أعلنت "أكاديمية فنون وعلوم السينما الأميركية" التي تمنح جوائز الأوسكار الشهر الماضي عن قبولها ترشح الفيلم اليمنيّ "أنا نجوم ابنة العاشرة ومطلقة" ليتنافس عن فئة أفضل فيلم أجنبي مع 85 عملاً من بينها 8 من دول عربية، ونجوم كبار. وقد انتشر خبر قبول الترشيح في عشرات المواقع العالمية والعربية التي حملت المعلومة الخاطئة نفسها، وهي أنّ الفيلم هو المشاركة الأولى لليمن في تاريخه، على الرغم من أن الخبر الأصلي أورد بأنه أول فيلم يمنيّ طويل. وقد وقعت في هذا الخلط منصات إعلامية دولية وجرائد عربية رائدة بل وحتى "مراسل هوليوود"، بينما شارك اليمن في الأوسكار لأول مرة في 2014 بفيلم "ليس للكرامة جدران" للمخرجة سارة إسحاق الذي وصل ليكون من بين الخمسة أفلام الأخيرة التي عُرضت في المسابقة ضمن فئة أفضل فيلم وثائقي قصير، والذي يحكي عن أحداث "جمعة الكرامة" (آذار/ مارس 2011)، حيث قُتل أكثر من 50 متظاهراً يمنياً سلمياً برصاص قوات الأمن.
وعلى الرغم من أن خبر قبول "أنا نجوم، ابنة العاشرة ومطلقة" جاء بعد بضعة أيام من استهداف طائرات التحالف لقاعة عزاء في صنعاء، أي في لحظة سياسية دموية ومحتقنة للغاية، فذلك لم يمنع اليمنيين من الاحتفاء بالخبر.
قصة شجاعة نسائية
يحكي الفيلم الـ"باين من عنوانه" قصة لا زالت تفاصيلها طازجة في الذاكرة اليمنيّة: نجود طفلة يمنية زوّجها والدها من رجل ثلاثيني، وقد حاولت الفتاة استجداء الجميع لمنع هذا الزواج ثم لعتقها منه. وبعد الصمت المريع، قرّرت الذهاب إلى المحكمة وطلبت الطلاق بنفسها، وقد استجاب القاضي لطلبها وطلقها في محفل قانوني وحقوقي وُصف حينها بـ "التاريخي"، ولقي اهتماماً إعلامياً ضخماً، وظهرت نجود في عدد من البرامج العربية والعالمية، وقد قالت المرشحة الحالية للرئاسة هيلاري كلينتون إنّ نجود علي مثلها الأعلى وإنّها "واحدة من أعظم النساء اللواتي قابلتهنّ في حياتي".
قصة نجود هي قصة شجاعة نسائية بالدرجة الأولى، بدءاً بالصبية ومروراً بالمحامية التي بذلت كل جهد ممكن لتحصل نجود على حقوقها ووصولاً إلى مخرجة العمل خديجة السلامي التي كانت هي نفسها ضحية لزواج القاصرات، وهي في عمر الـ 11.
خديجة السلامي مخرجة شجاعة ودؤوبة وظفت خبراتها للحديث عن نساء اليمن بكل الطرق الممكنة، وهي مقيمة في باريس منذ سنوات طويلة. لكن اللافت أنّ الفيلم مبني على كتاب للكاتبة الفرنسية دِلفِن مينوي "أنا نجود بنت العاشرة ومطلقة" التي روت بطريقتها قصة نجود علي، وهذا ما يضعنا بالضرورة نتساءل: لمَن صنعت خديجة السلامي هذا الفيلم؟
استطاعت كاميرا السلامي في النصف الأول من الفيلم تقديم صور بديعة عن البيئة اليمنية، الجميلة والوعرة في آن. الجبال الملتوية على بعضها وعلى سكّانها بطريقة لا تصدّقها ما لم تكن تعرفها، قسوة التضاريس تمتدّ لتصبغ الوجوه. وكان اختيار الممثلين في دور عائلة نجود اختياراً موفقاً للغاية.
ارتبط التنفيذ الدرامي للفيلم بمحتواه الحقوقي بشكل كبير، ولذلك جاء بعد الساعة الأولى ضعيفاً على أكثر من مستوى، أي بعد لجوء نجود إلى المحكمة لإنصافها، حيث يأخذها قاضي المحكمة إلى بيته. خديجة السلامي أظهرت القاضي وعائلته ببعد واحدٍ، العائلة كما نراها في كتب المطالعة، عائلة تعيش في بيت من طابقين ومطبخ بنظام أميركي، بيت لا شيء يمني فيه سوى "قمرية" ظهرت متوارية في أحد الكادرات، بيت مُجتزأ لا يشبه بيوت اليمنيين في شيء حيث تجعله المخرجة مقابلاً للهوية اليمنيةّ. وهذا فوت نقطة ذهبية لتسويق الفكرة المناصرة لقضيتها، وهي أنّه يمكن للمرء أن يكون يمنياً وبسيطاً ومناصراً للنساء. وأمّا الصورة المقدمة فهي ليست مُغالطة فقط، بل لا تخدم القضية.
فيلم عالمثالثي
لا يخرج فيلم "أنا نجوم، ابنة العاشرة ومطلقة" في خريطته العامة عن الأفلام التي يقدمها مواطنو الشرق الأوسط عادةً في المسابقات الدولية للسينما، فيلم "عالم ثالثيّ" بامتياز، وقد كان هناك بالطبع جملة من الاعتراضات التي تقول إنّ الفيلم تشويه للواقع اليمني والمرأة اليمنية.. وكل هذه العبارات الممجوجة. ولكن، في ضفة أخرى للرؤية، فإنّ الفيلم قد أخفق في قضيته الأساسية، إذ لا يُمكن تقديم فيلم عن زواج القاصرات في اليمن بدون تسييس القضية وتحميل القرار السياسي مسؤولية جريمة كهذه، وبدون عرض المعركة التي كانت تدور في مجلس النوّاب اليمني حول ضرورة تحديد سنّ الزّواج بالنسبة للفتيات، وكأنّ زواج القاصرات سلوك اجتماعي "اختياري" يدور في الهامش ويتكرّس بعيداً عن الحكومة وقراراتها وسياستها الداخلية والخارجية أيضاً. إنّ طرح قضية زواج القاصرات بتجريدها من جانبها السياسي لا يُسطحها فقط ويُعلبّها، بل يضرها ويسيء إليها، ويظلم الضحية التي لم تكن بحاجة إلى شهرة وشهادة عالمية بل إلى رعاية وحقوق مواطَنة.
هيلاري كلينتون التي أبدت إعجابها بنجود علي في أكثر من مناسبة كما ذُكر أعلاه، لم يتجاوز دعمها بضع كلمات لطيفة وصورة لها مع نجود ومحاميتها تلقفتها كبريات وسائل الإعلام، وهي لم تتحدث مطلقاً مع الحكومة اليمنية في أيّ زيارة لها عن ضرورة حسم جدل قضية تحديد سنٍّ أدنىً للزواج. وبناء على "شهادة الجودة" هذه من هيلاري كلينتون التي ارتبط اسمها بأشرس الحروب في الشرق الأوسط، منحت مجلة "غلامور" نجود لقب "امرأة" العام ضمن نساء أخريات. وللمفارقة فإنّ هذا اللقب، امرأة، هو ما رفضت نجود أن تحصل عليه كطفلة لم ترِد وقتها التخلي عن طفولتها.. ولكن "غلامور" تمنحها هذا اللقب بعمىً كامل.
قبول فيلم "أنا نجوم ابنة العاشرة ومطلقة" يأتي ضمن منظومة ثقافية وسياسية قائمة بين المنطقة العربية وبين الغرب، حيث لا مانع من أن تكون فناناً ومتخلفاً في الوقت نفسه. فهذه المنظومة لا تُسلط الضوء على الأفراد من الشرق بناءً على قراءة حقيقية وتقييم جديد للتجربة الإبداعية للمكان، ولا حسب التقييمات والمعايير التي يتم الاحتكام لها في تقييم النتاج الفني والثقافي، خاصة بالنسبة للنساء. إنّ إشراك المبدعين العرب في هذه "العملية الإبداعية" يخفف من شعور الغرب بالذنب نحو منطقتهم، ويمنح "المبدعين" منها جوائز لما يقدمونه من تسليع لقضاياهم الحقيقية بأبعادها المختلفة، بما فيها الأبعاد الاستعمارية، في مرحلة سياسية واقتصادية تمَّ تعليب وتسليع كل شيء فيها حتى "الاختلاف" و "الآخر".
أين نجود الآن؟
الأفلام الروائية المقتبسة من قصص واقعية تستلهم أهميتها من هذه الحقيقة. ولذلك لا معنىً لها من دون أن يذكر الفيلم مآل أبطال القصة الحقيقيين، فذلك يمنحها مصداقيةً وموضوعية، ودلالة على الجهد الذي بذله صنّاع الفيلم، خاصةً في تلك الأفلام التي تحمل رسائل تهم الرأي العام، أو التي تحمل وعياً معيناً حول قضية إنسانية أو حقوقية. ولكن وعلى الرغم من أن فيلم "أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة" يعالج قصة حديثة، إلّا أنّ المخرجة لم تذكر ماذا حدث للفتاة، وما هو وضعها بعد أكثر من 8 سنوات على واقعة الطلاق.
وبلمحة بسيطة عن ذلك، فقد نشرت صحيفة "الغارديان" في عددها الصادر في 12 آذار / مارس 2013، أنّ نجود اشتكت بأنّ والدها يأخذ ريع كتابها الآنف الذكر، وأنه زوّج أختها الصغيرة هيفاء لرجل يبلغ ضعفَي عمرها. وهذا المآل لقضية نجود هو نتيجة منطقية ومتسقة، حيث أن النظام المجتمعي والسياسي والثقافي الذي لا يحمي طفلة من الاغتصاب تحت مسمّى الزواج لن يحميها بعد أن تحصل على الطلاق، إلا أنّ هذه المعلومات لم تظهر في الفيلم لأسباب تشرح نفسها بنفسها. فهذا أمر فادح إلا أنّه مفهوم، لأنّ الفيلم لو تضمن هذه التطورات لخالف قانون المنظومة إياها.
سيُقام حفل توزيع الأوسكار في 26 شباط / فبراير المقبل، واحتمالات فوزه بعيدة نوعاً ما، ولو حدث فستختلف ردة فعل اليمنيين طبقاً لموقفهم من زواج القاصرات، ولكن الأكيد أن ذلك سيكون إنجازاً شخصياً للسيدة المخرجة.. أولاً وأخيراً.