"حاملات الشَّرِيْم" في اليمن

يُعدّ "الشَّريم" من أهم أدوات العمل الزراعي في الريف اليمني. إذ يغلب على استخدامه في حصد الزرع أن يكون الرجال هم من يقومون بذلك. أمّا استخدامه في حشّ العشب (الحشائش) فيغلب عليه أن يرتبط بالنساء الريفيّات، لا سيما بعد أن اكتسحت شجرة "القات" مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة، إذ تعايشت "الحشائش" مع هذه الشجرة.
2024-10-24

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
حاملات الشريم في الحقول، اليمن

يرد لفظ "الشَّريم" في المحكية اليمنية للدلالة على تلك الأداة، التي تُستخدم في قطْع سيقان الذرة، وسيقان القمح، أو حشّ العشب. فهو "منجلُ حصدِ الزرع"([1])، وله شفرة شبه دائرية، ونصل معقوف.

ويُعدّ "الشَّريم" من أهم أدوات العمل الزراعي في الريف اليمني. إذ يغلب على استخدامه في حصد الزرع أن يكون الرجال هم من يقومون بذلك. أمّا استخدامه في حشّ العشب (الحشائش) فيغلب عليه أن يرتبط بالنساء الريفيّات، لا سيما بعد أن اكتسحت شجرة "القات" مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة، إذ تعايشت "الحشائش" مع هذه الشجرة، التي انعكس اهتمام المزارعين بها إيجاباً على نمو "الحشائش" في مزارعها بكثافة.

وبذلك، فقد صارت "الحشائش" بديلاً مهمّاً لغذاء المواشي التي تتم تربيتها منزليّاً. ولأن المرأة في أرياف اليمن هي من تتولى تربية الحيوانات المنزلية، فإنها هي من تضطلع بتوفير حاجتها الغذائية. وقد صارت عملية إزالة "الحشائش" من مزارع القات عملاً يكاد أن يكون مقصوراً على المرأة، إذ يغلب أن تحرص على إنجازه بشكل شبه يومي، بما يفي بحاجة مواشيها من الغذاء.

لقد اعتادت المرأة الريفية في اليمن على هذا العمل، بتفاصيله التي تبدأ بعملية حشّ "الحشائش" من المزارع، مروراً بجمعها وحزْمها في قطعة قماش كبيرة، تكون قد أعدّتها لهذا الغرض. ثم تحملها على رأسها، وتعود بها إلى المنزل. كما قد تستعين بعض النساء بالحمير في عملية نقل "الحشائش"، بمعية ما يحملنه فوق رؤوسهن.

أقامت الفنانة التشكيلية اليمنية "إيميليا الحميري"، منتصف آب/ اغسطس 2024، في مدينة "إب" (وسط اليمن) المعرض التشكيلي "حاملات الشريم"، الذي يضم عدداً من اللوحات عبّرت من خلالها عن قضايا النساء في اليمن فتجلّت فيه ظروف العديدات وخصّت المرأة المستقلة بتسمية "حاملة الشريم"، بوصفها مكافِحة، صامدة، غير مستسلمة لظروف الحياة القاسية، قادرة على إثبات وجودها على الرغم من التضييق المستمر عليها.

ومن أهم ما يمكن أن يلفت انتباه مسافرٍ عبْر طُرق ريفيّة تخترق أودية زراعية في اليمن، هو ما سيلاحظه من تواجد كبير للمرأة في المزارع. إذ سيرى امرأة بمفردها في أكثر من مزرعة، وسيرى جموعاً من النساء في عدد من المزارع. كما سيرى منهنّ العائدات، وعلى رؤوسهن ما استطعن توفيره من هذا الغذاء الحيواني.

الشريم لا يمنع الاناقة

تفاوت الشتاء والصيف

يتفاوت الريفيون اليمنيون في امتلاكهم للأراضي الزراعية، بين من يملك مساحات كبيرة، ومن تقتصر ملكيته على مزرعة أو اثنتين. وفي كلتا الحالين، فإن نساء هؤلاء المُلّاك يجدن مصدر التغذية الحيوانية هذا في أراضيهم، التي يغلب عليها أن تكون مزروعة بشجرة القات.

وفي مقابل ذلك، هناك من لا يملك أرضاً زراعية. وعلى ذلك، فبإمكان نسائهم أن يحصلن على جزء كبير من "الحشائش" غذاءً لمواشيهن، من مزارع الميسورين، الذين لا يمانع كثيرٌ منهم في ذلك، لا سيما أيّام الصيف، حينما تنمو "الحشائش" بكثافة في مزارع "القات"، وبين صفوف أشجارها، خاصة الصغيرة منها، التي تتضرر بهذه الكثافة، فيكون لا مناص من إزالتها.

تحيل كثافة نمو "الحشائش" في مزارع "القات" صيفاً، على نوع من التفاوت بين فصلي "الصيف"، و"الشتاء"، في مستوى ما يتوافر فيهما من هذا المصدر الغذائي للحيوانات المنزلية. كما تحيل ــ من ناحية أخرى ــ على ما يترتب على هذا التفاوت من اتخاذ إجراءات متسقة مع خصوصيته، تقوم بها المرأة، حرصاً منها على عدم التفريط في كثافة "حشائش" الصيف. إذ تعمل كثير من النساء على توفير أكبر قدر ممكن منها، بكميات تفيض عن الحاجة اليومية لتغذية المواشي، تقوم بتخزينها للاستفادة منها في أيام فصل الشتاء، الذي ينخفض فيه مستوى نمو "الحشائش" في مزارع "القات" وأطرافها.

من أهم ما يمكن أن يلفت انتباه مسافرٍ عبْر طُرق ريفيّة تخترق أودية زراعية في اليمن، هو ما سيلاحظه من تواجد كبير للمرأة في المزارع. إذ سيرى امرأة بمفردها في أكثر من مزرعة، وسيرى جموعاً من النساء في عدد من المزارع. كما سيرى منهنّ العائدات، وعلى رؤوسهن ما استطعن توفيره من هذا الغذاء الحيواني.

تمر عملية تخزين "الحشائش" بتفاصيل فاعلة في الحفاظ عليها، كأن يتم تقسيم أكوام "الحشائش" فور وصولها إلى المنازل حُزماً صغيرة، ثم يتم رفعها فوق أغصان أشجارٍ عادةً ما تكون قريبة من المنزل أو في محيطه. وفي حال عدم توافر هذه الأشجار، يكون البديل مجموعة من النتوءات الصخرية، التي يجب أن تكون مرتفعة بشكل كافٍ للحيلولة دون وصول المواشي إلى ما يُفرش فوقها من "الحشائش". وعلى هذه الحال تبقى "الحشائش" أياماً كافية حتى تجف. بعد ذلك، تقوم المرأة بتجميعها ونقلها إلى غرفة خاصة بهذا النوع من الغذاء الحيواني. أو قد تكتفي بتجميعها ورصفها فوق أغصان شجرة التجفيف نفسها، في حال ما كانت لا تملك غرفة خاصة بتخزينها.

بكامل ملابس العمل

أغنية ومعرض تشكيلي

يحظى هذا النوع من عمل المرأة الريفية في اليمن، بحضور مطرد في الثقافة الشعبية والذهنية الاجتماعية ومظاهر الحياة الريفية اليومية. لذلك، وجد طريقه إلى المجال الإبداعي، فحظي باهتمامٍ شعري وفني. إذ كتب الشاعر "راشد محمد ثابت"، قصيدته "حنين المفارق"، التي لحّنها وغنّاها الفنان "أيوب طارش عبسي"، فنالت هذه الأغنية شهرة كبيرة، ولم تتراجع مكانتها الأثيرة في الوجدان الاجتماعي والثقافة الشعبية حتى اللحظة، اتّساقاً مع استمرارية معطيات موضوعها الثانوي، الذي تمثّل في استهلالها الخطابي الموجّه بصيغة النداء، إلى النساء اللواتي يرتبط بهن هذا النوع من العمل الخاص بتوفير غذاء المواشي:

"يا حاملاتَ الشَّرِيْمْ *** وَالطَّل فوقَ الحشائشْ.

مُعَطَّرات الزِّنان([2]) *** فوقَ الصدور الزراكشْ.

هيا اسْبِقَيْنَ الطيورْ *** وِغَرِّدِيْنْ في الغَباشِشْ".

لقد تجانس عنوان الأغنية، مع موضوعها الرئيس المتمثل في "الحنين والغربة". وعلى ذلك، لم يحل هذا التجانس دون اشتهارها بعنوان آخر، هو موضوعها الثانوي "حاملات الشريم"، بما في شعرية هذا الموضوع من مشهدية تصويرية لسرب من النساء وهن في طريقهن إلى المزارع، في صباحٍ باكر، أحالت عليه جملة: "الطل فوق الحشائش"، كما أحال عليه جمع "الغَبَاشِشْ"، (مفرده غَبَش)، والغبش في المحكية اليمنية: "أول ضياء الصبح مختلطٌ بآخر ظلام الليل"([3]).

هناك من لا يملك أرضاً زراعية. وعلى ذلك، فبإمكان نسائهم أن يحصلن على جزء كبير من "الحشائش" غذاءً لمواشيهن، من مزارع الميسورين، الذين لا يمانع كثيرٌ منهم في ذلك، لا سيما أيّام الصيف، حينما تنمو "الحشائش" بكثافة في مزارع "القات"، وبين صفوف أشجارها، خاصة الصغيرة منها، التي تتضرر بهذه الكثافة، فيكون لا مناص من إزالتها.

وفي هذا السياق الإبداعي نفسه، تأتي عنونة المعرض التشكيلي "حاملات الشريم"، الذي أقامته الفنانة التشكيلية اليمنية "إيميليا الحميري"، منتصف آب/ اغسطس 2024، في مدينة "إب" (وسط اليمن).

وبحسب تصريح أدلت به الفنانة "إيميليا" لوسائل الإعلام([4])، فإن معرضها يضم عدداً من اللوحات الفنية، التي عبّرت من خلالها عن عدد من قضايا النساء في اليمن. إذ تجلّت فيه: المرأة النازحة، والمرأة المهمشة، والمرأة التي تواجه مشكلات الزواج غير المتكافئ، والمرأة المربية التي فقدت المعيل كزوجات المغتربين، والأرامل والمطلقات، والمرأة ذات الهمة العالية، والمرأة المستقلة التي خصّتها الفنانة بتسمية "حاملة الشريم"، بوصفها مكافِحة، صامدة، غير مستسلمة لظروف الحياة القاسية، قادرة على إثبات وجودها على الرغم من التضييق المستمر عليها.

______________________

1-عباس علي السوسوة، "قَد اليمنية، أبحاث في الأبنية والنحو والاقتراض المعجمي". مركز عبادي للدراسات والنشر، ط1، صنعاء، 2020 ،ص30.

2-تبدو إضاءة النص جلية، في إحاطتها بالزّيّ الشعبي للمرأة اليمنية، والذي ترتديه "حاملات الشريم". فـ"الزِّنان" "جمع زَنّة وتجمع على زَنين أيضاً، والزَّنّة ثوب ليس له ساقان، ذو كُمِّين، له فتحة ذات أزرار عند الصدر، طوله يصل إلى قرب الكعبين. وقد تُطلق "الزّنة" على ثوب الرجل والمرأة معاً.

3-مطهر علي الإرياني، "المعجم اليمني (أ) في اللغة والتراث، حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية"، دار الفكر، ط1، دمشق، 1996، ص665.

4-"حاملات الشريم" معرض تشكيلي في إب للفنانة إيميليا الحميري يُسلِّط الضوء على معاناة وقضايا النساء". موقع يمن شباب نت، 18 آب/ أغسطس 2024. متاح على الرابط التالي:
https://yemenshabab.net/ar/sections/NEWS/Society%20and%20culture/88e205ff-5d57-11ef-9772-4292e6ba5caa

مقالات من اليمن

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...

للكاتب نفسه

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...

اليمن: كوارث السيول في "تهامة"

اتّسمت الاستجابة الرسمية في تعاطيها مع الكارثة، بمستوى متواضع، يتجلّى من خلاله الأثر البالغ للحرب والصراعات السياسية، في الوصول إلى هذه الحال البائسة التي ظهرت عليها الجهات المسؤولة في حكومتي...