يتفاوضون على دمنا

أهل غزّة يعرفون أنّ الحرب عليهم، والهُدنة ليست لهم. إنها هُدنة الأسرى الإسرائيليين، هُدنة ليعودوا إلى أحبائهم. أولئك الذين تفرّقوا بين شمال وجنوب غزّة، والذين صاروا في القاهرة وأهلهم في "خانيونس"، والذين صاروا في القبور، وأولادهم في الخيام، لن يجمعُهم أحد، ولن يُفكّر في مصيرهم أحد.. إنهم يتفاوضون على دم أهل غزّة، ومن أجل أسرى إسرائيل، فقط.
2024-09-12

المقداد جميل

محامي وكاتب من غزة


شارك
قصف اسرائيلي على خيام النازحين في مواصي خان يونس

مُذهل! العالم يستيقظ فجأةً، يستنكر، يُنادي بضرورة التوصّل إلى اتفاقٍ يوقف إطلاقَ النار. العالم يُكْثر من الضجيج. "مجلس الأمن"، يُصدر قراراً، يُصفّقون ويُهلّلون، "البيت الأبيض" يرى الاتفاق قريباً، "بايدن" يُريد الاتفاق بشدّة، "هاريس" تدعو إلى إنجاز الصفقة، و"ترامب" يُشجّع على إنهاء الحرب. دول العالم تتداعى إلى التنديد بهذه الحرب المُستمرّة منذُ عشرة أشهر.

لماذا؟ الأسرى. يجب إطلاق سراح المختَطفين الإسرائيليين، إنهم يُعانون في الأسر، عشرة أشهر من التعب والمُعاناة بعيداً عن الأحباب والعائلة والوطن. يجب أن يعيشوا بسلام، ساعدوهم، سريعاً أوقفوا إطلاق النار، وتوصّلوا إلى صفقة.

أنظرُ قليلاً إلى كُلِّ التصريحات المتعجّلة التي تُنادي بصفقة. أنظر ملياً. كُلها تختتم خبرها بأن الصفقة يجب أن تتم لسببٍ واحد: الإفراج عن الرهائن، وإعادتهم إلى الوطن.

تجري عجلة المفاوضات منذُ أشهر، ونحنُ نجري خلفها. لكن كيف؟ على عربة يجُرها حمار، في أسواق "دير البلح"، وفي شوارع "الزوايدة"، و"خانيونس" المُدمَّرة بين الأنقاض، وفي "المواصي" هرباً من الصواريخ، وفي غزّة وشمالها بحثاً عن الطعام. نجري ونجري ونجري، وتجري المفاوضات، إنهم يتعبون كثيراً، رحلاتهم الجويّة من باريس إلى القاهرة إلى الدوحة إلى روما إلى تل أبيب إلى واشنطن.. لكن، لا رحلة إلى غزّة، لا رحلة تحطُ هُنا، سوى رحلات الطائرات الحربيّة، التي تُوصل صواريخها إلى أحضان المدنيين، ولا رحلاتٍ سوى رحلات حاملات الطائرات الأمريكيّة والبوارج والمدافع التي فاقت مصاريفها مليارات الدولارات منذُ "السابع من أُكتوبر".

هذا الوقت الذي يمشي، ليس مجرّد وقتٍ عادي، ليست دقائق بسيطة يُضيّعها أيّ مواطن أو موظف في المواصلات، يحزن لأنّها سَرقت منهُ بعض ساعات العمل، او أخّرته قليلاً عن قهوته الصباحيّة... إنها نزيفُ الدم في أجساد أطفالنا. نزيفٌ مُستمر في أمعاء أهلنا القابعين في غزّة، يموتون جوعاً، ويشتهون شيئاً من نعيم "فاكهة الصيف" أو بعض "قطع اللحم"، كي يعيشوا قليلاً، قليلاً، كما ينبغي لإنسانٍ أن يعيش.

بينما تستمرُّ المفاوضات، التي تتكرّر منذُ أشهر، ويتكرّر معها التصريح الأمريكي المعهود على شكليْن: نحنُ نقترب من إتمام الصفقة، وهي في مراحلها الأخيرة. وتصريح: سنُقدّم مقترحاً آخر يسدُ الفجوات بين الطرفيْن، قد يكون الأخير. وأيُّ أخير؟ وأيُّ اقتراب؟ إننا في كُل يوم نقترب ونقترب.

قبل رمضان، اقتربنا من الصفقة، قالوا إن العالم العربي والإسلامي لن يسمح بأن تستمرّ الحرب في غزّة خلال "رمضان"، حرام، رمضان شهرُ الجهاد، لن يسمحوا بنزف الدم في شوارع غزّة، سيقفون ويغضبون، ستخاف إسرائيل. لذلك ستكون هُدنة، ولم تكن.

قبل العيد، قالوا من المُستحيل أن يعيش أهل غزّة عيداً بلا سلام، بلا هُدنة، فجاء العيد، وجاء الآخر، وبوابة الدم مفتوحةٌ على مصرعيها.

مقالات ذات صلة

قبل دخول مدينة "رفح"، قالوا إن الهُدنة قريبة، ولن تحدث المجزرة في "رفح"، لن يحتلوها، وسيتداعى كُلُّ العالم إلى إنقاذها، وإنقاذ النازحين فيها من مجزرةٍ مُحتملة، سيضغطون بما يكفي لتتمّ الهُدنة، يجب أن تتوقّف المأساة، فهؤلاء الناس لا يستطيعون أن يُكملوا نزوحاً آخر، فإلى أين يذهبون؟ ففشِل المُقترح، ودخل "نتنياهو" مدينة "رفح"، وهرب الناس، ومات الآلاف، ومشت الدبابات فوق أجساد النساء في "مواصي رفح".

في نهاية أيار/ مايو، قالوا إن هناك مُقترحاً، وجاءوا بتصريحاتهم من جديد، في بداية تموز/ يوليو، عادوا إلى الحديث عن المُقترح، ومع بداية آب/ أغسطس، وتحسباً، وتخوفاً من ردٍ إيراني ولُبناني، وقفوا جميعاً لإكمال المسرحية، وقالوا تعالوا يوم 15 آب/ أغسطس للتفاوض. قالوا التصريحات نفسها، تماماً كما تُذْكر في كُل كلمة، عُدنا إلى الكلمات نفسها: الاتفاق قريب، الصفقة تتم، الفجوات تضيق، النقاط الخلافية بسيطة، سننتهي منها، يجب أن تكون هُناك مرونة، الأطراف تتفاوض بإيجابية.

وجاءوا الآن من جديد، ليقولوا الكلمات نفسها، لا غرابة، يبدو أنّهم يقتصّون تصريحاتهم السابقة، على عجلةٍ من أمرهم، يستنسخون المؤتمرات والمقالات والكلمات من هُنا وهناك، وينشرونها من جديد. لا وقت لديهم، فمن لم يكُن لديه الوقت، ليرى ما يحدُث في غزّة ويتحرّك من أجلها، منذُ مجزرة المستشفى "المعمداني" وحتى مجازر مستشفى "الشفاء"، و"مواصي خانيونس"، و"النابلسي"، وغيرها، لن يكون لديه الوقت، حتى لترتيب كلامه عنها.

تستمرُّ عجلة التفاوض السياسية بغزارة، وتتنقل الوفود بين عواصمها المُختلفة، سعياً إلى التهدئة، بينما يغرقُ أهل غزّة في وادٍ آخر، لا يعرفُ عنهُ شيئًا أولئك الذين يقبعون في غرف التفاوض المُختلفة. لا أحد يعرف الآن عن التفكك الاجتماعي الذي حصلَ هُنا، لا أحد يعرف عن العوائل التي انهارت علاقاتها وحاربت بعضها، بسبب ضغط النزوح المُستمر وتكدّس الناس في غرفٍ صغيرة بأعدادٍ كبيرة. أكثر من 10 عائلات تعيش في بيتٍ واحد، وأكثر من 20 عائلة تستخدمُ حماماً واحداً في مُخيّم، وأشخاصٌ اضطروا لتحمّل أعدائهم، فقط لأن الحرب تقتلُ، ولا تعرف الصديق من العدو.

تستمرُّ هذه العجلة، ولا أحد يعرف مآسي الرجال، الذين ينطلقون كلّ صباح، لتعبئة المياه لأطفالهم، أو لأخذهم إلى التطعيم، أو إلى البحث عن طعام أو مصدرٍ للعيش. تستمرُّ العجلة في زمنٍ آخر، لا يعرفهُ أهل غزّة، زمنٌ بعيدٌ جداً، يعتقدون فقط أنّ هذه التصريحات والكلمات مُجرّد ترّهات وكلمات إنشائية فارغة، لا جدوى منها، ولا معنى لها.

تستمرُّ، وأهل غزّة يعرفون أنّ الحرب عليهم، والهُدنة ليست لهم، إنها هُدنة الأسرى الإسرائيليين، هُدنة ليعودوا إلى أحبائهم. أمّا أولئك الذين تفرّقوا بين شمال وجنوب غزّة، والذين صاروا في القاهرة وأهلهم في "خانيونس"، والذين صاروا في القبور، وأولادهم في الخيام، لن يجمعُهم أحد، ولن يُفكّر في مصيرهم أحد.. إنهم يتفاوضون على دم أهل غزّة، ومن أجل أسرى إسرائيل، فقط.

مقالات من فلسطين

ماذا يحدث في الضفة الغربية؟

2024-09-05

الرسالة الإسرائيلية من العدوان الإرهابي على المخيمات هي تلقين كلّ مكان يحتضن أيّ إمكانيات للمقاومة درساً من جهة، ومن جهة أخرى تحضير الأرضية لخطط استيطانية جديدة تأكل كل فلسطين. هدفٌ...

نحن لا نريد

الوضع في غَزَّة، يَتَفاقَم بِشَكلٍ مَأساويٍّ مَع كُلِّ يَومٍ يَمُرُّ. نَحن، الهمج، لَم نَعد نُريدُ النِّقاش ولا سماعكم، أَو الاِستِماع إليكُم. توقفوا عَن مُخاطَبَتِنا بِأَيِّ شَيء. سَنَقرِّرُ ما نُريدُ فِعلَه،...

لم يبقَ إلّا البحر..

يبدو ألّا شيء سيبقى للناس، إلّا البحر. فليذهبوا إلى البحر، فهو صديقُهم الوحيد، وهو الباقي فقط ليحفظَ ذاكرة أهل غزّة. لكن، هُناك، وعلى بُعد عشرات الأمتار القليلة، تقعُ الزوارق الإسرائيلية،...

للكاتب نفسه

لم يبقَ إلّا البحر..

يبدو ألّا شيء سيبقى للناس، إلّا البحر. فليذهبوا إلى البحر، فهو صديقُهم الوحيد، وهو الباقي فقط ليحفظَ ذاكرة أهل غزّة. لكن، هُناك، وعلى بُعد عشرات الأمتار القليلة، تقعُ الزوارق الإسرائيلية،...

شُهداء غزّة: هاجس الموت والحكاية

أنشأنا موقعاً إلكترونياً بلغتيْن، العربية والإنجليزية. كتبتُ افتتاحيّته، وكتبتُ رسالتنا. انشأنا فيه مساحة مخصّصة لإرسال القصص، وقسّمنا القصص على أقسام كثيرة، منها فئات الشهداء من رجال ونساء وأطفال وكبار سن،...

بلد القبعات..

في غزة - وبغض النظر عن القصف والقتل والاعتقالات - فالحياة "العادية" نفسها في غاية الصعوبة: التنقل، واثمان الحاجيات حين تتوفر، وحتى الحصول على قبعة تقي قليلاً من الشمس الحارقة...