لا يمكن أن يعيش اليمني حياته دون أن يكون قد تحدّثَ و لو لمرة واحدة على الأقل عن الإيقاع. الحديث عن الإيقاع هنا موسيقيٌ بحت. فالموسيقى في ريف اليمن وحضره ـ كبقاعٍ شتى في الأرض ـ لا تقوم دون ركن الإيقاع الذي يستعمله الناس كمواقيتَ للذاكرة الشفهية. الإيقاعات تمتزج في ساعات الدعة والمقيل، ولكن الأذن اليمنية متمكنة من فصلها وتفصيلها على مواقيت الحرث والحصاد والحرب والصلح والمأتم والميلاد وما بينهما من فرح آني. الإيقاع هو الأصل في التأريخ، يحدد ما نحن مقبلون عليه، تأريخٌ لما كان وما هو كائن. وتطويع الأذن للإيقاع في اليمن يشبه تطويع استعمال الرزنامة لكتابة التاريخ. وكون الإيقاع بأنواعه هو رزنامتي كيمنية، فقد هجرتُ التدوين داخل الفراغات الموازية للتقويم المعلق على الجدار التي لم تعد تتسع لما يحدث، كونها تفصل الأيام والسنين عن بعضها، وبقي الإيقاع رفيق التأريخ للذاكرة الأبقى، الذاكرة الشفهية.
ولعي بالإيقاع أصبح لا إرادياً بعد سنين من تطويع بيئتي لي بشكل يجعلني أفتش عن الإيقاع في أي مقطوعة أصادف، وهو الأمر الذي أصابني في سني المراهقة بهوس البحث عن القصة التي تقف وراء إيقاع الأغنيات، أياً كان مصدرها، هوسٌ خَفَتَ عقداً من الزمان انشغلتُ فيه بأدوات تأريخ ٍ تعدها المؤسسة الأكاديمية العالمية في وقتنا هذا أكثر "دقة" في رصد ما يتطلب رصده لتأريخ "الحدث". إلّا أن هذا النوع من "الدقة" أفضى إلى الهوس بالأرقام على حساب تفاصيل القصة الإنسانية. أما الحدث فقلّما يكون في الحقيقة حدثاً واحداً، بل هو في معظم الأحيان، إن لم يكن دائماً، عبارة عن تقاطعات من الأحداث والتفاصيل. وتأريخ التقاطعات التي يمرّ الحدث بها وتمر به لا يمكن أن يتمّ إلا بأدوات غير تراتبية تتسع لكل ذلك، لنتمكن من فهم ما حدث بالشكل الذي يجعل تأريخ الأحداث بيد من يعيشها عوضاً عن ظهوره كمادة عددية في كتاب التاريخ وبشكل عرضي بصيغة الغائب الذي يُكتب عنه في كتب لا يملك قيمة شرائها. وهنا غالباً ما تتخلف اللغة الأكاديمية التقليدية عن اللحاق بما يحدث، خاصة في زمن خصخصة الإنتاج المعرفي والذي في سياق الحروب تحديداً يعتمد بشكل كبير على تقارير منظمات الإغاثة كمصادر أولية لفهم ما يحدث. وما يحدث أكبر وأوسع من مجرد عدد الضحايا وما يقابله من عدد لحقائب الإغاثة. ما تخفيه "دقة" الأرقام هو روايات عميقة تخزنها الذاكرة الشفهية التي ترفضها الأدبيات المعترف بها في النظام العالمي الذي يجثم على أنفاسنا، ويجبر أدواتنا على أن تقبع تحت جناحه بل وأن تسهر على خدمته إن نجح في إجبارها على الإذعان في النهاية.
الهجرة العظيمة
تسبب فيضان نهر المسيسيبي في الولايات المتحدة الأميركية عام 1927 في موجة تُعد من أكبر موجات الهجرة الداخلية في القرن العشرين، حيث دفع الفيضان الذي غمر الأراضي الزراعية في الجنوب بمعظم الريفيين إلى الهجرة إلى الشمال الشرقي والغرب، على دفعات قُدر مجموعها بستة ملايين معظمهم من الأفارقة الأميركان. استمرّت الموجة حتى سبعينيات القرن الفائت، وسُمّيت لاحقاً في التاريخ الأميركي بـ"الهجرة العظيمة"، وهو الاسم الذي يقابل معنى المسيسيبي "النهر العظيم" بلغة السكان الأصليين.
أرّخَ الأفارقة الأميركيون للهجرة العظيمة عبر أغنيات موسيقى البلوز، إحدى هِبات الأفارقة الأميركان الكثيرة للتراث الثقافي الإنساني. وكانت أشهر هذه الأغنيات "عندما يتحطم السد" (When the Levee Breaks) التي كتبتها عازفة الغيتار ليزي دوغلاس المعروفة بـ"ممفيس ميني"، وغناها زوجها المعروف باسم "كانساس جو ماكوي" في عام الفيضان نفسه.
الحدث لم يكن واحداً والأحداث لم تكن تراتبية. فالأمر كان أكثر تعقيداً من فيضان أدى إلى الهجرة. تقاطعت قصصُ ما بين الحدثين التي أرخت لإحداها الأغنية التي تحكي قصة تحطم السد الذي كان يحجز مياه النهر عن أراضٍ أَجبرَ مُلّاكها البيض العمال الأفارقة الأميركان، الذين كان معظمهم من العبيد، تحت تهديد السلاح، على العمل في تكديس أكياس الرمل لحماية المنازل وقت الفيضان. وحين فاضت المياه وتحطم السد أَرغَمَ المُلاكُ البيض العمالَ على البقاء في مخيمات في العراء لتنظيف مخلفات الفيضان بعد انقضائه، وحجبوا عنهم المساعدات التي كانت تصل من الدولة والمناطق المجاورة. "عندما يتحطم السد" بإيقاعها الذي يعتمد على غيتار وكلمات ممفيس ميني توثق تقاطعات الحدث بصوت ماكوي صادحاً:
إذا استمر المطر، سيتحطم السد
حين يتحطم السد، لن يكون لي مكان أبقى فيه
ذلك السد القديم اللئيم علمني أن أبكي وأئن
له القدرة على أن يجعل رجلاً بحجم جبل يرحل من بيته
لم يكن من السهل على فرقة لد زيبلين Led Zeppelin أداء أغنية "عندما يتحطم السد" التي أصبحت اليوم من أشهر الأغاني التي أدتها فرقة الروك البريطانية بعد أن أعادت عام 1975 بصعوبة شديدة إنتاج هذه الوثيقة التاريخية المصاغة من البلوز الخالص. ويمكن تفهم صعوبة تحويل هذه الأغنية إلى منتج روك بثقل ذاك الذي أخرجته فرقة لد زيبلين للعالم. هذه النسخة الصعبة لم تؤدها الفرقة في تاريخها سوى مرتين، تاركةً النقاد ومتذوقي موسيقى الروك حول العالم في جدل حول إدخال إيقاع الغيتار الكهربائي والطبول الثقيلة التي تُقدِم صوت المغني الرئيسي في روبرت بلانت ثم ترافقه في باقي الأغنية التي احتفظ بلانت فيها بصوت الهارمونيكا، آلة الوجع الأفريقي الأميركي الأبرز.
وفي اليمن: "هَرِّبوا جاء الليل"
في نهاية الخمسينيات وفي الشق الآخر من الكرة الأرضية، قام الشاعر اليمني أحمد غالب الجابري بإضافة مقاطع إلى مهجل المزارعين والمزارعات الأشهر في ريف تعز وسط اليمن "والله ما أروّح إلا قاهو ليل" فكانت قصيدته الشهيرة "هَرِّبوا جاء الليل". المهجل وهو نوع من الأهازيج الريفية التي يرددها أهل الريف في تعز، خاصة في جبل صَبِر، أثناء العمل في الحقل، تحوّلَ بعد تعديلات الجابري إلى أغنية الفنان أحمد قاسم الذي يُلقب بموسيقار عدن، وغناها في نهاية خمسينيات القرن الماضي إبّان مخاضي الجنوب للتحرر من الاستعمار البريطاني والشمال للتحرر من حكم الإمامة الملكي. المهجل القادم من مرتفعات الشمال الذي تغنى به قاسم قرب بحر عدن جنوب اليمن احتفظ بقوام إيقاع الحصاد:
واللهْ ما أرَوّح / إلاّ قا هو ليلْ
واعشي واصُبحْ / وابن عمي الليلْ
فرحتي يا رب / قا ذرينا الحَبّ
والجهيش في آبْ
("قا هو ليل" بلهجة أهل تعز تعني قد حل الليل. والمعنى العام للبيت: والله لن أغادر حتى يحل الليل. "قا ذرينا الحَب": قد نثرنا البذور،
و "الجهيش" هو نضوج الثمار استعدادا للحصاد).
إلا أن إضافة الجابري ذات البعد السياسي "هَرِّبوا جاء الليل" سخّرها أحمد قاسم لتصبح كوبليه الكورال المرافق له بشكل جعل المقطع إيقاعاً للأغنية التي سجلها بصحبة آلات موسيقية عدة طغت على إيقاع الدربكة المعتاد. ويسترسل بعده قاسم محذراً من إقطاعيي الجنوب والشمال:
المطر يسكب
مو يفيد نَصْرُبْ
والذئابْ تَقْرُبْ
هَرِّبوا جاء الليلْ
ريتنا مثلكْ
كلّ شي تَمْلِكْ
ما زرعتهْ لَكْ
هَرِّبوا جاء الليلْ
("مو" معناها ماذا، و "الصراب" هو موسم الحصاد، ومعنى البيت هو "ما نفع الحصاد")
"هَرِّبوا جاء الليل" تحذير للنجاة بما تيسر من المحصول، ونداءٌ لتهريبه قبل أن يستولي عليه "الليل" وهو إقطاع السلاطين سدنة الاستعمار الذي تمكن من إحكام السيطرة على الجنوب لأكثر من قرن بمباركة أولئك السلاطين مقابل ألا تُمّس مصالحهم. وهو إقطاع الشمال أيضاً، حيث كان إقطاعيوه سدنة المَلَكِيّة التي تحميهم طالما حموها من زارعي البذور المحرومين من ثمارها.
التأقلم مع الحرب
يؤرخ الإيقاع في "عندما يتحطّم السد" و "هَرِّبوا جاء الليل" لتقاطعات الحدث بصوت صاحبه الذي تقاوم قدماه الغرق في الطوفان وتُنتجُ يداه قوتَ ظالمه، بينما تتقلب العيون في المحاجر بحثاً عن ملاذ. السد تحطم والليل جاء بالفعل في اليمن والملاذ لا يزال أبعد من الأدوات التي توثق اليوم بغرض استجداء إغاثة أكثر آنية بكثير من الحرب.
العظام التي تغادر الجلد الهش في تهامة، مجاعة اليمن الأفدح، ورائحة الجثث التي لا تزال تُنتشل بعد القصف الجوي للقاعة الكبرى في صنعاء قبل أسبوعين ونيّف، وأكياس الجثث التي يتم تقصيرها لتلائم أجساد الأطفال الذين قتلتهم الميليشيات في تعز، والكوليرا التي تسلب أرواح الناجين من قيظ عدن التي يعيش سكانها بدون كهرباء منذ أشهر، والمعاشات الشهرية التي انقطعت عن كل موظفي وموظفات القطاع الحكومي في كل اليمن ليصبح العراء هو المشترك الأوحد بعد أن مزق أمراء حرب الخارج والداخل آخر صلات القربى.. كل ذلك هو السد الذي تحطم، وهو الليل الذي لم يتبقَ ما يمكن أن نُهرّبهُ من قبضته. حتى الذاكرة الشفهية تُنهب بخفة احترافية ليصبح كل ذلك في أفضل الحالات وثيقة مكتوبة أو مصورة لاستجداء الإغاثة التي تَنفذ قبل أن يغادر واهبها.
أدوات توثيق "الحدث" "بدقة" لا تلائمنا ولا تتسع لاستيعاب حطام السد أو الليل لأنها لا تتسع لمن يقبع في فكيهما. اليوم توجه الديبلوماسية الدولية، وهي أضعف الإيمان مقابل الطائرات والدبابات وجهها صوب اليمن إبان الهدنة التي لا أريد أن أتذكر رقمها، وأكبر ما يمكن تحقيقه على الأرض هو ما ذكرته لي إحدى موظفات الإغاثة قبل أسبوع: "نطمح إلى تزويد الشعب اليمني بالإغاثة التي يحتاجها للتأقلم مع الحرب". في حين تقف الرساميل بدباباتها وطائراتها وحصارها ضدنا. أكثر ما يستطيع من "يقف معنا" تقديمه هو أن يعيننا على التأقلم مع الحرب ليقتلنا مرتين بسلب أي سياق آخر يمكن أن نعيش فيه سوى الحرب، وكأنها القدر المحتوم الذي أقصى ما يمكن أن يُبذلَ تجاهه هو التأقلم، الذي هو بدوره حرب ممنهجة تحول بيننا وبين أي سد يمكن أن نبنيه ليحول بيننا وهذا الموت الحتمي ولو للحظة ليصبح قدرنا الليل.. ليلٌ على مد البصر. في سياق يفرض قسريته بهذه الفجاجة، لا يسعني سوى أن أوجه وجهي صوب الأداة التي لا تطوعنا بل نطوعها نحن منذ الأزل: الإيقاع الذي يحمي ذاكرتنا الشفهية التي تعرف جيداً أن التطبيع مع الحرب هو في حد ذاته حرب ممنهجة تسلب منا أسماء قتلانا الذين فشلوا في "التأقلم":
عندما ينكسر الحاجز، ماما، يجب أن ننتقل
جلستُ طوال الليلة الماضية على الحاجز أئن
جلست طوال الليلة الماضية على الحاجز أئن
أفكر بطفلي وبيتي السعيد