تلتصق الأسئلة بالآذان كصمغ حي، لا نجاة منه. هل انتهت الحرب؟ هل تفقدتَ بيتك، أستعود إليه؟ هل ستتوقف المعونات والسلال الغذائية؟ هل سيعود النازحون؟ هل ستعود الكهرباء وينتظم تدفق المياه؟ هل ستعود الدولة إلى دعم الوقود وبعض المواد الغذائية؟ هل تعود الحياة للمناطق الصناعية.. تبدو الأسئلة سهلة، لكن لا أحد يصل إلى إجابة عن أسهلها.
***
يتناهى صخب فتيان من أعلى الجسر، حيث تتوزع القاطرات وعربات النقل بين الخطوط الحديدية المهملة، وهم يلعبون الكرة في المساحات الخالية من محطة القطار التي توقفت قطاراتها عن العمل منذ سنوات خمس.. كما تتعالى أحاديث فتيان آخرين، يودعون حقائبهم المدرسية فيما بينهم قبل انتخاب المجازفين منهم ليتسلقوا سور المنزل ويقطفوا ثمار أشجار البرتقال التي امتدت أغصانها إلى فوق الرصيف. لا أحد يحذرهم من نتائج مخاطرة تسلق الحافة الضيقة للسور، بعدما غدا الموت والإصابات الجسدية من متممات الحياة اليومية، ولا من ترقّب خروج مذعور لأصحاب البيت لمعاقبتهم بالكلام على فعلتهم.. لأنهم يعلمون أن البيت مهجور، وأصحابه غادروه منذ زمن.
قد تُهجَر المدينة لا لنقص في عواطف أهلها، ولا لتقطع وشائج الانتماء للبريق الآسر في عيون لياليها، ولا لهوادج الحياة التي تتنقل الهوينى في نهاراتها.. بل لغياب أسباب الحياة. وكأن المياه جفت بين المدينة وأهلها. لم يكترثوا بحشد المدن الخالية، أفاميا وتدمر وماري وبُصرى.. التي استرخت على مجاري الأنهار والواحات الثرية بالينابيع. حسبوا امتحان تقويض المدن قد أمسى نسياً منسياً لأزمان لن تعود ولا يمكن تكرارها. لكنها عادت لمدن كبرت بأهلها وتعالت بأحلامهم المتجددة.
أطلق عليه اسم "جسر 16 تشرين"، لكنه في الحقيقة "نفق 16 تشرين"، نفق لعبور السيارات والحافلات والشاحنات، ارتفع على طرفيه ممر للمشاة. يشير اسمه إلى اليوم الذي حدثت فيه الحركة التصحيحية في 1970 من القرن الماضي. مضى الزمن.. ستة وأربعون عاماً، تخللتها العديد من الوقائع التي تركت آثارها في التكوين الاجتماعي- السياسي: حرب تشرين، التدخل العسكري في لبنان، الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين و"طليعتهم المقاتلة"، تصفية اليسار الثوري.. ما من واقعة في تاريخ السلطات خارج قدرات التفسير وإمكاناته. ولكن الفكر لا يعجز عن فهم السلطة إلا بعد تحويلها إلى ميتافيزيقيا.
توسعت مستودعات الهيئة العامة للمطاحن لتستقبل قوافل شاحنات الإغاثة، كما تحولت رحبة تصليح عربات القطارات إلى مركز معاينة للسيارات والآليات.
شق النفق في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، تحت الامتداد الشمالي لمحطة القطار المركزية المعروفة بمحطة بغداد، بغاية اختصار المسافة الالتفافية الطويلة المؤدية إلى حي السريان وحي الأشرفية وما بعدهما. التقى بصعوده، بعد مسافة تزيد على مئتي متر، بالطريق المزدوج الذي يدور حول محيط المدينة المعروف بـ"الدائري الشمالي"، الذي يكتمل بطريق مزدوج آخر يحمل اسم "الدائري الجنوبي"، وهما طريقان مزدوجان منتصفان بجزيرة نباتية، جددا الطريق المفرد، الذي شق وعبّد في عهد الانتداب الفرنسي، وحمل اسم "حول المدينة". يقوم النفق بالوصل بين حيز التوسع المديني الأول، الذي انتظم خلال عهد الانتداب الفرنسي خصوصاً، والتوسع المديني الثاني الذي لم ينتظم وفق تخطيط مديني إلا في بعض أحيائه، بينما تخبط عشوائياً في أطراف المدينة الأربعة، وبالأخص في شرق المدينة وجنوبها.
لم يحتفظ المشهد بعناصره التي ترسخت قبل خمس سنوات. أمست المؤسسة الاستهلاكية التابعة لوزارة التموين تبيع بأسعار السوق وربما أعلى قليلاً، واستردت الوزارة نفسها المركز التجاري الذي كانت قد أجرته لشركة تركية متخصصة بإنتاج وتسويق الأثاث المنزلي. استبدل المركز المتخصص بتسويق الأقراص المدمجة بعد تقسيمه، بورشات لصناعة الألبسة النسائية. واستبدل مركز وكالة سيارات شيفروليه، بمركز "حلال" للتسوق.. وغابت الفتيات اللاتي كن يتشمسن في عهد خلا على الشرفات، وقد أسندن مرافقهن على الحواف الحجرية. توسعت مستودعات الهيئة العامة للمطاحن لتستقبل قوافل شاحنات الإغاثة، كما تحولت رحبة تصليح عربات القطارات إلى مركز معاينة السيارات والآليات.
وصلتْ إلى حييّ "محطة بغداد" و"الشيخ طه" اللذان يلاصقان النفق من شماله وجنوبه، مئات العائلات من النازحين، استأجروا أو مُنِحوا بيوتاً من أصدقاء وأقرباء، وسكنوا أقبية العمارات المخصصة كملاجئ أو بيوت مؤونة، والدكاكين وأسطحه العمارات. لا بيوت ولا دكاكين ولا أقبية خالية في هذين الحيين.
أمِنَ الجائز اليوم، بعد عبور الشعوب الألفية الثالثة، العودة لثقافة الـ"يغمه"، وهي الغنيمة ذات الأصول الحربية البدوية التي تعايش معها الدين الجديد في غزواته وفتوحاته.. ولم يعمل على تقويضها.
لا ضرورة لمواعظ تبعث الفرائض الفلسفية من أجداثها "الحق والخير والجمال"، وتبحث لها عن مكان تقحمها فيه. بعد رؤية من أعالي النفق لشاحنات محملة بأثاث البيوت، أترى أصحابها هم من قرروا نقلها إلى القسم الغربي من المدينة، بعد تيقنهم استحالة الحياة في بيوتهم التي غادروها قبل سنوات وعادوا ليتفقدوها اليوم؟ أم هم غير أصحابها، وقد جازفوا بنقلها لتفكيك المفخخات التي زرعها الإرهابيون في جوف الثلاجات والغسالات والطاولات.. والسجادات!
برز في الثقافة العسكرية التعبير العثماني "يغمه"، بعد اكتمال اجتياح المدن وتركيعها، ولا يزال يُستخدم للتعبير عن حالة التفلّت من الرقابة والمحاسبة. وتعني الكلمة الإباحة أو الاستباحة. تعبير يحفز المحاربين لإنجاز مهمتهم في إسقاط المدن، ويكافئ إخلاصهم وتفانيهم بوعد من قادتهم أو قائدهم بأنها ستكون "يغمه" لهم لأيام محددة، ثلاثة أيام أو أسبوع، لنهبها واغتصاب نسائها وفتيانها. لا تخفي الكتب التاريخية أنه في الـ"يغمه" لا يخضع المحارب لأي محاسبة وعقاب على مخالفاته لأي من القوانين الوضعية أو الدينية.
أمِنَ الجائز اليوم، بعد عبور الشعوب الألفية الثالثة، العودة لثقافة الـ"يغمه" والغنيمة ذات الأصول الحربية البدوية التي تعايش معها الدين الجديد في غزواته وفتوحاته، ولم يعمل على تقويضها. كيف تعود هذه المدن المدمرة إلى عهد الفعل والتجدد والأمل. ما نوع المعجزات التي نسيت شعوبها مع الزمن أسرار اجتراحها.