حركة الاستثمارات الخارجية في سوريا كانت قبل الحرب تتجه بأغلبها للعقارات بأموال خليجية، أما الاستثمارات الأجنبية فتركزت في النفط والغاز. وكل هذا تقلص تماماً الآن. ومع ارتفاع الدين الخارجي، تحاول الحكومة التفاوض لسداد المديونيّة بمنح استثمارات وامتيازات حصريّة فيما يستمر انهيار اقتصاد البلاد..
حتى أواخر عام 2011
تملّصَت رؤوس الأموال السوريّة من المكوث داخل عناوين الحرب الطويلة، إذ غادر قرابة 22 مليار دولار منها إلى خارج البلاد خلال السنوات الماضية. والتقديرات الأوليّة تشير إلى مغادرة نحو 60 في المئة من أصحاب الفعاليات الاقتصادية والتجارية إلى تركيا والعراق ومصر بصورةٍ أساسيّة. لقد استقدم النزاع العسكري بعد عامه الأول انكماشاً اقتصادياً قارب 40 في المئة، وخلال عامٍ واحدٍ فقط، ظهرت صورةٌ اقتصاديّة متزعزة لبلدٍ ركبت مكوناتهُ جميعها موجة الحرب، حتى إنّ الدول المحسوبة على النظام السوري استشعرت القلق، وضاعت الوقائع وقتذاك بين تصريحاتٍ متضاربة، حين نفت شركة "تات نفط" الروسية تجميد نشاطها داخل منطقة "البوكمال" التابعة لمحافظة دير الزور السوريّة في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2011. وفي الشهر عينه، شرعت شركة "أو أن جي سي فيديش" الهندية التي تملك حصة استثمارية في مشروع الفرات النفطي دراسة استيراد النّفط الخام السوري بعدما قررت الحكومة خفض إنتاج تلك الحقول بنسبة 17 في المئة. ثمّ ظهرت آثار الصفعة التي لطمت وجه قطاع النفط السوري إثرَ العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي ابتداءً من أواخر عام 2011، والتي طالت شركة "سترول" لتجارة النفط العائدة بملكيتها إلى الدولة السورية، والشركة السورية للنفط التي تعمل كشريك إلى جانب مجموعة "توتال" النفطيّة الفرنسية ضمن صيغةٍ من المناصفة في أحد أكبر مشروعات استثمار النفط في البلاد.
قبل ذلك بشهرين جذب قطاع الاستثمار النفطي في سوريا اهتمام "شركة المسعود للتوريدات والخدمات البترولية" الإماراتية التي تنشط في تقديم خدمات تخصّ حقول النفط ومنشآت النفط والغاز البريّة والبحريّة، حيث افتتحت فرعاً لها في دمشق برأسمال بلغ 6 ملايين درهم إماراتي. وعيّنت الشركة غسّان بدر الدين الشلّاح مديراً عاماً لفرعها السوري، وهو شقيق راتب الشلاح أحد أهم الشخصيات المالية والاستثمارية في سوريا. وتبعت كذلك استثمارات البريطانيين بوصلة النفط في سوريا، إذ إنّ أبرز تلك التوظيفات الاستثماريّة قائمة في شركة "غلف ساندز بتروليوم" وشركة "شيل - سوريا" لتنمية النفط.
حتى نهاية 2010 كانت أغلب الاستثمارات العربية في سوريا خليجية، وبلغت 250 مليار دولار، وتركزت على العقارات فكانت معفاة من الضرائب
وفي منتصف عام 2011 تحمّست شركة "أي سي بي" الروسيّة المتخصصة في تنفيذ مشروعات البنى التحتيّة للاستثمار داخل سوريا، وفي شهر شباط / فبراير من العام نفسه أعلن مدير شركة "إنتر راو" الروسيّة للطاقة نيّته إنشاء شركة مشتركة مع السوريين لتوليد الطاقة الكهربائية. ومطلع عام 2011 أنشأت شركة "التجمعات الاستثمارية المتخصصة" الأردنيّة أول مدينة صناعية خاصة في دمشق بكلفة 200 مليون دولار. وفي الشهر نفسه تمَّ وضع حجر الأساس لمعمل "غوريش" التركي في الرقة لإنتاج وصناعة الإسمنت بطاقة إنتاجية تمّ تقديرها بنحو 1.5 مليون طن سنوياً، وهو أكبر استثمار تركي داخل سوريا على الإطلاق.
خلال الحرب
تقلّصَ حجم الاستثمارات الخارجية خلال سنوات الحرب، وهذا معطى طبيعي يحاكي المبدأ البراغماتي الشهير "رأس المال جبان"، إذ لم يتجاوز عدد المشاريع الاستثمارية التي حصلت على الموافقة الأوليّة في عام 2012 سوى 48 مشروعاً، و49 مشروعاً فقط في عام 2013 وفق التقارير الصادرة عن هيئة الاستثمار السوريّة.
الاستثمارات الأجنبيّة في سوريا تركّزت في قطاع النفط والغاز أكثر من سواه، مثلما تركّزت الاستثمارات الخليجية في قطاع العقارات. ويوضح تقرير أعدّته هيئة الاستثمار السوريّة في شهر آذار/ مارس عام 2014 أنّ حجم الاستثمارات الأجنبية في سوريا وصل إلى نحو 77 مليار ليرة عام 2010، وهذا يعادل 1.5 مليون دولار حين كان سعر صرف الدولار يساوي 50 ليرة، بحيث شكّل الاستثمار في قطاع النفط والغاز أكثر من ثلثي إجمالي تلك الاستثمارات، كما تعود الحصّة الاستثماريّة الكبرى إلى دول الاتحاد الأوروبي، وهذه تشكّل ثلاثة أرباع إجمالي حجم الاستثمارات الأجنبية في البلاد.
لقد لمّعت السلطة السوريّة كثيراً نموذج الاستثمار العقاريّ، وأصرّت عليه منذ أقحمت قوانين السوق في تركيبة اقتصادها التأشيري المعلول، ولعلّها رأت فيه عائديّة مرتفعة للتوظيف الاستثماري، وتدويراً سريعاً للكتلة النقديّة، وإرضاءً آمناً للأطراف المحليّة التي تدخل في المحاصصة الاستثمارية، وبالتالي في المحاصصة الربحيّة، إذ يحجز بعض المتنفّذين في السلطة مكاناً لهم في تلك المشاريع، يضمنون لها تشميلاً سريعاً بالموافقات الرسميّة، حيث جرى منح التراخيص النهائيّة لنحو 35 شركة للتطوير العقاري خلال عام 2011، بإجمالي رأس مال بلغ 2.5 مليار ليرة، وكانت حصّة رأس المال الأجنبي منها حوالى الربع تقريباً، ثم ظهرت أجندة الاستثمار العقاري مجدداً في شهر شباط/ فبراير 2012 حين تمّ الاتفاق على الإطار التنفيذي لمشروع جول جمال السياحي على شاطئ اللاذقية مع شركة "سينارا" الروسية بكلفة 3 مليارات ليرة.
البقاء، معضلةُ التكيّف الاستثماري
تحالفت ضد الاقتصاد السوري طيلة السنوات الماضية سلسلة من الخسائر الموجعة بسبب الحرب مع إدارة اقتصاديّة غير مبالية، ما جعل خسائره تقارب 202 مليار دولار في عام 2014 وفق ما ذكره تقرير صادر عن "المركز السوري لبحوث السياسات" المدعوم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووكالة الأونروا. كذلك ارتفع حجم الدين الخارجي من 7.5 مليارات دولار عام 2011 إلى أكثر من 11 مليار دولار في نهاية عام 2014، أغلبه كان لإيران وروسيا، ما جعل الاقتصاد السوري وفق محددات مديونيّته الخارجيّة مرتهناً للدول المموّلة لعجزه الداخليّ. وغالباً ما يتم التفاوض لسداد قيمة تلك المديونيّة بمنح استثمارات وامتيازات حصريّة، وهذا لمحناه حين حصلت شركة "سيوز نفط" الروسية في شهر أيار/ مايو عام 2014 على عقد للتنقيب عن النفط في الساحل السوري بكلفة تقديرية بلغت 100 مليون دولار. قبل هذا في تموز/ يوليو 2013، موّلت إيران خطاً ائتمانياً للحكومة السورية بقيمة 3.6 مليارات دولار، جاء بعد قرضين بقيمة 4 مليارات دولار، وهذا زاد من التبعيّة والانصياع لأنظمة السداد البديلة التي تقترحها تلك الدول على النظام السوري، والتي تصل أحياناً إلى حدّ تقديم الرهونات العقاريّة التي تعود ملكيتها للدولة كضماناتٍ ائتمانيّة.
يتم التفاوض لسداد قيمة المديونيّة الخارجية بمنح استثمارات وامتيازات حصريّة: شركة "سيوز نفط" الروسية حصلت في 2014 على عقد للتنقيب عن النفط في الساحل السوري
وبعدما تهجّر أكثر من ثلثي السكان البالغ تعدادهم 23 مليوناً، وصار نصفهم فقراء، وتعطّلت نصف قوّة العمل، كفّت الاستثمارات الخارجية عن التفكير بسوريا وفقَ منطق مكونات السوق التقليديّة، التي تحسب على أساس تعداد السكّان والقوة الشرائية لمتوسط دخولهم، وقيمة عملتهم المحلية، ونسبة التضخم، وسوى ذلك. لقد صارت الاستثمارات الخارجية مقيّدة إلى طاولة "بوكر" تناشد رهاناتٍ تخصُّ مستقبلاً غامضاً: فإمّا أن تكون الغنيمة كاملةً، أو أن تكون الخسارة مطلقة. وربما هذا ما دفع "هواوي"، الشركة الصينيّة العملاقة في إنتاج معدّات الاتصالات السلكية واللاسلكية، إلى إبرام اتفاق مع السلطة السوريّة لتصميم مشروع حمل اسم "الاستراتيجية الوطنية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات"، ضمن مجموعة من الاتفاقيات تستمر حتى عام 2020.
خلال السنوات الماضيّة تحقق استنزاف البلاد من الداخل ومن الخارج أيضاً، وفق منهجيّة متقنة، صاغتها القوى العالمية والإقليميّة والسلطة القائمة على أساس النقاط المشتركة لتقاطع المصالح المعلنة وغير المعلنة. وهذا ما لن يكون للسوريين طاقة على دفع كلفته..