ليلى الشوّا.. ولكن إرثها حاضر
27-10-2022
"أطالِب بنفَسي"... فتحي غبن الذي رسم هويّة البلاد
02-03-2024
جاء في بيان الجماعة التأسيسي حينها أن الفنانين اختاروا أن يخوضوا "مغامرة البحث الجمالي، ومحاولة الارتقاء بالرؤية الفنيّة إلى مستوى يؤكّد حريّة الفنّان الداخليّة، وقدرته على استشراف الجمال والحقيقة، في خضمّ نضاله اليوميّ لنيل الحريّة". تعود في قلب اللوحة الأرض السليبة، الموضوع الدائم لسعي الفلسطيني نحو التحرير، وتعطي مساحاتها لموروث الشعب الفلسطيني ونضاله. وفي الجداريات الأربع، يبدو جلياً هذا الانسجام في المواد والموضوع واللون والفلسفة العامة، على الرغم من تباين الأساليب والمدارس الفنية لكل من الفنانين الأربعة الكبار.
انخرط العديد من الفنّانات والفنّانين الشباب والمتطوّعات والمتطوّعين من كليّة الفنون والموسيقى في "جامعة بيرزيت" في سياقات التحضير والإنتاج لهذه الجداريات، ضمن شراكةٍ مع الجامعة أتاحت الاستفادة من قدرات طلّابها ومساحاتها ومشاغلها ومعدّاتها، "تكريساً لمبدأ "العونة"، والتكافل الاجتماعي التطوّعي، الذي شكّل جوهر الانتفاضة الأولى وروحها"، حسب بيان المتحف، الذي أكد أن هذه الجداريات ستكون "نواة المعرض الدائم للمتحف الفلسطيني، لتبقى على جدرانه ما بقي، ولتقدّم شكراً وعرفانًا لفنّاني جماعة "نحو التجريب والإبداع"".
تعكس هذه الأعمال الإبداعية الهائلة عصارة مسيرة كل من الفنانين الأربعة وحلمهم الدائم بفلسطين التي في خاطرهم... وخاطرنا!
"على جناح ملاك"، جدارية الفنان "سليمان منصور" التي تطلّبت منه عملاً لمدة 6 أشهر بمساعدة المتطوعات والمتطوعين من الطلاب، تُصوِّر مدينة القدس على خلفية من تشققات طينية تمثّل انكسارات المدينة والشقاء الذي يحيطها به الاحتلال، تعلوها زخارف تستوحي عناصر التطريز الفلسطيني.
"مسيرة الأشجار" للفنان "نبيل عناني" جدارية تُبرِز الرابطة التي لا انفصام لها بين الإنسان والشجرة/ الأرض في فلسطين، كما توحي بحماية الأرض والشجر للمقاوِمين والناس خلفها وبينها.
"البحث عن الأرجوان على شواطئ المتوسط" هو عنوان جدارية الفنان "تيسير بركات"، الذي اختار العودة إلى العناصر البدائية الأولى لحضارة الإنسان: النار والخشب، مستعملاً الرموز الكنعانية وأساطير الأرض الضاربة في القدم للتدليل على الانتماء التاريخي لأرض فلسطين.
"حارسات الأرض" للفنانة "فيرا تماري" هي نسخة مضخّمة لعملٍ سابقٍ لها بالعنوان نفسه كانت أنتجته عام 2002. تتشكل الجدارية من 3288 شجرة زيتون من الخزف تمتد على مساحة 28 متراً بتدرجاتٍ لونية تدلّ على ثراء طبيعة فلسطين وتضاريس أراضيها، وقد استغرقها العمل عليها بمساعدة طلاب جامعة بيرزيت نحو 8 أشهر.
"آرت زون فلسطين" واستعادة الفنّ من الإبادة
05-12-2024
يذكّر بيان "المتحف الفلسطيني" الذي أعلن عن افتتاح المعرض الدائم لهذه الجداريات بأن المسؤولية اليوم في سياق حرب الإبادة على غزة مضاعفة: "أُنتجت الجداريّات الأربعة في زمن حربٍ لا تشبه غيرها من الحروب. وفي الوقت الذي يُبادُ فيه بلدٌ بأكمله، بشعبه، وبيوته، وجامعاته، ومكتباته، وشوارعه، ومراسم فنّانيه، نختار، نحن الفلسطينيّين، كما فعلنا دائماً، أن نركض إلى قلب المعركة، وننتزع من عتمتها ما نستطيع إنقاذه. وكلّما ازدادت شراسة الحرب ازددنا شراسةً في أن نحيا الحياة، وننتج فنّاً بعمرٍ أطول من أعمار الحروب مجتمعةً، فنّاً سيبقى بعد أن تموت الحرب".