إعداد وتحرير: صباح جلّول
جنازةٌ أولى..
لَفّ التُكتُك الصغير شوارع قرية سيدي غازي في محافظة كفر الشيخ المصرية مذيعاً عبر الميكروفون نداءاً واحداً: "البقاء والدوام لله. توفيت إلى رحمة الله تعالى المرحومة الحاجة يسرى جمعة، من غزّة، فلسطين، قريبة جميع الناس".
لقد ماتت الحاجة يسرى في السابع والعشرين من أيار/ مايو الحالي، وحيدةً بعيدةً عن بلدها وأهلها بعد أقل من شهور ثلاثة أمضتها في مصر، وبعد تمكّنها – بشقّ الأنفس - من مغادرة دائرة الإبادة الإسرائيلية الوحشية في غزّة رفقة ابنتها بشرى. في الخامس من آذار/ مارس الماضي، خرجت الحاجة يسرى من غزّة خروج المضطرّ المحزون، فكتب ابن اختها الصحافي ياسر عاشور على صفحته على تويتر: "بعد خمسة شهور من صمودها في حيّ الزيتون بمدينة غزة، وصلت خالتي يُسرى اليوم إلى رفح مشياً على الأقدام هي وابنتها التي رافقتها في الطريق تاركة خلفها زوجها وأبنائها وأحفادها. عرفت قبل شهر فقط بإصابتها بورم خبيث أدى لتدهور حالتها الصحية، وفي ظل عدم وجود أي فرصة لعلاجها في مدينة غزة، اضطرت للخروج وهي تشعر بانكسار كبير في داخلها، كيف لا وهي التي أكلت من علف الحيوانات لتبقى صامدة ثم يخذلها المرض (...)"
تأخّر علاج الحاجة يسرى، وقد أخّرته الإبادة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ومعها إغلاق معبر رفح المُعيب والمجرم وتكاليف عبوره الباهظة بشكلٍ سافل لا يقبله عقل. والحاجّة، وإن ماتت مريضةً، إلا أنّ موتاً كموتها أشبه بالقتل الذي تواطأ عليه العدو و"القريب".
في قرية سيدي غازي، سجيّت يسرى جمعة في نعش حمله أهل القرية على أكتافهم، وقالوا "واحدة منّا".. دفنوها بين موتاهم وأحبتهم وحزنوا لحزن عائلتها. كان مشهد تشييعها خير دلالة على الانفصام العميق بين مشاعر كثير من الناس وبين سياسات الحكومات الخائنة المطبِّعة الجبانة. سار أهل قرية سيدي غازي في جنازتها في موكب مهيب وصلّوا صلاة الجنازة على روحها كباراً وصغاراً فلم تكفهم مساحة الجامع، وامتدّت صفوف المصلّين إلى الشارع خارجه، فرفعوا أيديهم بالدعاء لتفريج الغمّ ونصرة أهل غزّة... فكيف تكون هذه مصر وتلكَ حدودها؟
***
فجأة، تذكّر الجميع قصيدة أحمد فؤاد نجم "رسالة إلى الحدود"، التي كتبها بعيد هزيمة 1967على لسان والد صعيدي يحيي ويوصي ابنه الجندي المصري الشاب. رددها الجميع تحت صور الشهيدين عبد الله رمضان وإسلام عبد الرازق المنتشرة على وسائل التواصل وفي الصفحات، كأنها كتبت لهما
جنازةٌ ثانية...
"إنّ القلب ليحزن وإنّ العينَ لتدمع وإنّا على قربكِ يا غزّة لمحزونون. غزّة في قُرب والعالم أصمّ أبكم أعمى عاقّ عن إنجاب الرجولة. الصمت سيد التعبير عن العجز". كتب المجنّد عبد الله رمضان (22 عاماً) على صفحته على فيسبوك في شباط/ فبراير الماضي. لم يقل الكثير بعدها على صفحته، فقط جملة أخرى وأخيرة يقول فيها متمنياً، "ياااا رب، هدوء تام في غزة". لكننا لم نعرف اسم عبد الله رمضان ورفيقه إسلام عبد الرازق إلّا بعد أن استشهدا يوم الاثنين في السابع والعشرين من أيار/ مايو الحالي، قتلاً على يد الجيش الإسرائيلي المجرم في حادثة تبادل إطلاق نار لم تتضح معالمها بعد، لأن الجانبين الإسرائيلي والمصري يرفضان الإدلاء بالمزيد من التفاصيل، فجاء في بيان حياديّ مقتضب للمتحدث العسكري باسم القوات المسلحة المصرية: "القوات المسلحة المصرية تجرى تحقيق بواسطة الجهات المختصة حيال حادث إطلاق النيران بمنطقة الشريط الحدودي برفح مما أدى إلى استشهاد أحد العناصر المكلفة بالتأمين"...
في قريته، "العجميين"، الواقعة في منطقة "أبشواي" بمحافظة الفيوم، شُيّع المجنّد الشهيد عبد الله رمضان إلى مثواه الأخير وسط أهله وناسه، بلا حضورٍ رسمي ولا طلقات مدافع تكرّم خدمته ولا كلمات تنعيه من قيادته المشغولة في لملمة القضية كأنها لم تكن. قال أحدهم "عنصرٌ طيّب تحت قيادةٍ خبيثة". غاب أسياد الدولة والسيادة والرُّتب، وبقي الأهل المفجوعون يملؤون الساحات. تعالت صيحات "لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله"، وانهمرت دموعٌ كثيرة على مصريّ شاب تكلّم باسمهم بدمه.
فجأة، تذكّر الجميع قصيدة أحمد فؤاد نجم "رسالة إلى الحدود"، التي كتبها بعيد هزيمة 1967على لسان والد صعيدي يحيي ويوصي ابنه الجندي المصري الشاب. رددها الجميع تحت صور الشهيدين عبد الله رمضان وإسلام عبد الرازق المنتشرة على وسائل التواصل وفي الصفحات، كأنها كتبت لهما.
"واه يا عبد الودود/ يا رابص ع الحدود/ ومحافظ ع النظام
كيفك يا واد، صحيح؟/ عسى الله تكون مليح/ وراقب للأمام
أمّك عَ تدعي ليك/ وعَ تسلّم عليك/ وتقول بعد السّلام
خليك جدع لأبوك/ ليقولوا "مين جابوك؟"/ ويمصّخوا الكلام
واه يا عبد الودود/ ع أقولّك وانت خابر/ كل القضية عاد
ولسة دمّ خيّك/ ما شرباش التّراب/ حسّك عينك تزحزح
يدك عن الزناد/ خليك يا عبدُه راصد/ لساعة الحساب"
(...)