اعتاد كثير من اليمنيين المقيمين في القرى والمناطق الجبلية والأودية على مصادفة الثعابين، وغالباً ما يكون القضاء عليها هو ردة فعلهم المباشرة. لكنهم يتجنبون ذلك مع نوع خاص من الأفاعي، يتميز بضخامة حجمه وتقادُم عمره وسواد لونه. فضلاً عن أن الجهة التي يتكرر خروجه منها وعودته إليها، لا تكون في الغالب إلّا مناطق مهجورة، تتكوّم فيها آثار ديار قديمة، كما تتشابك فيها أنواع من النباتات الشوكية والحرجية. وهذه المناطق ـــ في أنساق الخرافة الشائعة المتقادمة في الثقافة الشعبية اليمنية خاصة، والثقافة الشعبية الإنسانية على وجه عام ـــ مناطق كنوز مدفونة، تحرسها كائنات الجن، التي تتمثّل في هيئة هذه النوعية من الأفاعي، والقضاء عليها مجازفة عواقب وخيمة، أقسى احتمالاتها الموت، وأقلها الجنون.
منشأ تاريخي
المنشأ الأول الذي نبتت فيه هذه الخرافة تاريخي، عائد إلى مجتمعات العصور القديمة التي ظهرت فيها ممارسة دفن الأموال والمقتنيات المتنوعة: ذهباً وفضة، وأحجاراً كريمة، وأواني فخارية يُستخدم بعضٌ منها وعاءً للمملوكات الثمينة.
انقسمت هذه الممارسة منذ القدم على صيغتين، الأولى خاصة بدفن الموتى مع أموالهم أو مع بعض منها. والثانية متعلقة بما يتخذه الفرد من إجراءات الحماية لأمواله في ظروف الحرب، إذ يلجأ إلى دفنها، على أمل العودة إليها بعد زوال المخاطر. وفي هذه الحال تُشكِّل العلامات والأشكال الخاصة ـــ المحفورة على النتوءات الصخرية التي يقع في محيطها مكان الكنوز المدفونة ـــ إشاراتٍ مهمة، بها سيهتدي أصحابها إلى كنوزهم. ولأن كثيراً منهم هلكوا، فقد اهتدت بهذه العلامات إلى الكنوز ذاتها أجيالٌ متعاقبة بعدهم.
مع توالي أخبار العثور على الكنوز المدفونة، نشأت خرافة حراس الكنوز، إذ عمل السحرة والمشعوذون على ترسيخها في الاعتقاد الشعبي ليعززوا بها مكانتهم الاجتماعية بوصفهم ذوي قدراتٍ خارقة، في مستطاعهم مشاهدة الكائنات اللّامرئية والتفاوض معها. ومقابل دورهم هذا يأخذون أجرتهم من الراغبين في الكنوز المدفونة، كما يلزمونهم بتنفيذ الشروط والوفاء بالطلبات التي يصلون إليها في تفاوضهم مع الجن.
وبمعية هذا الدور المحوري لذوي القدرات الخارقة، عملت سلطات بعض البلدان ذات التراث الأثري على تعزيز هذه الخرافة في ذهنيات مجتمعاتها، محاوِلةً بذلك الحدّ من تدمير تراثها الحضاري الذي تفضي إليه عمليات الاندفاع الشعبي بحثاً عن الكنوز.
تفاوضٌ وقرابين
لعملية التفاوض مع الكائنات اللامرئية طقوسها الخاصة، التي لا يجيدها إلّا من يزعمون امتلاكهم مهارة هذا النوع من الحوار، كما يغلب عليها أن تكون في حَيِّزٍ مقصور عليهم وحدهم، ولعل من أبرز تفاصيلها قيامهم بإحراق البخور فيها وترديد بعض الجمل الغامضة.
انقسمت ممارسة دفن الكنوز منذ القدم الى صيغتين، الأولى خاصة بدفن الموتى مع أموالهم، والثانية متعلقة بإجراءات الحماية للأموال في ظروف الحرب. وتُشكِّل علامات وأشكال خاصة محفورة على نتوءات صخرية إشاراتٍ مهمة، بها سيهتدي أصحابها إلى مكان كنوزهم المدفونة. ولأن كثيراً منهم هلكوا، فقد اهتدت بهذه العلامات إلى الكنوز ذاتها أجيالٌ متعاقبة بعدهم.
يعود هؤلاء من طقوسهم التفاوضية بجملة من الشروط والطلبات الخاصة بحراس الكنوز، أهمها تقديم القرابين التي تختلف باختلاف تقديرات الكنز، فمِن الكنوز ما يتناسب مع تقديراته ذبْحُ قربانٍ حيوانيٍّ قد يكون ثوراً أو خروفاً. ومنها ما تكون تقديراته عالية القيمة، وقربانُه واحد من أقارب الراغب فيه، يغلب أن يكون أحب أولاده إليه، وما عليه سوى القبول بالشرط، وسيتكفل حراس الكنوز بتنفيذه، وفقاً لما يسنّه عالمهم من طرائق خاصة بأخذ هذا القربان البشري التي لا يدل عليها سوى موت الشخص المحدَّد قرباناً لهم. وتكمن في اشتراط القربان البشري، إحالةٌ على عدم تنفيذه، أو ندرة التنفيذ في أسوأ الأحوال. ذلك أن التراجع عن الرغبة في الكنز المدفون هو ما تصل إليه سياقات هذه الرغبة. كما ان لهذه الإحالة حضورها المتوارَث في مقولات متداولة، عن كنوز محدّدة في أماكن بعينها، مشروطٌ الحصول عليها بتقديم قربانٍ بشري.
أحلام الكنوز
ترتبط الرغبة في الكنز بنوعٍ من تصديق الأحلام التي يدور موضوعها حول الكنوز المدفونة. كأن يرى مثلاً شخصٌ ما في منامه كائناً ذا ملامح متمازجة بين هيئة بشرية وبين شفافية طيفية، يتلقّى منه بُشْرى استحقاقه أموالاً مدفونة في مكان ما. قد تقتصر هذه البشرى على دلالة استحقاق الكنز ومكانه، وقد تتّسع فتتضمّن بعضاً من تفاصيل الكنز، واشتراطات حُرّاسه، والإجراءات التي يجب اتّخاذها للوصول إليه وحيازته.
ومن خلال وضْع أحلام الكنوز في سياقها من منهجيات تأويل الأحلام ـــ وفقاً لأبرز آلِيَّتَين من آليّاتها: (التأويل البَعْدِي/ والتأويل القبْلي) ـــ يتّضح أن أبرز ما سيتجلى من آلية "التأويل البَعْدي" هو ما نجده في رؤية ابن سيرين، التي تربط بين أحلام الكنوز وبين حياة أصحابها القادمة، حيث يُفسّر فيها حلم الكنز وفقاً لما ورد عليه من تفاصيل في الرؤيا. كما تفتح هذه الرؤية التفسير ذاته على صور رمزية مأهولة لاستيعاب جوهر الحلم في سياقه الإيجابي العام، من أبرز مظاهر هذا السياق وُفْرة الرزق والحياة السعيدة.
تكمن في اشتراط القربان البشري من قبل وسيط يُفاوض مع الجن الحارس للكنز، إحالةٌ على عدم تنفيذه، أو ندرة التنفيذ في أسوأ الأحوال. ذلك أن التراجع عن الرغبة في الكنز المدفون هو ما تصل إليه هذه الاشتراطات. كما ان لهذه الإحالة حضورها المتوارَث في مقولات متداولة عن كنوز محدّدة في أماكن بعينها، مشروطٌ الحصول عليها بتقديم قربانٍ بشري.
أمّا آلية "التأويل القبْلي" لأحلام الكنوز، فسنجد ما يعاضدها في رؤية رائد التحليل النفسي سيجموند فرويد، التي تربط بين أحلام الشخص وبين متغيرات سابقة لها في حياته النهارية. وعلى ضوء هذه الرؤية، فإن الحلم بالكنز ليس سوى صورة رمزية لرغبات صاحبه في ما يفتقر إليه من احتياجات حياته القائمة، كما يدخل في تشكيل هذه الصورة محيطُه الإنساني والجغرافي الذي يعيش فيه.
تزوير وتكفير الآثار اليمنية!
04-11-2021
وعلى ما في رؤية التأويل القبْلي من إمكانات إسقاطها على واقع المجتمع اليمني ومحيطه ـــ الذي تنتشر فيه حكايات استخراج الكنوز، كما تتردد فيه الأخبار عن العبث بآثاره الحضارية وعصابات سرقتها وتهريبها ـــ إلّا أن الرؤية التأويليّة البَعْدية هي الأكثر فاعلية في تعاطي اليمنيين مع رؤيا الكنوز، إذ يبحث الحالم بالكنز عن شخص من ذوي القدرات الخارقة ليأخذ بيده إلى ما يلوح له من خير في استشرافها المستقبلي.
كنوز الذهب الخالص
يحيل مفهوم "الكنز" في الثقافة الشعبية في اليمن على سبائك الذهب، أكثر من إحالته على الآثار الحضارية. لذلك فإن المحكية اليمنية تصطلح عليه ب"المال"، لا "الكنز". وتحت وطأة الفقر الذي يُعدّ واحداً من أقسى تداعيات الحرب الكارثية في اليمن، "اتجه مواطنون كثر نحو الجبال ومجاري سيول الأمطار بحثاً عن الذهب المكتنز في صخورها وترابها" (1)، سيما المناطق التي تتواجد فيها قبور قديمة أو أضرحة مهجورة. والأمر ذاته، في الاتجاه الذي ظهر على صورة غير معهودة، متمثِّلة فيما قام به بعض المقيمين في مدينة صنعاء القديمة، من عمليات حفْرٍ لأرضيات منازلهم أو أرضيات دكاكينهم بحثاً عن "الأموال/ الكنوز"، وفقاً لما ورد في تصريح صحافي على لسان رئيس الهيئة العامة للآثار والمتاحف بصنعاء (2).
"المُسَفِّلة": بريد المقابر في اليمن
17-08-2023
ويُلاحَظ على هذه المظاهر الحديثة من عمليات البحث عن الكنوز في اليمن أنها لم تعُد مقصورةً على عصابات سرقة الآثار وتهريبها، وإنما اتّسعت فشملت مواطنين عاديين، قادتهم ظروفهم الاقتصادية الصعبة إلى البحث عن أبواب رزق جديدة.
كما يُلاحظ على هذه المظاهر، من جهةٍ أخرى، نوعٌ من التحول الثقافي المتعاطي مع خرافة حراس الكنوز ورصد الجن، حدّ من فاعليتها ونال من مستوى الاهتمام بها...
1 - لطف الصراري، "الباحثون عن ذهب الملك سليمان في اليمن "الفقير""، "السفير العربي"، 5 أيار/ مايو 2022.
2 - أحمد الأغبري، "صنعاء .. أنفاق سرّية يحفرها لصوص الكنوز و"أحلام المُدن المدفونة" تهدد بانهيار المدينة القديمة"، صحيفة "القدس العربي"، 1 نيسان/ أبريل 2017.