“المفكرة” في مخيّم عين الحلوة الرهينة: مخاوف من نهر بارد جديد

يمتدّ المخيم على مساحة كيلومتر مربع، يسكنه نحو 70 ألف نسمة غالبيتهم العظمى من الفلسطينيين، ويقال إنّه المخيم “الأصفى” فلسطينيًا، خصوصًا بعد الذي حلّ بمخيّم نهر البارد وصبرا وشاتيلا. وبمجرّد أن تأتي على ذكر نهر البارد حتى يلتفت من حولك وفي عينيه ألف سؤال: معقول عم يتدبّر لنا نهر بارد تاني؟
2023-09-28

شارك
مخيم "عين الحلوة"، لبنان.

يجلس رجل سبعيني على حجر في أحد زواريب حي الراس الأحمر في مخيّم عين الحلوة، وتحديدًا على طرف الساحة الصغيرة التي كان يتجمّع فيها شبّان لجان أحياء المخيم يتشاورون في كيفية مساعدة الناس المنكوبة، يسند وجهه بيديه فيما عيناه مغرورقتان بالدموع.

ناس بعضهم فرّوا من نيران تقاتل الأخوة، فيما علق آخرون وسط سقوط القذائف والغزارة النارية غير المشهودة في جولات سابقة اختبرها المخيم منذ أواخر الثمانينيات، وأوائل التسعينيات، بوتيرة مختلفة في كل مرّة عن الأخرى. لكن الجولتين الأخيرتين منذ 29 تموز 2023 ولغاية 14 أيلول يوم إعلان وقف إطلاق النار الأخير الذي ما زال ساريًا حتى الساعة، هما الأقسى والأكثر تدميرًا، طبعًا بعد جرف المخيّم في الاجتياح الإسرائيلي في 1982.

جولتان خاضتهما حركة فتح و”الشباب المسلم”، وخلّفتا 18 قتيلًا بينهم 5 من المدنيين في المخيّم ومدني واحد من صيدا حتى الآن، وسط رعب الأهالي من تجدّد الاشتباكات كما حصل إثر هدنة وقف النار بعد جولة 29 تموز والتي سقطت مع تفجّر الجولة الثانية في 7 أيلول الجاري. صيدا نفسها وصلها الرصاص وذخيرة المعارك ونال من أمنها واستقرارها، وسقطت فيها ضحية وعدد من الجرحى، فأقفلت معظم الإدارات والمحلات أبوابها ومن بينها المستشفى الحكومي في المدينة، وعاش أهلها، في خضم المعارك، منع تجوّل حقيقيًا.

نقترب من الرجل السبعيني فنجد يديه ترتجفان وعينيه تغرقان في وجهه فيما الأسى يخيّم على محيّاه، يرفض التعريف عن نفسه “ما مهم شو إسمي، ما مهم مين أنا، بهدلونا وذلّونا وخسّرونا حتى المخيم لي كان ساترنا، ما بدي إحكي شي”.

يرفض الرجل المفجوع الذي دُمّر منزله في الراس الأحمر، مغادرة المخيم “عم ينام بالشارع أوقات، ما بيقبل ياخدوه أقاربه ينام عندهم”، يقول أحد الشبّان الذي حمل إليه بعض الماء ورغيف خبز مع مثلث جبنة معلّبة. الرجل السبعيني نفسه بكى أمس بمرارة حين أحضر شاب من عين الحلوة فرّوجيْن مشوييْن من خارج المخيم، بعدما وجد كثيرين يعانون من الجوع في الراس الأحمر، فيما يسدّ البعض الآخر رمقه بما “يتصدّق” به عليه المتقاتلون من المعلّبات. تهافت على الفرّوجين نحو “خمسين شخصًا، يعني كل واحد يمكن أكل لقمة”، يقول الشاب نفسه.

حين سمع الرجل السبعيني، أبو أحمد، كما قيل لنا لقبه لاحقًا، إعادة رواية قصة الفرّوجين، خرج عن صمته بصوت مرتجف ومتهدّج وحزين بل مفجوع: “هيدا مش مخيّم عين الحلوة، هيدا ساحة معركة”، وقال كمن يُحدّث نفسه: “عين الحلوة قاتل الإسرائليين في اجتياح 1982. يومها احتُلّت بيروت قبل شهر من تمكّنهم من جرف المخيم بعد حصار أشهر طويلة. عين الحلوة عاصمة الشتات، عين الحلوة رمز البندقية المقاومة التي قضى عليها التقاتل الداخلي، وعين الحلوة كانت محطتنا للعودة، هلأ صارت عين المهزلة، لم تعد حلوة، كنت أرفع راسي بس قول أنا من عين الحلوة، هلأ بوطّيه وبخجل”. ودموعه تتدحرج لتملأ خدوده، يعجز الرجل عن السيطرة على يده ليمدّها ويمسح بها وجنتيه.

عين الحلوة من الداخل: أثرٌ بعد عين

من يعرف عين الحلوة سيُفجع كما الرجل السبعيني. يمتدّ المخيم على مساحة كيلومتر مربع، يسكنه نحو 70 ألف نسمة غالبيتهم العظمى من الفلسطينيين، ويقال إنّه المخيم “الأصفى” فلسطينيًا، خصوصًا بعد الذي حلّ بمخيّم نهر البارد وصبرا وشاتيلا. وبمجرّد أن تأتي على ذكر نهر البارد حتى يلتفت من حولك وفي عينيه ألف سؤال: معقول عم يتدبّر لنا نهر بارد تاني؟

وعين الحلوة مفتوح على صيدا، رغم الجدار الذي بنتْه السلطة اللبنانية لحجبه عن عاصمة الجنوب، جدار رغبتْ السلطة في تسميته جدار الحماية ولكن ذلك لم يخفّف من قسوته، رغم الرسوم الملوّنة والغرافيتي التي خطّها عليه أطفال المدارس والمراهقون. والمخيّم كان سوق صيدا وبعض الجنوب بأسعار تجّاره المتواضعة. وعلاقة صيدا وعين الحلوة معزّزة بالمصاهرة المتبادلة حتى أنّ لهجة الصيداويين مطعّمة بفلسطين ورنّة لهجتها المحكية. وعين الحلوة مضياف، فتح أهله بيوتهم لأخوتهم من الفلسطينيين السوريين منذ 2011 ولغاية اليوم، فيما يلجأ إليه بعض فقراء لبنان للسكن بالإيجار في شقق هاجر بعض أهلها أو هجّرهم الفقر أو الاقتتال المتواتر على مرّ أكثر من ثلاثين عامًا. والأهم أنّ عين الحلوة مخيّم حيّ، يعجّ بالناس الكادحة وراء لقمة عيش صعبة في ظلّ التضييق على حق الفلسطينيين في العمل في مهن كثيرة، وفي ظلّ وصمة وصفه “خزّان” الخارجين على القانون أو المطلوبين وبعض من هؤلاء مطلوب بتهمة إطلاق نار في الهواء ولكنه لا يجرؤ على تسليم نفسه خوفًا من تقارير أمنية افترائية وانتقامية في بعض الأحيان في ظلّ تداخل أجهزة المخابرات وكذلك تصارع الفصائل التي تلامس العشرين فصيلًا فلسطينيًا، وهي فصائل تتقاسم أحياءه والسيطرة عليها.

كنتِ تسيرين في عين الحلوة وسط الباعة المتجوّلين وبين نحو مائتي صبّاب قهوة يخدمون الجالسين على ناصية طرقاته خارجين من ضيق زواريب أحيائه ورطوبتها التي لا تصلها الشمس، ولا يتجاوز بعضها المتر عرضًا. ولعين الحلوة سوق خضار مسقوف أخرج باعته فاكهتهم وخضارهم إلى حوافيه ينادون عليها بأسعارها المكسروة، تاركين المحلات لتجّار السلع على أنواعها. وكنتِ إن حللتِ في عين الحلوة لا يمكنكِ مقاومة إغراء شراء الفساتين التي طرّزتها نساؤه بالقطبة الفلسطينية ومعها أغطية الرأس والشالات والجزادين الصغيرة والكبيرة.

كل ذلك أصبح اليوم أثرًا بعد عين، ليحلّ محلّه الخوف والتهجير والمذلّة حيث ينام بعض من هُجّروا من المخيم على فرش إسفنجية على أرصفة عبرا أو في حدائق صيدا وفسحاتها القليلة أصلًا، فيما حركة 60 آلية “بيك آب” لا تهدأ لنقل أثاث من صمدوا أو تركوا كل شيء وفرّوا حفاة لينجوا بأطفالهم من القذائف التي تهطل عليهم من كلّ حدب وصوب “كل بيك آب بينقل تلات بيوت على الأقل كل يوم”، يقول الصاروخ، كما يناديه أهل المخيم، الذي يملك وحده مع أخوته ثلاث آليات بيك آب تشهد عزّ الشغل حاليًا.

ومع زحمة نقل الأثاث للإفادة من وقف إطلاق نار غير موثوقة، يعيش المخيّم مأساته: تتكدّس النفايات في الشوارع كما في الزواريب الضيّقة وحتى على أبواب المنازل وخصوصًا المهجورة منها، فيما كان يعمل أحد المتعهّدين على تفريغ مكبّات النفايات التي تجمّعت بالأطنان، بتكليف من الأونروا التي أوقفت خدماتها إلى حين تبليغها بانتهاء الاشتباكات وليس بهدنة هشة من هنا ومن هناك. وعلا في المخيم الدخان الناتج عن قيام بعض الأحياء بإحراق أكوام النفايات لتجنب ضررها الكبير وروائحها، وبين النفايات ومن حولها يتنقل الذباب والبعوض في رفوف يدخل بعضها البيوت مع الروائح الكريهة، فيما انفجرت مجارير المياه الآسنة لتسيل سواقي في الطرقات، تزامنا مع انقطاع المياه التي اخترق الرصاص خزاناتها ولم تعد صالحة. أما الكهرباء فإن حنّتْ بها شركة كهرباء لبنان فالأسلاك مقطوعة لتحول ليل عين الحلوة إلى رعب حقيقي ونهاراتها إلى جهنم يفتقر فيها الناس لنقطة ماء باردة وسط استحالة تبريد الأطعمة للحفاظ عليها. انهيار يحاول شبان لجان الأحياء في المخيم معالجة بعض ذيوله ونتائجه الكارثية على المجتمع الصامد بإمكانيات معدومة قوامها التطوّع والتبرّع.

خريطة الدمار في المخيّم

ومع تهجّر عدد كبير من المخيم أو من بعض أحيائه (لا توجد أرقام رسمية بشأنهم إنّما تصل أعداد النازحين خارج المخيم بأقلّ تقدير إلى 10 آلاف فيما يصل مجموع النازحين من بيوتهم داخل وخارج المخيم وفق العديد من التقديرات إلى 25 ألف نسمة)، فتح البعض محلّاتهم ومعهم السوق المقبي (المسقوف) بينما بقيت الحركة خفيفة جدًا، لا تشبه نهارات المخيّم المزدحم. وانشغل الصامدون ومعهم بعض العائدين مؤقتًا في تفقّد الأحياء التي يمكن ارتيادها، وطبعًا حسب الجهة التي يُحتسب عليها البعض: هنا قذيفة قتلت رجلًا في منتصف الطريق، هنا رصاص نخر مبنى بأكمله، هنا لَنشر (وهي قنبلة أصغر من قنبلة آر بي جي) سقطت في سقف منزل عائلة. أما المنازل المدمّرة فلا يمكن إحصاؤها حيث هناك مبان كثيرة مدمّرة كليًا أو جزئيًا. لكن الأغلب يتحدّث عن مئات الوحدات سكنية المتضرّرة بدرجات متفاوتة منها 300 على الأقل بشكل كبير.

وتؤكد جولتنا في المخيم أنّ الدمار الأكبر نال من حيّ حطّين الذي يسيطر عليه “الشباب المسلم” ويشرف عليه جغرافيًا جبل الحليب، معقل “فتح”، مما جعله هدفًا سهلًا لكلّ تلك الغزارة بالذخيرة والقصف وهي غير مسبوقة كما يجمع سكان المخيم. بعد حطّين، نال الدمار من حيّ التعمير الذي يتمركز في أجزاء منه “الشباب المسلم”. ويمتدّ التعمير من حدود حي أوزو (فتح) ولغاية جامع الموصلي على حافة المخيم من ناحية صيدا، وهي نقطة تجمّع للهاربين من النيران قبل توزّعهم على صيدا وخارجها. وبعد أحياء حطّين والتعمير والراس الأحمر، نالت الأضرار من حي البراكسات، وهو حي تسيطر عليه “فتح”، ولكن ليس بنفس نسبة دمار الأحياء السالفة.

بقية التقرير على موقع "المفكرة القانونية". 

مقالات من العالم العربي

رحلة البحث عن رغيف

كُل صباح في الأيام الماضية، حينما أجوب الشوارع، لا أجدني سوى باحث عن الخُبز، وأنا حقيقةً لا أستوعب إلى الآن أن الحال وصلت بي - كما وصلت بكُل الناس- إلى...

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...