أتسمعين؟ أغنيةُ الطير، مرثيةٌ لمن رحل وأتى، في عزاء غير معلن، نتأنق لأجله، كل يومٍ، أنا وأنتِ.
"إنها سنةُ الجراح". هكذا استهل "سنان أنطون" كلمته في حفل تأبين صديقه "إلياس خوري"، الذي أقيم مؤخراً في "مركز هاكوب كيفوركيان" في جامعة "نيويورك". لم ير إلياس نوبة الحرب الأخيرة ضد الكيان. ضُرب كما ضَرب، بمعزلٍ عن "الراكضين إذا انجابت عجاجتها"، كما نعتهم "محمد مهدي الجواهري". تخفت المعركة الآن، وليلٌ طويلٌ يخيم على فلسطين جنوباً.
أما أنا، فعُدتُ إلى "بغداد" هذا الصيف، بعد عامٍ آخرٍ من الجراح، وقد توضئنا بعار فضيحة نطمطمها بتفاهة الأيام. نكسةٌ لُقنا بواكيها في مدارس العراق، يوماً ما، في ظُلمة صباحات الحصار، ثم انطلقنا نترنح في اُفقٍ ضيقٍ من النكبات. أشلاءُ السنين، أكوامٌ عبرناها، حتى وصلنا هذه الضفة، حيثُ نقفُ الآن، قطيعاً من الخرسان.
____________
من دفاتر السفير العربي
عشـرون عامـاً على الحرب على العـراق
____________
في "بغداد"، لم أر أثراً لبني العباس. زُنجر أحفادهم إلى أبواب مراكز التسوق، وأحترن بأي حلةً يهبطن سُفلاً إلى الهاوية. هنُاك من تقرأ ومن تثور. في "شارع المتنبي"، ترجمات "جيل دولوز" و"فالتر بنيامين" و"رولان بارت" تروق لجيلٍ جديدٍ من القراء. وفي الجنوب، حيثُ طيفُ "البصرة" و"الناصرية"، تتناوب الأيدي والحناجر على رشقِ ما أورثته لهم\ن أمريكا، تلك الجثة الرافدينية التي تنهشها إيران الآن، بهتافٍ أو بنِعال، حتى يعود السحل، وهكذا.
في شوارع القرية-العاصمة بغداد، في الغبرة تحت جسور النهضة النيوليبرالية، يُسافر الغني بالميرسيدس "جي كلاس"، بينما يقطع الفقير شوارع المدينة بال"توك توك"، تحت أضواء النيون تحديداً، كما في "لاس فيغاس". المشهد هو ذاته: أشباحٌ يسكرون حتى عتبةِ الموت عند النهر في خرائب "شارع أبو نؤاس"، أمواتٌ يحملقون من لافتات نعيٍ اهترأت كما الوعيد والشعار، وصبية ما، في تقاطع سيرٍ ما، تمد يداً هزيلةً لمن لا يرى.
تختفي أشجار النخيل وتُردم الحدائق، بينما تُبتر بيوت العقود السابقة، وتترهل تماثيل ألف ليلة وليلة ل"محمد غني حكمت"، بين ما يتطاير من نفاياتٍ في الريح. على الرُغم من "حملة إحياءٍ" انتقائية قُرب شارع المُتنبي، يبقى قلبُ المدينة على جانبي "شارع الرشيد" ميتاً كمسرح جريمةٍ في الليل، لا يَنْبِس.
العمى الطوعي، ورد الباب على هلوسات الذاكرة، هو الحل لترك الجسد، لا الضمير، حياً في العراق اليوم.
"بغداد" لم تعد هناك. كان "بنيامين" قد وصف "نهر السين" كمرآة باريس التي لا تنام. رافقتني كلماته في طريق عودتي من عرض سينمائي في "القصر العباسي" على ضفة "دجلة"، ذات ليلة، سيراً على جسر الشهداء، حيثُ سالت دماء المحتجين في "انتفاضة الوثبة"، وخلّدهم الجواهري في قصيدةٍ إلى أخيه الشهيد "جعفر"، كما "طارق مظلوم" في لوحة ملحمية تزين جداراً في "قاعة فائق حسن"، في ما يُسمى وزارة الثقافة اليوم. كان "ابن جُبير" قد سبق بنيامين عندما رأى في دجلة مرآةً تلمعُ بين إطارين.
سقطت "بغداد" وتهشمت الأطر، كبورتريه العراقي التي "فقدت إطارها في انفجارات التاريخ المستعادة"، كما يقول "سركون بولص". كان الرحالة الأندلسي بصيراً عندما قال أن ما تبقى من المدينة العباسية هو الأسم فقط. فما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.
وبينما تنتشر وحدات من أجهزة الأمن هنا وهناك، وتمتد أسوار الإسمنت لتحتضن المنطقة الخضراء، تبدو العاصمة في حالةِ طوارئ تستترُ تحت قشرةٍ هشة، في وضعٍ ما فوق الطبيعي، طَبَعتهُ القوى السياسة التي تتشبثُ بالسلطة عبر تحالفات عابرةٍ للطائفية، ويد تضربُ من حديد، علناً أو، كما عهدنا منذ انتفاضة تشرين، في الخفاء.
في زيارةٍ لطلل المسرح الوطني، حيثُ تؤدي الفرقة السمفونية الوطنية مقطوعات متنوعة ل"جواكينو روسيني"، "أستور بيازولا" وآخرين، نكايةً بوضاعة الحاضر، رأيتُ في إيماءات المايسترو "علي خصاف"، الذي وقف في بؤرة نورٍ توسطت عتمة المسرح، محاولةً عبثيةً لايقاظ الموتى.
أنْ تُصلَب البصرة بعد السيّاب
07-04-2024
فبدت "بغداد" شاحبةً كأيام الحرب، رغم الواحات الكرنفالية التي وشمت وجهها هنا وهناك، ودوخة خطاب الاستقرار. تختفي أشجار النخيل وتُردم الحدائق، بينما تُبتر بيوت العقود السابقة، وتترهل تماثيل ألف ليلة وليلة ل"محمد غني حكمت" بين ما يتطاير من نفاياتٍ في الريح. على الرُغم من "حملة إحياءٍ" انتقائية قُرب شارع المُتنبي، يبقى قلبُ المدينة على جانبي شارع الرشيد ميتاً كمسرح جريمةٍ في الليل، لا يَنْبِس.
وبينما تنتشر وحدات من أجهزة الأمن هنا وهناك، وتمتد أسوار الإسمنت لتحتضن المنطقة الخضراء، تبدو العاصمة في حالةِ طوارئ تستترُ تحت قشرةٍ هشة، في وضعٍ ما فوق الطبيعي، طَبَعتهُ القوى السياسة التي تتشبثُ بالسلطة عبر تحالفات عابرةٍ للطائفية، ويد تضربُ من حديد، علناً أو، كما عهدنا منذ انتفاضة تشرين، في الخفاء.
ترنيمة إلى غزة
14-10-2023
أما الحرب على غزة، فبدت كظاهرةٍ بعيدةٍ تكادُ لا تمرُ على لسان، حتى أصبحت شوارع "عاصمة الرشيد"، كسائر مدن المنطقة، مرآةً صماء للابادة. لا تسليماً ولا استسلاماً طبعاً، بل نفوراً من مُصادرة القضية وتسليعها حقاً، مع أي مظاهر للتعبير عن التضامن، كما نرى الآن.
وليتنا لم نر.
عُدتُ إلى "بغداد" ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ.