كريمة عبود مصوِّرة فوتوغرافية من فلسطين مطلع القرن العشرين

تبرز الأهمية المضاعفة لما قامت به كريمة عبود (1893-1940)، والدلالات التاريخية والتراثية التى حملتها صورها، كونها "وثّقت البلاد وسكانها، مركِّزة على الحياة في المدن والقرى، متعامِلة مع الناس كجزء أصيل من البلاد المسكونة، لا كشخصيات زُرِعت داخل المناظر للتصوير"، ودحضت بالتالي شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" الصهيوني.
2024-01-11

ممدوح عبد المنعم

كاتب، من مصر


شارك
| fr en
نزهة عائلية، تصوير: كريمة عبود. فلسطين، التاريخ غير محدد

فى عام 2008 نشر التاجر اليهودي "يوكي بوعز"، وهو جامع مقتنيات ووثائق قديمة يعيش في مدينة القدس، إعلاناً في بعض الصحف المحلية عن عثوره على عدة صور تحمل توقيعاً بإسم المصورة "كريمة عبود". كان التاجر يحاول الإستفسار عن تلك المصورة التي كان يعتقد لإعتبارات عديدة أنها ليست فلسطينية. إلتقط الباحث الفلسطينى أحمد مروات طرف الخيط فتواصل مع ذلك التاجر، ليكتشف أن بحوزته أربعة ألبومات كاملة تضم ما يزيد عن 4000 صورة مذيلة بتوقيع كريمة عبود بالعربية والإنجليزية، وبجوار توقيعها عبارة "مصوِّرة شمس".

أدرك الباحث أنه أمام ثروة تراثية وتاريخية بالغة الأهمية، وبدأ في مفاوضة التاجر اليهودي الذي لم يتخل بسهولة عن مجموعة الصور، ثم قام بمقايضتها بنسخة نادرة وقديمة من التوراة كانت قد طُبعت في مدينة "صفد" عام 1860 وكانت من ضمن مجموعة مقتنياته. بدأ أحمد مروات بعدها، ولمدة أربع سنوات كاملة، في تتبع أثر تلك الصور التي كانت متنوعة ومدهشة وشديدة الإختلاف عن كل مجموعات الصور التي كانت في حوزته، وهو المهتم بالتراث الفلسطيني.

لم يكن الأمر سهلاً.. فقد كان الموت قد غيّب منذ عقود طويلة كل من عرف كريمة وعائلتها. ولكن الكنائس كانت تحتفظ بسجلات المعموديات. فوجد في الناصرة أن هناك أربع عائلات تحمل اسم عبود منها عائلة مسلمة، ثم ثلاث عائلات أخرى تنتمي إحداهن الى طائفة اللآتين والثانية الى الموارنة وعائلة من البروتستانت، وهي العائلة التي تنتمي إليها كريمة حسب السجلات الرسمية.

ولدت كريمة في مدينة بيت لحم عام 1893 لعائلة مسيحية تعود أصولها إلى قرية الخيام ببلدة مرجعيون فى الجليل الأعلى بالجنوب اللبناني. والدتها معلمة ووالدها سعيد عبود كان راعياً للكنيسة الإنجيلية اللوثرية في بيت لحم ولكنه أيضاً كان كاتباً، وله كتاب فى الأمثال الشعبية الفلسطينية.

بعد أن تلقت كريمة تعليمها الإبتدائي في مدينتها، تابعت دراستها الثانوية في مدرسة "طاليثا قومي" الإنجيلية اللوثرية، وهي مدرسة ألمانية دولية في مدينة بيت جالا، ثم في مدرسة "الفرير"، لتلتحق بعدها بالجامعة الأمريكية في بيروت لدراسة الأدب العربي.

تلك هي الفترة التي تنامى لديها الشغف بالتصوير الفوتوغرافي، فتعلمت مبادءه على يد مصور أرمني من هؤلاء الذين احترفوا مهنة التصوير المحلي في فلسطين منذ بواكيره الأولى مثل "جارابيد ويوهانس كريكوريان" وغيرهم...

وقد ساهم في تعلم كريمة لتلك المهنة نشأتها في مناخ اجتماعي منفتح ومتعدد الثقافات واللغات وهو ما مكّنها من التواصل مع عدد من المصورين الأجانب والعرب.

وعندما رأى والدها شغفها المتزايد بالتصوير أهداها كاميرتها الأولى التى بدأت بها رحلتها الحافلة فى عالم التصوير لتصبح أول مصورة عربية وفلسطينية تحترف ذلك الفن. في تلك الرحلة الطويلة، استطاعت كريمة أن تضع بصمتها شديدة الخصوصية والفرادة على كافة صور الحياة في كامل الأراضي الفلسطينية، وأن تلج مساحات خاصة لم يستطع غيرها من المصوِّرين الذين سبقوها الوصول اليها.

ولدت كريمة عبود فى مدينة بيت لحم لعائلة مسيحية تعود أصولها إلى قرية الخيام ببلدة مرجعيون فى الجليل الأعلى بالجنوب اللبناني. والدتها معلِّمة ووالدها كان راعياً للكنيسة الإنجيلية اللوثرية في بيت لحم ولكنه أيضاً كان كاتباً، وله كتاب في الأمثال الشعبية الفلسطينية.

لم تنبثق رحلة كريمة عبود فى عالم التصوير داخل فلسطين من العدم. بل كان المجتمع الفلسطينى قد عرف مصورين كثيرين قبلها، ولكن التصوير ظل أولاً احتكارا ذكورياً صرفاً، كما ظل موجهاً بشكل ما نحو غايات كانت بعيدة بدرجة كبيرة عن الواقع الإجتماعي والإنساني في فلسطين .

فقد بدأ التقاط الصور فى فلسطين منذ منتصف القرن التاسع عشر عبر مصورين أوروبيين حضروا إلى المنطقة لأسباب عديدة بغاية "تصوير الشرق" أو تعريفه بصرياً أمام مشاهدي الصور الفوتوغرافية في أوروبا ومستعمراتها المختلفة. وفى خضم عملية انتاج هذه الصور أخذ المصورون أفكارهم من بعضهم البعض كما أعادوا إنتاج تصورات عُرفت سابقا فى رسوم المستشرقين من خلال وصف "الرحالة". "فاستناداً إلى مسح شامل لعدد كبير من تلك الصور، وجدتُ[1] أدلة تثبت أن تقليداً أوروبياً قد تكوَّن لكيفية تمثيل فلسطين فى الصور، يمكن استعراضه من خلال تكرار عدد من الموضوعات المحددة والتى تَمثّل أغلبها في طغيان تصوير المواقع ذات الأهمية الدينية، علاوة على تصوير الأشخاص بطريقة تجعل منهم إثباتاً لصحة الرواية والتراث الإنجيلي بتمثيل ومسرحة المشاهد الإنجيلية والتوراتية".

كما بدا ملحوظاً للغاية تجنب تصوير السكان المحليين والذي يعود سببه – جزئياً - إلى عداء هؤلاء السكان للمصورين الأوروبيين الدخلاء على عاداتهم وديارهم. ولكن ذلك لم يكن السبب الوحيد. فتغييب الفلسطينيين كشعب في تلك الصور كان أيضاً تزويراً لوعي الأوربيين والأمريكيين، ليبقَ الأمر في النهاية - وبغض النظر عمّا فكر فيه هؤلاء المصورون وقتها - كأرضٍ خالية من السكان. ومن ثَمّ فقد مهدوا - بقصد أو بغير قصد - لبروز الشعار الصهيوني "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

من تلك النقطة تبرز الأهمية المضاعفة لما قامت به كريمة عبود، و"الدلالات التاريخية والتراثية التى حملتها صورها، كونها "وثقت البلاد وسكانها، مركِّزة على الحياة في المدن والقرى، متعامِلة مع الناس كجزء أصيل من البلاد المسكونة، لا كشخصيات زُرِعت داخل المناظر للتصوير"[2].

قايض أحمد مروات الثروة التراثية والتاريخية التي تمثِّلها مجلدات صور كريمة عبود - وكانت تحوي أكثر من 4000 صورة بحوزة تاجر أثريات يهودي - بنسخة نادرة وقديمة من التوراة طُبعت في مدينة "صفد" عام 1860.

بدأ الباحث في تقفي أثر كريمة عبود، وكان الموت قد غيّب منذ عقود طويلة كل من عرفها وعائلتها. ولكن الكنائس كانت تحتفظ بسجلات المعموديات. فوجد في الناصرة أن هناك أربع عائلات تحمل اسم عبود منها عائلة مسلمة، وثلاث عائلات أخرى تنتمي إحداهن الى طائفة اللآتين والثانية الى الموارنة وعائلة من البروتستانت، وهي العائلة التي تنتمي إليها كريمة حسب السجلات الرسمية.

لم تقم كريمة كما كان يفعل غيرها من المصورين بتصوير "موديل" وضع داخل إطار الصورة بشكل متعسِّف ومبتسر بعيداً عن سياقه أو دلالاته الإجتماعية والإنسانية . بل قامت بتصوير الحياة العادية للمواطنين ونشاطاتهم اليومية وأعمالهم المختلفة، مما عكس كثيراً من الثقافات والأمزجة والطبقات الاجتماعية. كما أظهر مساحة الحرية التى تمتعت بها المرأة ومكانتها المتميزة داخل الأسرة فى ذلك الوقت والتى بدت واضحة من تلك الإطلالات الواثقة المطمئنة داخل كادرات كريمة عبود.

ملصق لمعرض صور كريمة عبود

ومنذ اللحظة التى بدأت فيها كريمة احتراف العمل في التصوير الفوتوغرافي وافتتاحها لأول ستوديو تديره سيدة فى فلسطين وربما في العالم العربي، كسرت احتكار الرجال لتلك المهنة فدخلت أرضاً جديدة لم لم يطأها أي مصور ممن سبقوها، إذ أن كثيراً من العائلات المحافِظة وتحديداً النساء لم يجدْن أدنى حرج في أن تقوم سيدة مثلهن بتصويرهن داخل الأستوديو الخاص بها أو فى بيوتهن خاصة، وكانت كريمة تقوم بتحميض تلك الصور فى بيتها في "حي ضومط" بعيداً عن عيون الغرباء أو المتطفلين، فكانت مصدر ثقة وأمانة في زمنٍ كان سائداً فيه التشدد. وهي عرفت كيف تنتج الصورة بمفردها بدون الإستعانة بأي رجل في أي مرحلة.

وفى الوقت التى اشتد ولعها بالتصوير وأدركت أنها بحاجة إلى تصوير أماكن جديدة داخل فلسطين، قامت بإستخراج رخصة لقيادة سيارة لتصبح أيضاً أول سيدة تقود سيارة فى البلاد، فقامت بجولات متتابعة في كافة الأراضي الفلسطينية استطاعت خلالها أن تلتقط مئات الصور التى وثّقت الكثير وحضور المناسبات الاجتماعية كالأعراس ومناسبات العزاء والتجمعات العائلية والنشاطات اليومية المعتادة، علاوة على المناسبات الدينية مثل مراسم القداس الدورية، والقبر المقدس في كنيستي القيامة في القدس، والمهد في بيت لحم، ونبع العذراء وكنيسة البشارة وأحد الشعانين والشعلة في سبت النور، وهو ما كان متاحاً لها بكل حرية وثقة من قِبل أتباع طائفتها وقساوسها.

وبعدها اخذت بمرافقة السياح للعديد من المواقع والتي كان من أهمها نهر الاردن واليرموك والمغطس. فاستطاعت أن تصوِّر أغلب المعالم الأثرية لفلسطين، وصناعة أكثر من 100 بطاقة بريدية حملت صور هذه المعالم وأظهرت تطور السياحة فى البلاد، خاصة مع بداية الإنتداب البريطاني عام 1920.

في غضون بضع سنوات، تمكنت كريمة عبود من إنشاء أربعة استوديوهات في بيت لحم وحيفا ويافا والناصرة، وأصبحت تجلب أوراق الصور من مصر، كما افتتحت مشغلاً خاصا لتلوين الصور بنفسها قبل أن يعرف العالم الصورة الملونة.

وعندئذ طلبتها للتصوير كثير من العائلات في الاردن والشام، بالاضافة إلى تصوير الحياة النسوية العامة بشكل خاص - وهي الحياة بشكل عام - كالسيدات خلال عملهن في الحقل والتطريز وصناعة الألبان وجلب الحطب والماء وغيرها... واستخدمت عدداً منها في البطاقات البريدية بشكل مخالف للطريقة التى دأب عليها مصورو الإستشراق، خاصة عندما كانوا يعمدون الى تصوير النساء كأنهن لوحة من حكايات ألف ليلة وليلة!

فعندما كانت تقوم بتصوير النساء كانت تطلب منهن ارتداء اللباس الأنيق من ثوب وحلي محلية وتجلسهن بوضعية الاستعداد للتصوير لاظهار أكبر قدر من الرقي يمكن أن تحصل عليه الكاميرا. وعند تفحص الكثير من تلك الصور سوف نجد أن هناك من تحمل في يدها صحيفة أو كتاباً أو باقة ورد"[3].

صورة لفلسطينيات بعدسة كريمة عبود

كما حرصت كريمة على تصوير النساء اللواتي كن يأتين اليها أو تذهب إليهن في القرى والمدن، بأزيائهن المطرزة المحلية التقليدية والتي تعبِّر عن القرى والبلدات التي أتوا منها.

لم تقم كريمة بتصوير "موديل" وُضع داخل إطار الصورة بشكل متعسِّف ومبتسر بعيداً عن سياقه أو دلالاته الإجتماعية والإنسانية، بل قامت بتصوير الحياة العادية للمواطنين ونشاطاتهم اليومية وأعمالهم المختلفة، مما عكس الثقافات والأمزجة والطبقات الاجتماعية. كما أظهر مساحة الحرية التى تمتعت بها المرأة ومكانتها المتميزة داخل الأسرة.

منذ اللحظة التى بدأت فيها كريمة احتراف العمل في التصوير الفوتوغرافي وافتتاحها لأول ستوديو تديره سيدة في فلسطين وربما في العالم العربي، كسرت احتكار الرجال لتلك المهنة فدخلت أرضاً جديدة لم يطئها أي مصور ممن سبقوها، إذ أن العائلات المحافِظة ووتحديداً النساء لم يجدْن أدنى حرج في أن تقوم سيدة مثلهن بتصويرهن داخل الأستوديو الخاص بها أو في بيوتهن.

بقي فقط أن نشير إلى أن كريمة عبود بعد كل ما أنجزت من ذلك السجل البصري الحافل للحياة فى فلسطين، كانت مصوِّرة رائعة على المستوى التقني، محترفة ومجدّة وعاشقة لمهنتها إلى أبعد حد. لاحظت ما تتركه شمس الصباح من أثر في الصورة، ثم كيف تترك الشمس نفسها أثرها في الظهيرة ووقت العصر والغروب. وكذا شموس الفصول المتعاقبة. أدركت كريمة أن لكل صورة شمسها الخاصة، فأتقنت لعبة الظل والنور فخرجت صورها تضجّ بالحياة .

مقالات ذات صلة

فى السابع والعشرين من نيسان/ إبريل عام 1940 ماتت كريمة عبود متأثرة بمرض التيفوئيد، ودفنت فى مقبرة الكنيسة الإنجيلية في بيت لحم بعد أن تركت إرثاً باهراً من الصور الفوتوغرافية يربو على 9000 صورة وثقت من خلالها أن فلسطين ضمّت شعباً كاملاّ عاش على هذه الأرض وكانت له خصوصيته الثقافية والتاريخية، وعاداته وتقاليده وسماته الخاصة، بأفراحه وأحزانه وذكرياته.

وبعد ثماني سنوات من موت كريمة عبود جاءت النكبة لتظل صورها آداة من أدوات النضال وفصلاً ناصعاً من تاريخ فلسطين الحرة.

______________________

1-لقطات مغايرة : التصوير المحلي المبكر في فلسطين، 1850 - 1948 / عصام نصار. الطبعة الاولى، رام الله، فلسطين: مؤسسة عبد المحسن القطان، 2005.
2-المصدر نفسه
3- أحمد مروات، موقع إيلاف، لندن، العدد 26 أيار/ مايو 2017

مقالات من فلسطين

رحلة البحث عن رغيف

كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى...

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

للكاتب نفسه

عمْ "سيِّد"

هو أحد أقارب والدي، لا أراه إلا نادراً. عرفتُ قصته بالصدفة في حوار عائلي عابر، ولكن الرجل – بعد تردد - أطلعني على بقية التفاصيل المؤلمة، التى لايعرفها إلا قلة...